هل بقي عقل ليشقى الإنسان به، كما اعتادت العرب أن تقول؟ وكيف بإمكاننا أن نستخدم المنطق في عالم يبدو أنه فقد المنطق؟ هل ما زلنا قادرين على قراءة الأسباب ونتائجها وآثارها، ومالكين أدوات البحث والاستقصاء والتنقيب، والقدرة على ممارسة الجدل الفكري والمعرفي؟ ليس فقط هنا، في هذه المنطقة العربية الكالحة، وإنما حتى في بلدان تقدم فيها العقل والاستنباط والتحليل منذ حقب طويلة، بعدما تعثرت طويلاً، ودفعت ثمناً باهظاً، وسال منها دم كثير على طريق التاريخ المتعرج المليء بالحفر المهلكة؟ ألهذا السبب نشهد تراجعاً كبيراً في حضور أهل المعرفة والحكمة؟ وفي خفوت أصوات الفكر والفلسفة حتى في بلدان التنوير نفسها، مقابل ارتفاع أصوات الجهل والتضليل والحماقة والصراخ الذي يصم الآذان؟
كأن عالمنا الآن قد تحول إلى مسرح شكسبيري يتبختر فوقه ممثلون معتوهون، يسمعهم هذه المرة ملايين الناس، وهم يروون، أو يؤلفون حكاية ملؤها الصخب والعنف، ولا تعني أي شيء... أي عالم حيرة وألغاز نعيش؟
ها نحن لا نعرف ماذا نفعل بأحوالنا، ونبدو مشلولي اليد واللسان في أكثر من مكان في الأرض، التي يبدو أنها، وربما للمرة الأولى في تاريخها، عاجزة عن الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها على نفسها، على الضد تماماً من قرون التنوير منذ القرن السابع عشر حتى القرن العشرين، التي تميزت بنضال فكري وحضاري ضار نقل البشر من طور ما قبل التاريخ إلى طور التاريخ، الذي كان يسميه ماركس التاريخ الحقيقي، تاريخ الإنسان.
ولكننا نرى التاريخ الآن يستدير استدارة كبرى، وبسرعة كبرى، وكأنه يعود من حيث انطلق، فنجد أنفسنا أمام شبحين هائلين، إذا استعرنا شكسبير مرة أخرى، هما شبحا التطرف والشعبوية، يجولان في ليل العالم بعدما تصورنا أنهما قد تلاشيا مع أضواء التنوير في أكثر من مكان من هذه المعمورة. أطل التطرف، وأخته في الرضاعة الشعبوية، كأنهما أقوى من قبل لسبب بسيط هو أننا أقل عقلاً من قبل، أقل حكمة وحيلة أيضاً. أم أننا ولدناهما، لكننا ننكر أبوتهما؟
عجزنا واضح أمام هذين الشبحين لأننا مصابون كما يبدو بشلل أصاب نصفنا الأعلى. فقدنا نعمة التفكير، التي منّ الله بها علينا من دون الحيوان. حيرتنا تبدو من طراز فريد. وحدهما الشبحان يفكران. يبتكران الأفانين، ويبدعان أينما حلا في جغرافية تتسع لهما يوماً بعد يوم، وتاريخ مفتوحة لهما أبوابه ونوافذه ليلاً نهاراً ليدخلاه.
ماذا نحن فاعلون إزاء ذلك، وأين واقفون، وإلى أين نمضي؟ أسئلة تبدو غائبة من عقولنا، فقد اعتدنا على استخدام أيادينا فقط، ولم ينفع ذلك بشيء. لكننا ماضون بإصرار عجيب على تكريس هذا الوهم، ربما لأنه وهم مريح لا يتعب الرؤوس التي هي فوق، والمفروض أنها هناك لاستخدامها. أم أنها ضمرت لعدم استخدامها، كما مع أي عضو إنساني؟
ربما، للمرة الأولى في التاريخ، لا تطرح البشرية على نفسها تلك الأسئلة الكبرى التي اعتادت طرحها مع كل منعطف كبير، في سعي دائب، فكرياً وفلسفياً، لإيجاد أجوبة شافية للمعضلات الاجتماعية التي تواجهها، ونجحت غالباً في ذلك قبل أن تصل إلى حالة الاختناق التي تعاني منها الآن كما يبدو، وقد تدهمها، إذا استمر غياب العقل المريع هذا، حالات مرضية أخطر بكثير لا بدّ أن تؤدي إلى السكتة الدماغية.
7:57 دقيقة
هل دخلنا عصر اللا عقل؟
https://aawsat.com/home/article/1026776/%D9%87%D9%84-%D8%AF%D8%AE%D9%84%D9%86%D8%A7-%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7-%D8%B9%D9%82%D9%84%D8%9F
هل دخلنا عصر اللا عقل؟
هل دخلنا عصر اللا عقل؟
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة