سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

من الغيبة الزمانية إلى الوعي اللاتاريخي

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
TT

سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)

لا يظهر المتطرف تطرفه مرة واحدة، بل يحاول عبر أقنعة متعددة جذب وتجنيد مستهدفيه، وهكذا يطرح نفسه داعية رسالياً لإصلاح العالم والأمة، كما يطرح ما يؤمن به حلا خلاصيا موعودا لكل مشكلات الحياة الخاصة والعامة، ولكن بعض التأمل يكشف زيف وأزمات ما يدعو إليه. وقد عرض وكشف كثير من كتب التراث كثيرا من سمات وصفات المتطرفين عبر التاريخ، كالمبالغة في الشكليات والطقوس، والتعصب للرأي، والتجرؤ، واتهام المختلف، كما اهتمت الدراسات المعاصرة بتحليل جوانب التطرف النفسية والفكرية والاجتماعية بوصفه ظاهرة فرضت حضورها وخطورتها على الجميع شرقاً وغرباً.
سنحاول فيما يلي جمع السمات التاريخية التي عرفت عن المتطرفين والغلاة وعن ظاهرتهم في التاريخ الإسلامي، وهو ما يكشف التشابه الشديد بين ذهنيات وجماعات التطرف والغلو وعناصرها عبر التاريخ.
* السرية والغموض: غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ، ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية، سمة ثابتة في الفرق والفتن القديمة والمعاصرة على السواء، حيث تتأسس فجأة في ليل غامض بعيدا عن إجماع الأمة وعن شهودها وعن صحيح دينها ومعلومه بالضرورة، وقد قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إذا رأيت قوماً يتناجون في شيء من الدين دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة».
ولم يكن الحديث عن ابن سبأ وحده غريبا في القرن الأول، بل كان الحديث عن آخرين كذلك كان لهم دور كبير في إرباك الأمة والمجتمع والدولة. لقد تحدث الأشعري في «مقالات الإسلاميين» وغيره في ترجمة القدري معبد الجهني، عن رجل يدعى سوسن، لم يذكر عنه سوى أنه من العراق ووصفه بأنه كان أول من تسبب في نشوء القدرية والقول بخلق القرآن الكريم.
كذلك نجد هذا الغموض في شخصيات هذه الفرق، فلم يكن الخارجون على رأسها من زمان الفتن رموزا معروفة محل تقدير في مقامات الناس، علما ومعرفة وزهدا وتقوى، بل ينكر كثير من المؤرخين السنة والشيعة مثلا كون أحد من الخوارج كان صحابيا، ويؤكدون أنه لم يكن بينهم صحابي، ورغم رد هؤلاء بأن عبد الله بن وهب الراسبي الذي ولاه الخوارج إمارتهم كان صحابيا، فإن الواضح أنه لم يكن أحد منهم من رموز الصحابة أو أعلام الأمة أو كبارها!
* الغيبة الزمانية: يحيا المتطرفون دائما غيبة زمانية، لا تدرك التاريخ ولا حركته أو قوانينه، فلا ينتبهون لأحوال الأمة؛ قوتها وضعفها، بل تختزل الأمة في أفرادهم وجماعاتهم وتنظيماتهم فقط.
ليس فيهم الحسن بن على رضي الله عنهما، الذي أخرج عنه ابن سعد وابن أبى شيبة والبيهقي في «الدلائل»، عن الشعبي، قال: لما سلم الحسن بن علي (ر) الأمر إلى معاوية، قال له معاوية: فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال إن هذا الأمر تركته لمعاوية إرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. ثم استغفر ونزل».
وأخرج البيهقي، عن الزهري قال: خطب الحسن - رضي الله عنه - فقال: أما بعد؛ أيها الناس: إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون)، إلى قوله: (ومتاع إلى حين)».
هذا التواضع والتنازل عن حق النفس وإدراك حال الأمة والإصرار على وحدتها وعدم فتنتها وتفكيكها، ليست أهدافا رئيسية عند تنظيمات التطرف العنيف، فهي تختزل الأمة في وصفها دون سواها، ودون إدراك زمنيتها، ولا واقع الأمة وما تحتاجه من حولها.
* الكراهية والتشتت: كان الغلاة قديما يتفرقون ويتشرذمون؛ فرقا من فرق، وجماعات من جماعات، تزايد أخراها على أولاها، وجديدها على قديمها، في الغلواء والتطرف، والتوسط أيضا، فخرج الخوارج من الخوارج، كخروج النجدات على المحكمة ونافع بن الأزرق، كما خرج الخطابية من السبئية الأولى، وخرج القرامطة من دعوى المهدوية، حتى فارقوا الدين كله. وهكذا تستمر دائرة البحث عن الحقيقة والتطرف سائرة مستمرة، وهو ما يجعلنا نراه من سمات الجماعات المتطرفة في التاريخ والواقع منذ القديم، فهي تتشتت، وتتفرق وتتشقق فروعا وشظايا، يزايد بعضها على بعض في كل عصر، حتى تكون نهايتها جميعا بعد أن يبذل التطرف أنفاسه، أو يفقد قناعاته، أو ينهي بعضها بعضا!
كذلك تتوزع جماعات العنف الديني، على عشرات الجماعات تصارع بعضها بعضا، ويقاتل بعضها بعضا. قد يجمعهم العدو الواحد كما كان في الحالة الأفغانية حتى جلاء السوفيات، لكن ما إن يخايلهم نصر حتى يتقاتلوا فيما بينهم على الزعامة والإمارة، كما حدث بعد جلاء السوفيات، وكما حدث أثناء وبعد الثورات العربية سنة 2011 خصوصا السورية منها، حيث ما لبث بعضهم يسيطر حتى قاتل بعضهم بعضا، وضاعت بهم ومعهم الثورة وألقها، وصارت بهم أزمة بعد أن كانت أملا في التغيير والإصلاح.
وقد لمح إلى هذه القاعدة في التشتت والتشرذم عبد القاهر البغدادي (المتوفى 429 هجرية) في كتابه «الفرق بين الفرق» حين قال: «الخوارج عشرون فرقة، وهذه أسماؤها المحكمة الأولى الأزارقة والنجدات والصفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها الخازمية والشعيبية والمعلومية والمجهولية».
وفي سياق صراع المتطرفين على الزعامة، ومن أجلها، لا ينتبهون لحال الأمة والواقع بالعموم، ويحيون غيبتهم الزمانية، ويرهقون المجتمع وهم يدعون إصلاحه، ويهزمون الأمة وهم يدعون انتصارها. وهكذا حارب الخوارج علياً رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، وهو يحارب خارجا عليه. وكان القرامطة والحشاشون يحاولون ويستهدفون قتل صلاح الدين الأيوبي وهو يحرر القدس ويحارب الصليبيين وحده كفاية عن الأمة، حتى قيل إن صلاح الدين الأيوبي كان شديد الحرص والحذر منهم دائما كما يروي أحد أحفاده أبو الفداء في تاريخه.
* الانقراض التاريخي أو عزلة المصير: انقرضت فرق وجماعات كثيرة استمرت في تطرفها، بعد أن بلغت قمة التطرف والمغالاة والعنف ضد الأمة والجماعة، انقرضت بعدما ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولكن ضلت طريقها وانقرضت طريقتها، انقرض القرامطة وانقرضت الخطابية وانقرضت العلياوية، وانزوى بعضها الآخر منعزلا في زوايا زمان ما أو مكان ما، يحاول البقاء أمام أسئلة النقل والعقل. وقاعدة ذلك شرعا وعقلا، أنه «لا يعيش ولا يستمر في معارك الزمان والمكان إلا من يملك القوامة على الحياة وشرطها الوسطية: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما». (سورة الفرقان - 67).
* التجرؤ على القتل وتجاوز المقامات: عدّ كثير من مؤرخي وفقهاء الإسلام «ذو الخويصرة» الذي انتقد النبي (صلى الله عليه وسلم)، قيل عند توزيع غنائم غزوة حنين وقيل عند خراج اليمن، أول المتطرفين وأول الخوارج، قال ابن الجوزي وابن حزم: أول الخوارج هو ذو الخويصرة. وقال ابن حزم: «هذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه» وقال الشهرستاني في الخوارج: «أولهم ذو الخويصرة، وآخرهم ذو الثدية».
وأصل حديث ذو الخويصرة ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك؛ ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم آيتهم، رجل إحدى يديه، أو قال ثدييه، مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة، تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه؛ جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت فيه: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)».
روى الطبراني في «الأوسط» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه». ولكن المتطرفين في كل عصر يتجرأون على مقامات العلماء، ولا يسمعون لحججهم ويتهمونهم فيما شاءت وذهبت بهم أهواؤهم. لم يستمع الخوارج الذين أتوا من مصر لعثمان رضي الله عنه حين خطبهم، فشوشوا عليه، ولم يستمعوا أو يقتنعوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ في الأولى ولا في الثانية، ولا يستمع المتطرفون لنصائح العلماء، ويتجرأون على لحومهم؛ يأكلونها غيبة واتهاما وانتقاصا في كل زمن.


مقالات ذات صلة

مقتل 7 إرهابيين خلال عملية أمنية في باكستان

آسيا مسؤولون أمنيون يتفقدون موقع انفجار خارج مطار جناح الدولي في كراتشي بباكستان 7 أكتوبر 2024... قالت السفارة الصينية إن قافلة من العمال الصينيين في كراتشي تعرّضت للهجوم في 6 أكتوبر مما أسفر عن مقتل عاملين وإصابة كثيرين (أ.ب.أ)

مقتل 7 إرهابيين خلال عملية أمنية في باكستان

لقي 7 مسلحين من العناصر الإرهابية مصرعهم، خلال عملية نفّذتها قوات الأمن، الاثنين، في مدينة ميانوالي بإقليم البنجاب شرق باكستان.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
آسيا مسؤولون أمنيون يقفون حراساً في موقع انفجار تسبب في إصابة وتدمير مركبات خارج مطار كراتشي بباكستان الاثنين 7 أكتوبر 2024 (أ.ب)

كراتشي: مقتل صينيين اثنين في هجوم إرهابي

وقع انفجار قوي خارج مطار كراتشي، مساء الأحد، ما أسفر عن مقتل مواطنين صينيين اثنين، وذلك في حين تستعد الحكومة الباكستانية لعقد قمة «منظمة شنغهاي» في إسلام آباد.

عمر فاروق (إسلام آباد)
تحليل إخباري يقف أعضاء «طالبان» التابعون لوزارة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في نقطة تفتيش على طول طريق على مشارف ولاية هرات... 4 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تحليل إخباري «طالبان» حليف غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب

بعد 3 سنوات على خروج الائتلاف الغربي من أفغانستان وسط فوضى عارمة مع سيطرة «طالبان» على كابل، باتت الحركة محاوراً غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
أوروبا عناصر من الشرطة الألمانية المختصة بمكافحة الإرهاب (غيتي)

تحريك دعوى قضائية في ألمانيا ضد 3 مراهقين للاشتباه بإعدادهم لهجوم إرهابي إسلاموي

حرك الادعاء العام الألماني دعوى قضائية ضد 3 مراهقين من ولاية شمال الراين-ويستفاليا بتهمة الإعداد لهجوم إرهابي إسلاموي.

«الشرق الأوسط» (دوسلدورف )
شمال افريقيا الرئيس التونسي قيس سعيّد في اجتماع قبل أيام حول ملف الهجرة غير النظامية مع وزير الداخلية خالد النوري وكاتب الدولة للأمن سفيان بالصادق (من موقع الرئاسة التونسية)

تونس: إيقافات ومحاكمات لتونسيين وأفارقة متهمين بتهريب البشر

كشفت مصادر أمنية وقضائية رسمية تونسية أن الأيام الماضية شهدت حوادث عديدة في ملف «تهريب البشر» من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء نحو تونس.

كمال بن يونس (تونس)

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».