تساؤلات عن احتمالات عودة «القاعدة»

بعد 16 سنة من أحداث سبتمبر

«هجمات سبتمبر» ما زالت تثير الرعب حول العالم بعد 16 عاماً
«هجمات سبتمبر» ما زالت تثير الرعب حول العالم بعد 16 عاماً
TT

تساؤلات عن احتمالات عودة «القاعدة»

«هجمات سبتمبر» ما زالت تثير الرعب حول العالم بعد 16 عاماً
«هجمات سبتمبر» ما زالت تثير الرعب حول العالم بعد 16 عاماً

في منتصف شهر أغسطس (آب) الماضي هدد تنظيم القاعدة بتعطيل القطارات السكك الحديدية في بريطانيا باعتبارها الهدف التالي الذي يسعى إلى تنفيذه وحث مؤيديه على القيام به، انطلاقاً من أنه سوف يتسبب في خسائر فادحة للأرواح، ويثير الهلع والخوف بين المسافرين والركاب. التحذير القاعدي المتقدم طرح على مائدة النقاش علامة استفهام هل يعود تنظيم «القاعدة» من جديد بعد نحو ست عشرة سنة من إعلان الولايات المتحدة الأميركية الحرب عليه؟
عدة عوامل تدفع في طريق هذه القراءة، في المقدمة منها التراجع الكبير الذي شهده تنظيم داعش على الأرض عطفا على ازدياد حضور طالبان في أفغانستان. وقد رأينا الرئيس الأميركي دونالد ترمب وخلافا لما وعد به خلال حملته الانتخابية، يتعهد بإرسال جنود أميركيين جدد لمحاربة «القاعدة» في أفغانستان، وقطع الطريق على عودتها من جديد... هل فشلت واشنطن والعالم في التصدي لـ«القاعدة» عبر عقد ونصف العقد من الزمان؟
- تهديدات «القاعدة»
جاءت تهديدات «القاعدة» أخيرا لتأخذها أجهزة الأمن في عموم أوروبا على مأخذ الجد لا سيما أن مسألة حماية جميع خطوط السكك الحديدية حول البلاد، مسألة شاقة تحتاج لأعداد كبيرة جداً من رجالات الشرطة الداخلية، الأمر الذي يبين بصورة أو بأخرى أن عقل «القاعدة» لم يغِبْ طوال السنوات الماضية، بل ربما استغل القائمون على التنظيم قصة انشغال العالم في محاربة «داعش» للعمل من جديد بهدوء وتكتيك لبناء مصادره وتحالفاته لمواصلة حربه الأزلية ضد الولايات المتحدة الأميركية.
أحد أفضل التقارير التي تناولت شكل«القاعدة» مستقبلاً وصحوتها التي تلازم إخفاقات «داعش» المتوالية، ذاك الذي صدر أخيراً عن مركز واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وفيه علامات دهشة وتعجب، تتصل بقدرة «داعش» على النهوض من جديد من وسط الركام رغم أحداث جسام عاشها التنظيم بدءاً من الحرب عليه في أفغانستان، مروراً بعمليات المطاردة التي لا تنقطع، وصولاً إلى أزمات المنطقة الأخيرة وحتى ظهور «داعش» الذي هو في الأصل فرع دوغمائي أشد تطرفاً من مذهبيات «القاعدة» عينها، وربما أكثر أدلجة فكرية منها، حيث له توجه أكبر من مجرد إلحاق الأذى بالغرب بمعنى الوصول إلى «الدولة الإسلامية» نواةً للخلافة المنتَظَرة.
- «القاعدة»: بيئات حاضنة جديدة
لعله من متناقضات القدر أن تفرز سنوات ما سُمِّي بـ«الربيع العربي»، بيئات حاضنة جديدة لـ«القاعدة» تمدها بحلفاء جدد لها كي تتمكن من مواصلة نهجها، وإن كان غير خلاق.
لقد كانت سوريا ولا شك خلفية نموذجية لإعادة نشوء وارتقاء «القاعدة»، فمنذ بداية الأزمة تطلعت عيون «القاعدة» إلى حلفاء جدد لها هناك، ويبدو أنها وجدت ضالتها بالفعل في جبهة النصرة التي تمتلك الآلاف من المقاتلين المؤمنين بأفكار «القاعدة» وأهدافها. والمؤكد أن «القاعدة» قد استغلت ظروف الاضطرابات الأهلية في عدد من الدول العربية، لتربح موالين جدداً لها، وإن كان ذلك قد حدث عن طريق خطط أوسع وأعمق للأيادي الخفية التي تذكي الإرهاب الداعشي وقبله القاعدي في العالم العربي.
يمكننا هنا أن ندلل على الحاضنات الجديدة بـ«ليبيا»، وما يجري وما جرى فيها فقد تابع العالم برمته كيف أن دولة بعينها (قطر) لم يكن لها إلا هدف واحد، وهو ابتعاث رجالات «القاعدة» إلى ليبيا للسيطرة على مقدرات الأمور.
ولعل ما أزعج الدوائر الغربية مرة جديدة في الأيام الأخيرة من شهر أغسطس الماضي ودعا لفتح ملف «القاعدة» من جديد ما كشفت عنه أجهزة الأمن التابعة لحكومة الوفاق الليبية بشأن مخطط إرهابي يستهدف مسؤولين بالعاصمة الليبية طرابلس بالسلاح الكيماوي من قبل الجماعة الليبية المقاتلة، أحد أفرع تنظيم القاعدة ببلاد المغرب العربي. ولعل السؤال الذي يقض مضاجع الأجهزة الأمنية الأوروبية بالدرجة الأولى هل تلك الأسلحة الكيماوية الفتاكة لا تزال لدى رجالات «القاعدة» في ليبيا للاستهلاك المحلي في عملية الاقتتال الداخلية؟ أم أنها يمكن أن تعبر المتوسط لتفجر أو يطلق بعضها على سبيل المثال في أحد قطارات السكك الحديدة في أي عاصمة أوروبية؟
- «القاعدة» من اليمن إلى أفريقيا
في بداية الشهر الماضي أرسلت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) قوات خاصة أميركية إلى اليمن لتساعد قوات التحالف والقوات اليمنية الشرعية في عملياتهم ضد تنظيم القاعدة في اليمن.
تصريحات المتحدث باسم البنتاغون الكابتن جيف ديفيس، تفيد بأن الهدف من هذه العمليات التي تجري في محافظة شبوة، حيث ينشط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بشكل خاص... ما الذي يُفهم من هذا التصريح؟
بالتأكيد استغلت جماعات «القاعدة» هناك الأوضاع التي تكاد تأخذ اليمن في طريق الدول الفاشلة لتثبيت أركانها، فاليمن اليوم مقسم بين أكثر من فصيل؛ قوات الشرعية الدولية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادئ ، وعلى الجانب الآخر تحالف يكاد يتفكك ويتفسخ ممثلاً في المؤتمر الشعبي للمخلوع صالح، بالتعاون مع قوات الحوثي.
ووسط هذه الخيوط المتداخلة والخطوط المتشابكة، تجد «القاعدة» مسارب آمنة لاكتساب عناصر جديدة، والتخطيط لانتشار أوسع لها يتجاوز شبه الجزيرة العربية إلى منطقة الخليج العربي، لذا تجد الكثير من عناصر تنظيم القاعدة ما زالوا متخفين في مديرية الصعيد غربي محافظة شبوة على الحدود مع محافظة أبين المجاورة الممتدة إلى تخوم مدينة عدن التي أعلنتها الحكومة اليمنية عاصمة مؤقتة للبلاد.
والثابت أنه وإن كان تنظيم القاعدة في اليمن ضعيفاً، وليس بتلك القوة التي يروج لها في وسائل الإعلام لا سيما الغربية، فإن هذا لا ينفي أنه ينشط وبقوة في ظل غياب الدولة، وينمو كلما ضعف نفوذها، وعليه فالمعادلة يسيرة الفهم: «كلما ظلت نيران الحرب الأهلية في اليمن مشتعلة، فإن (القاعدة) سوف تتمكن من تثبيت أركانها، وسوف تضحي هزيمتها أمراً عسيراً، ذلك أن ضعف الدولة يدفع لاستمرار القاعدة وتعاظم خطرها».
على أن كارثية انتشار «القاعدة» في اليمن لها تبعات، وكذا استحقاقات أخرى تتصل بامتداد التنظيم إلى العمق الأفريقي، وهو ما تخطط له العقول النافذة في التنظيم عبر مسارين:
الأول من خلال ليبيا في شمال أفريقيا.
والثاني من خلال سواحل اليمن المحاذية لعدد من الدول الأفريقية.
والثابت أن «القاعدة» في حقيقة الأمر لا تواري أو تداري مسؤولياتها عن العنف الحادث هناك، وقد كان آخر أعمال أياديها السوداء ذلك الهجوم الإرهابي الذي وقع يوم الأحد العاشر من أغسطس على مطعم في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، وهي دولة مستهدَفة من قبل التنظيم القاعدي، وهناك أنشطة كبرى تجري على أراضيها، حيث جماعات كثيرة تواليها عقائدياً ومنها جماعة أنصار الإسلام التي يقودها إبراهيم مالم جيكو، وهي أكثرها نشاطاً، وتأسست في نهاية العالم الماضي، وتقدم منهجاً يتفق مع رؤية تنظيم القاعدة بأكثر مما ينسجم مع تنظيم داعش.
أحد أفضل الذين تصدوا أخيرا للجواب عن علامة الاستفهام الخاصة بمستقبل «القاعدة» المستشار السابق للقوات الأميركية في أفغانستان سيث جونز، الذي يشغل اليوم مدير مركز الأمن الدولي والسياسات الدفاعية في مؤسسة «راند» التي تشكل العقل والقلب بالنسبة للعسكريين الأميركيين ولـ«البنتاغون» بوجه عام.
عبر مقال مطول نشرته له مجلة «الفورين بوليسي» الأميركية ذائعة الصيت، يضعنا سيث أمام حقائق تتباين فيها الرؤية بين من يرى أن «القاعدة» سوف يتقلص نفوذها، وأنه لا مستقبل لها، كما يذهب دانيال بيمان من جامعة جورج تاون الأميركية، الذي يؤمن بان تنظيم القاعدة في تراجع بسبب الدعم الشعبي المحدود، والجهود الفعالة لمكافحة الإرهاب من جانب الولايات المتحدة ودول أخرى، عطفاً على أن «القاعدة» باتت مكروهة بسبب قتلها للمدنيين المسلمين.
لكن هناك آخرين يورد سيث آراءهم يرون أن «القاعدة» عائدة لا محالة في ذلك، مثل علي صوفان عميل مكتب التحقيقات الاتحادية سابقاً، الذي يؤكد على أن «القاعدة» تتحول الآن من جماعة إرهابية صغيرة إلى شبكة قوية ومنتشرة الفروع، وأنها اكتسبت أعداداً وقوى قتالية، وهي تمتد الآن في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.
فيما يحاجج ديفيد غارتنستين من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، بأن التنظيم «برز بقوة من خلال اتباع استراتيجية للنمو المتعمد والمفتوح».
المقال المشار إليه مهم وحيوي إذ يتناول سلسلة من الفرضيات التي يمكنها أن تعظم أو تحجم من عودة «القاعدة» للظهور من جديد، غير أن أهم جزئية تستلفت النظر تلك المتعلقة بعودة التنظيم ومآل «داعش» في الزمن القريب، إذ إن انهيار «داعش» في عيني سيث يمكن أن يزيد من إمكانية الدمج بين المقاتلين الموالين لـ«القاعدة»، و«داعش»، تحت مظلة واحدة، أو حتى إلى ظهور جماعة متطرفة جديدة، فـ«القاعدة» اليوم منظمة مختلفة عما كانت عليه قبل عقد من الزمن... الحركة أقل مركزية، ما يعني أن الانتماء والولاء أصبح عبر الأثير وهذه هي الكارثة.
- ترمب وخطته... «القاعدة» ترحب
نهار الاثنين 21 أغسطس الماضي، كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعلن عن استراتيجيته الجديدة لأفغانستان، عبر قاعدة «فورت ماير» بولاية فيرجينيا. الاستراتيجية تقضي بإرسال بضعة آلاف من الجنود إلى هناك في محاولة لدحر طالبان و«القاعدة» ومنعهما من السيطرة على جميع مقادير البلاد... هل جاء هذا الإعلان ليمثل قبلة الحياة لـ«القاعدة» في أفغانستان بنوع خاص، وحيثما يوجد مريدوها وأتباعها حول الكرة الأرضية؟
الشاهد أنه قبل أن يعلن ترمب استراتيجيته الأخيرة، و«القاعدة» كانت ترى فيه وفي كبير مستشاريه ستيف بانون قبل أن يجبر على الاستقالة طوق ونجاة ومبعث أمل للعودة من جديد إلى الحياة... كيف ذلك؟
ببساطة شديدة كان بانون الصوت الصارخ لإدارة ترامب منذ البداية، وهو صاحب التعبير الشهير «قوى الإسلام لا يمكن إيقافها بالوسائل السلمية».
هنا أعطى بانون لـ«القاعدة» فرصةً على طبق من ذهب لإعادة تصوير الغرب على أساس أنه منخرط في حرب وجودية مع الإسلام، وهذه هي الطريقة التي يبرر بها التنظيم عنفه وآيديولوجيته الأصولية.
والآن يأتي ترامب ليخطط من جديد لإشعال المعركة عسكرياً ضد طالبان، وضد فلول «القاعدة» هناك، مما يسمح ولا شك بإعادة تقسيم العالم إلى قسمين دار للحرب ودار للسلام، أو كما قال جورج بوش الابن غداة أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001: «الذين معنا والذين علينا»، في تقسيم «مانوي» للعالم لا يستقيم... هل سيربح ترمب الحرب بالجنود الذين سيرسلهم عطفاً على الموجودين هناك من الأصل؟
تقول «نيويورك تايمز» أخيراً إن هذا لن يحدث طوال الحياة، وحتى لو تم قتل الإرهابيين كافة في الغد، فإنهم سيعودون مرة أخرى طالما بقيت إشكالية الأصولية الدينية والعرقية قائمة من جهة وأرباح تجارة الهيروين السائدة في أفغانستان تحديداً، وعلى الحدود مع باكستان من ناحية أخرى.
إذن هل الحل في ترك أفغانستان كما فعل أوباما؟
بالقطع أيضاً لا، لأن ذلك سيحولها لحاضنة لـ«داعش» جديدة مهما تغيرت الأسماء، ولهذا ربما يكون ما أقدم عليه ترمب هو حل مؤقت، بمعنى زيادة متواضعة في القوات الأميركية يمكن لها أن توفر دعماً عسكرياً للحكومة الأفغانية لضمان عدم استيلاء طالبان على المدن الأفغانية.
هل من خلاصة؟
لن يختفي التطرف الذي يمثله «داعش» أو «القاعدة» مرة واحدة وإلى الأبد، إذ ستبقى الآيديولوجيات العدائية على قيد الحياة في شكل ما من الحروب في أفريقيا وآسيا الشرق الأوسط، طالما بقيت قضايا رئيسية بغير حلول، وطالما وجد زارعو الكراهية حول العالم من أنصار نهاية التاريخ أو صدام الحضارات.


مقالات ذات صلة

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا سيدة في إحدى قرى بوركينا فاسو تراقب آلية عسكرية تابعة للجيش (غيتي)

تنظيم «القاعدة» يقترب من عاصمة بوركينا فاسو

أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، الموالية لتنظيم «القاعدة»، أنها سيطرت على موقع عسكري متقدم تابع لجيش بوركينا فاسو.

الشيخ محمد ( نواكشوط)
أفريقيا رئيس تشاد يتحدث مع السكان المحليين (رئاسة تشاد)

الرئيس التشادي: سنلاحق إرهابيي «بوكو حرام» أينما ذهبوا

قال الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التشادية، إنه سيلاحق مقاتلي «بوكو حرام» «أينما ذهبوا، واحداً تلو الآخر، وحتى آخر معاقلهم».

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا آثار هجوم إرهابي شنَّته «بوكو حرام» ضد الجيش التشادي (إعلام محلي)

«الإرهاب» يصعّد هجماته في دول الساحل الأفريقي

تصاعدت وتيرة الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد أن أعلنت تشاد أن أربعين جندياً قُتلوا في هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.