تساؤلات عن احتمالات عودة «القاعدة»

بعد 16 سنة من أحداث سبتمبر

«هجمات سبتمبر» ما زالت تثير الرعب حول العالم بعد 16 عاماً
«هجمات سبتمبر» ما زالت تثير الرعب حول العالم بعد 16 عاماً
TT

تساؤلات عن احتمالات عودة «القاعدة»

«هجمات سبتمبر» ما زالت تثير الرعب حول العالم بعد 16 عاماً
«هجمات سبتمبر» ما زالت تثير الرعب حول العالم بعد 16 عاماً

في منتصف شهر أغسطس (آب) الماضي هدد تنظيم القاعدة بتعطيل القطارات السكك الحديدية في بريطانيا باعتبارها الهدف التالي الذي يسعى إلى تنفيذه وحث مؤيديه على القيام به، انطلاقاً من أنه سوف يتسبب في خسائر فادحة للأرواح، ويثير الهلع والخوف بين المسافرين والركاب. التحذير القاعدي المتقدم طرح على مائدة النقاش علامة استفهام هل يعود تنظيم «القاعدة» من جديد بعد نحو ست عشرة سنة من إعلان الولايات المتحدة الأميركية الحرب عليه؟
عدة عوامل تدفع في طريق هذه القراءة، في المقدمة منها التراجع الكبير الذي شهده تنظيم داعش على الأرض عطفا على ازدياد حضور طالبان في أفغانستان. وقد رأينا الرئيس الأميركي دونالد ترمب وخلافا لما وعد به خلال حملته الانتخابية، يتعهد بإرسال جنود أميركيين جدد لمحاربة «القاعدة» في أفغانستان، وقطع الطريق على عودتها من جديد... هل فشلت واشنطن والعالم في التصدي لـ«القاعدة» عبر عقد ونصف العقد من الزمان؟
- تهديدات «القاعدة»
جاءت تهديدات «القاعدة» أخيرا لتأخذها أجهزة الأمن في عموم أوروبا على مأخذ الجد لا سيما أن مسألة حماية جميع خطوط السكك الحديدية حول البلاد، مسألة شاقة تحتاج لأعداد كبيرة جداً من رجالات الشرطة الداخلية، الأمر الذي يبين بصورة أو بأخرى أن عقل «القاعدة» لم يغِبْ طوال السنوات الماضية، بل ربما استغل القائمون على التنظيم قصة انشغال العالم في محاربة «داعش» للعمل من جديد بهدوء وتكتيك لبناء مصادره وتحالفاته لمواصلة حربه الأزلية ضد الولايات المتحدة الأميركية.
أحد أفضل التقارير التي تناولت شكل«القاعدة» مستقبلاً وصحوتها التي تلازم إخفاقات «داعش» المتوالية، ذاك الذي صدر أخيراً عن مركز واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وفيه علامات دهشة وتعجب، تتصل بقدرة «داعش» على النهوض من جديد من وسط الركام رغم أحداث جسام عاشها التنظيم بدءاً من الحرب عليه في أفغانستان، مروراً بعمليات المطاردة التي لا تنقطع، وصولاً إلى أزمات المنطقة الأخيرة وحتى ظهور «داعش» الذي هو في الأصل فرع دوغمائي أشد تطرفاً من مذهبيات «القاعدة» عينها، وربما أكثر أدلجة فكرية منها، حيث له توجه أكبر من مجرد إلحاق الأذى بالغرب بمعنى الوصول إلى «الدولة الإسلامية» نواةً للخلافة المنتَظَرة.
- «القاعدة»: بيئات حاضنة جديدة
لعله من متناقضات القدر أن تفرز سنوات ما سُمِّي بـ«الربيع العربي»، بيئات حاضنة جديدة لـ«القاعدة» تمدها بحلفاء جدد لها كي تتمكن من مواصلة نهجها، وإن كان غير خلاق.
لقد كانت سوريا ولا شك خلفية نموذجية لإعادة نشوء وارتقاء «القاعدة»، فمنذ بداية الأزمة تطلعت عيون «القاعدة» إلى حلفاء جدد لها هناك، ويبدو أنها وجدت ضالتها بالفعل في جبهة النصرة التي تمتلك الآلاف من المقاتلين المؤمنين بأفكار «القاعدة» وأهدافها. والمؤكد أن «القاعدة» قد استغلت ظروف الاضطرابات الأهلية في عدد من الدول العربية، لتربح موالين جدداً لها، وإن كان ذلك قد حدث عن طريق خطط أوسع وأعمق للأيادي الخفية التي تذكي الإرهاب الداعشي وقبله القاعدي في العالم العربي.
يمكننا هنا أن ندلل على الحاضنات الجديدة بـ«ليبيا»، وما يجري وما جرى فيها فقد تابع العالم برمته كيف أن دولة بعينها (قطر) لم يكن لها إلا هدف واحد، وهو ابتعاث رجالات «القاعدة» إلى ليبيا للسيطرة على مقدرات الأمور.
ولعل ما أزعج الدوائر الغربية مرة جديدة في الأيام الأخيرة من شهر أغسطس الماضي ودعا لفتح ملف «القاعدة» من جديد ما كشفت عنه أجهزة الأمن التابعة لحكومة الوفاق الليبية بشأن مخطط إرهابي يستهدف مسؤولين بالعاصمة الليبية طرابلس بالسلاح الكيماوي من قبل الجماعة الليبية المقاتلة، أحد أفرع تنظيم القاعدة ببلاد المغرب العربي. ولعل السؤال الذي يقض مضاجع الأجهزة الأمنية الأوروبية بالدرجة الأولى هل تلك الأسلحة الكيماوية الفتاكة لا تزال لدى رجالات «القاعدة» في ليبيا للاستهلاك المحلي في عملية الاقتتال الداخلية؟ أم أنها يمكن أن تعبر المتوسط لتفجر أو يطلق بعضها على سبيل المثال في أحد قطارات السكك الحديدة في أي عاصمة أوروبية؟
- «القاعدة» من اليمن إلى أفريقيا
في بداية الشهر الماضي أرسلت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) قوات خاصة أميركية إلى اليمن لتساعد قوات التحالف والقوات اليمنية الشرعية في عملياتهم ضد تنظيم القاعدة في اليمن.
تصريحات المتحدث باسم البنتاغون الكابتن جيف ديفيس، تفيد بأن الهدف من هذه العمليات التي تجري في محافظة شبوة، حيث ينشط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بشكل خاص... ما الذي يُفهم من هذا التصريح؟
بالتأكيد استغلت جماعات «القاعدة» هناك الأوضاع التي تكاد تأخذ اليمن في طريق الدول الفاشلة لتثبيت أركانها، فاليمن اليوم مقسم بين أكثر من فصيل؛ قوات الشرعية الدولية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادئ ، وعلى الجانب الآخر تحالف يكاد يتفكك ويتفسخ ممثلاً في المؤتمر الشعبي للمخلوع صالح، بالتعاون مع قوات الحوثي.
ووسط هذه الخيوط المتداخلة والخطوط المتشابكة، تجد «القاعدة» مسارب آمنة لاكتساب عناصر جديدة، والتخطيط لانتشار أوسع لها يتجاوز شبه الجزيرة العربية إلى منطقة الخليج العربي، لذا تجد الكثير من عناصر تنظيم القاعدة ما زالوا متخفين في مديرية الصعيد غربي محافظة شبوة على الحدود مع محافظة أبين المجاورة الممتدة إلى تخوم مدينة عدن التي أعلنتها الحكومة اليمنية عاصمة مؤقتة للبلاد.
والثابت أنه وإن كان تنظيم القاعدة في اليمن ضعيفاً، وليس بتلك القوة التي يروج لها في وسائل الإعلام لا سيما الغربية، فإن هذا لا ينفي أنه ينشط وبقوة في ظل غياب الدولة، وينمو كلما ضعف نفوذها، وعليه فالمعادلة يسيرة الفهم: «كلما ظلت نيران الحرب الأهلية في اليمن مشتعلة، فإن (القاعدة) سوف تتمكن من تثبيت أركانها، وسوف تضحي هزيمتها أمراً عسيراً، ذلك أن ضعف الدولة يدفع لاستمرار القاعدة وتعاظم خطرها».
على أن كارثية انتشار «القاعدة» في اليمن لها تبعات، وكذا استحقاقات أخرى تتصل بامتداد التنظيم إلى العمق الأفريقي، وهو ما تخطط له العقول النافذة في التنظيم عبر مسارين:
الأول من خلال ليبيا في شمال أفريقيا.
والثاني من خلال سواحل اليمن المحاذية لعدد من الدول الأفريقية.
والثابت أن «القاعدة» في حقيقة الأمر لا تواري أو تداري مسؤولياتها عن العنف الحادث هناك، وقد كان آخر أعمال أياديها السوداء ذلك الهجوم الإرهابي الذي وقع يوم الأحد العاشر من أغسطس على مطعم في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، وهي دولة مستهدَفة من قبل التنظيم القاعدي، وهناك أنشطة كبرى تجري على أراضيها، حيث جماعات كثيرة تواليها عقائدياً ومنها جماعة أنصار الإسلام التي يقودها إبراهيم مالم جيكو، وهي أكثرها نشاطاً، وتأسست في نهاية العالم الماضي، وتقدم منهجاً يتفق مع رؤية تنظيم القاعدة بأكثر مما ينسجم مع تنظيم داعش.
أحد أفضل الذين تصدوا أخيرا للجواب عن علامة الاستفهام الخاصة بمستقبل «القاعدة» المستشار السابق للقوات الأميركية في أفغانستان سيث جونز، الذي يشغل اليوم مدير مركز الأمن الدولي والسياسات الدفاعية في مؤسسة «راند» التي تشكل العقل والقلب بالنسبة للعسكريين الأميركيين ولـ«البنتاغون» بوجه عام.
عبر مقال مطول نشرته له مجلة «الفورين بوليسي» الأميركية ذائعة الصيت، يضعنا سيث أمام حقائق تتباين فيها الرؤية بين من يرى أن «القاعدة» سوف يتقلص نفوذها، وأنه لا مستقبل لها، كما يذهب دانيال بيمان من جامعة جورج تاون الأميركية، الذي يؤمن بان تنظيم القاعدة في تراجع بسبب الدعم الشعبي المحدود، والجهود الفعالة لمكافحة الإرهاب من جانب الولايات المتحدة ودول أخرى، عطفاً على أن «القاعدة» باتت مكروهة بسبب قتلها للمدنيين المسلمين.
لكن هناك آخرين يورد سيث آراءهم يرون أن «القاعدة» عائدة لا محالة في ذلك، مثل علي صوفان عميل مكتب التحقيقات الاتحادية سابقاً، الذي يؤكد على أن «القاعدة» تتحول الآن من جماعة إرهابية صغيرة إلى شبكة قوية ومنتشرة الفروع، وأنها اكتسبت أعداداً وقوى قتالية، وهي تمتد الآن في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.
فيما يحاجج ديفيد غارتنستين من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، بأن التنظيم «برز بقوة من خلال اتباع استراتيجية للنمو المتعمد والمفتوح».
المقال المشار إليه مهم وحيوي إذ يتناول سلسلة من الفرضيات التي يمكنها أن تعظم أو تحجم من عودة «القاعدة» للظهور من جديد، غير أن أهم جزئية تستلفت النظر تلك المتعلقة بعودة التنظيم ومآل «داعش» في الزمن القريب، إذ إن انهيار «داعش» في عيني سيث يمكن أن يزيد من إمكانية الدمج بين المقاتلين الموالين لـ«القاعدة»، و«داعش»، تحت مظلة واحدة، أو حتى إلى ظهور جماعة متطرفة جديدة، فـ«القاعدة» اليوم منظمة مختلفة عما كانت عليه قبل عقد من الزمن... الحركة أقل مركزية، ما يعني أن الانتماء والولاء أصبح عبر الأثير وهذه هي الكارثة.
- ترمب وخطته... «القاعدة» ترحب
نهار الاثنين 21 أغسطس الماضي، كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعلن عن استراتيجيته الجديدة لأفغانستان، عبر قاعدة «فورت ماير» بولاية فيرجينيا. الاستراتيجية تقضي بإرسال بضعة آلاف من الجنود إلى هناك في محاولة لدحر طالبان و«القاعدة» ومنعهما من السيطرة على جميع مقادير البلاد... هل جاء هذا الإعلان ليمثل قبلة الحياة لـ«القاعدة» في أفغانستان بنوع خاص، وحيثما يوجد مريدوها وأتباعها حول الكرة الأرضية؟
الشاهد أنه قبل أن يعلن ترمب استراتيجيته الأخيرة، و«القاعدة» كانت ترى فيه وفي كبير مستشاريه ستيف بانون قبل أن يجبر على الاستقالة طوق ونجاة ومبعث أمل للعودة من جديد إلى الحياة... كيف ذلك؟
ببساطة شديدة كان بانون الصوت الصارخ لإدارة ترامب منذ البداية، وهو صاحب التعبير الشهير «قوى الإسلام لا يمكن إيقافها بالوسائل السلمية».
هنا أعطى بانون لـ«القاعدة» فرصةً على طبق من ذهب لإعادة تصوير الغرب على أساس أنه منخرط في حرب وجودية مع الإسلام، وهذه هي الطريقة التي يبرر بها التنظيم عنفه وآيديولوجيته الأصولية.
والآن يأتي ترامب ليخطط من جديد لإشعال المعركة عسكرياً ضد طالبان، وضد فلول «القاعدة» هناك، مما يسمح ولا شك بإعادة تقسيم العالم إلى قسمين دار للحرب ودار للسلام، أو كما قال جورج بوش الابن غداة أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001: «الذين معنا والذين علينا»، في تقسيم «مانوي» للعالم لا يستقيم... هل سيربح ترمب الحرب بالجنود الذين سيرسلهم عطفاً على الموجودين هناك من الأصل؟
تقول «نيويورك تايمز» أخيراً إن هذا لن يحدث طوال الحياة، وحتى لو تم قتل الإرهابيين كافة في الغد، فإنهم سيعودون مرة أخرى طالما بقيت إشكالية الأصولية الدينية والعرقية قائمة من جهة وأرباح تجارة الهيروين السائدة في أفغانستان تحديداً، وعلى الحدود مع باكستان من ناحية أخرى.
إذن هل الحل في ترك أفغانستان كما فعل أوباما؟
بالقطع أيضاً لا، لأن ذلك سيحولها لحاضنة لـ«داعش» جديدة مهما تغيرت الأسماء، ولهذا ربما يكون ما أقدم عليه ترمب هو حل مؤقت، بمعنى زيادة متواضعة في القوات الأميركية يمكن لها أن توفر دعماً عسكرياً للحكومة الأفغانية لضمان عدم استيلاء طالبان على المدن الأفغانية.
هل من خلاصة؟
لن يختفي التطرف الذي يمثله «داعش» أو «القاعدة» مرة واحدة وإلى الأبد، إذ ستبقى الآيديولوجيات العدائية على قيد الحياة في شكل ما من الحروب في أفريقيا وآسيا الشرق الأوسط، طالما بقيت قضايا رئيسية بغير حلول، وطالما وجد زارعو الكراهية حول العالم من أنصار نهاية التاريخ أو صدام الحضارات.


مقالات ذات صلة

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا سيدة في إحدى قرى بوركينا فاسو تراقب آلية عسكرية تابعة للجيش (غيتي)

تنظيم «القاعدة» يقترب من عاصمة بوركينا فاسو

أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، الموالية لتنظيم «القاعدة»، أنها سيطرت على موقع عسكري متقدم تابع لجيش بوركينا فاسو.

الشيخ محمد ( نواكشوط)
أفريقيا رئيس تشاد يتحدث مع السكان المحليين (رئاسة تشاد)

الرئيس التشادي: سنلاحق إرهابيي «بوكو حرام» أينما ذهبوا

قال الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التشادية، إنه سيلاحق مقاتلي «بوكو حرام» «أينما ذهبوا، واحداً تلو الآخر، وحتى آخر معاقلهم».

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا آثار هجوم إرهابي شنَّته «بوكو حرام» ضد الجيش التشادي (إعلام محلي)

«الإرهاب» يصعّد هجماته في دول الساحل الأفريقي

تصاعدت وتيرة الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد أن أعلنت تشاد أن أربعين جندياً قُتلوا في هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.