العلاقة التاريخية بين الفن والموضة... بين كسب ود الزبائن وتحقيق الربح

حققت لوحة للفنان الأميركي الراحل جان ميشيل باسكيات مؤخرا، رقماً قياسياً في مزاد بدار «سوذبي»، إذ حصدت 110.5 ملايين دولار.
إذا كنت عاشقا للفن لكن العين بصيرة واليد قصيرة، لا تقلق، لأن صناع الموضة وجدوا الحل، وهو أنك لا تحتاج إلى الملايين حتى تستمتع بأعمال باسكيات. محلات «براونز» اللندنية مثلا طرحت مجموعة محدودة هذا الشهر أطلقت عليها «باسكيات فور براونز» تزامنا مع الاحتفالات التي تشهدها الأوساط الفنية بجون ميشيل باسكيات. وفسرت المحلات خطوتها بالقول: «لم تُحدق في الحائط للاستمتاع بلوحة فنية عندما يمكنك الاستمتاع بها في كل زمان وكان من خلال قطعة تلبسها؟».
أما في حال لم تكن تعرف الفنان باسكيات، فأنت من قلة، لأنه كان أسطورة في الثمانينات. غير الكثير من المفاهيم إلى حد أن الفنان أندي وورهول من فرض إعجابه به تبناه فنيا. كان أيضاً شابا وسيما يتمتع بكاريزما وإنتاجية لا تنضب. كل هذه العناصر جعلت منه نجما مرموقا في الأوساط الفنية. فهو من القلائل الذين حققوا الشهرة والثروة في حياتهم. تتميز لوحاته بألوان براقة وأسلوب فريد يتناول البوب أرت، وهذا تحديدا ما لخصته محلات «براونز» في 18 قطعة للجنسين، تشمل «تي - شيرتات» وبنطلونات جينز وسترات وإكسسوارات متنوعة. كانت هذه المجموعة ثمرة تعاون بينها وبين شركة «روم بايز أوف» النيويوركية المتخصصة في أزياء مستلهمة من ثقافة الشارع. أجمل ما فيها أنها، على العكس من لوحات الفنان، لا تحتاج إلى الملايين ولا أي مبالغ إضافية لتأمينها لأن أغلى قطعة فيها لا تتعدى الـ500 جنيه إسترليني.
هذه المبادرة تفتح مرة أخرى ملف العلاقة الحميمة التي تربط الفن والموضة. وهي علاقة تعود إلى عدة عقود، إن لم نقل قروناً، لم تقتصر على استلهام كلا الطرفين من بعض فحسب، بل تعدت ذلك لتشمل صداقات شخصية، كانت ثمرتها أعمال تتحدى الزمن، في مجال الأزياء على الأقل. الدليل أن مؤرخي الفن يعتمدون في كثير من الأحيان على دراسة أنواع الأقمشة وطرق حياكة الأزياء لتحديد الحقبة التي تم فيها رسم لوحة ما. ما لا يمكن إنكاره أن المصممين من جهتهم تعاملوا مع الموضة بشكل جدي على أنها فن قائم بذاته. صحيح أن الأدوات تختلف لكن النتيجة تُؤكد أنهم لا يقلون إبداعا أو خيالا. بول بواريه الذي كان من الأوائل الذين تعاملوا مع رسامي الفن الانطباعي في بداية القرن العشرين شرح هذه العلاقة قائلاً: «لقد أحببت دائما الرسامين... ويبدو لي أننا نحترف نفس المهنة الأمر الذي يُشجعني أن أذهب إلى القول إننا زملاء».
قراءة سريعة في كتب الموضة، تشير إلى أن بداية هذه العلاقة تعززت واستقوت في منتصف القرن التاسع عشر. الحقبة التي شهدت انتعاشا في فن البورتريهات مع ظهور طبقات بورجوازية جديدة تريد إبراز مكانتها من خلال أدق التفاصيل. من فخامة المكان والديكور إلى جمال وتفرد الأزياء. في نهاية هذا القرن وُلد مفهوم الـ«هوت كوتير» كما نعرفه اليوم. مع ظهوره اكتسبت الأزياء لغة خاصة تعكس تطورات العصر وتغيراته. زادت هذه «الحقبة الجميلة» أو «لابيل إيبوك» في عالم الفن من حماس الرسامين على رسم أدق التفاصيل بواقعية أكبر. ظهرت هذه الواقعية في أزياء تضج بالألوان والنقشات والطبعات المستلهمة من الطبيعة.
في بداية القرن العشرين، لم تعد الموضة قصرا على باريس. فقد انتقلت عدواها إلى إيطاليا. كان السؤال الذي طرحه الإيطاليون على أنفسهم هو كيف يمكنهم منحها شخصية وهوية تُميزها عن الموضة الفرنسية؟. بعد عدة مناقشات توصلوا إلى أن الحل يكمن في الفن، أي ربطها بتاريخهم الفني الطويل. روزا جينوني، وهي خياطة، أو مصممة بمفهوم اليوم، لعبت دورا كبيرا في تبلور هذه الشخصية الفنية. ففي عام 1906 وخلال معرض «ميلان إكسبو» قدمت قطعتين طبقت فيهما فكرتها. الأولى كانت عبارة عن معطف استلهمته من لوحة للفنان بيزانيللو والثانية عبارة عن فستان فخم استلهمته من لوحة «بريمافيرا» لساندرو بوتشيللي. بين عشية وضحاها أصبحت تصاميمها مرادفة لفن النهضة وأصبح الفن والموضة وجهين لعملة واحدة في ميلانو.
في باريس، وفي نفس الفترة كان المصمم الفرنسي بول بواريه يُظهر نفس الأعراض والميول الفنية. لم يكتف بمصادقة فنانين شباب مغمورين من عصره ولا باقتناء أعمالهم فحسب، بل وظف بعضهم للعمل معه في مشغله الخاص بالرسم على الأقمشة. كان الرسام فرانسيس بكابيا الذي يشتهر بإنجازاته المبتكَرة وسلوكه التحريضي خلال المرحلة الدادائية أحد أصدقائه، كذلك كان موريس فلامينك وأندريه ديراين. جمعهم حب الألوان الزاهية والرغبة في الإبداع.
إلى جانب الرسم عشق بول بواريه المسرح، وخصص حيزا كبيرا من وقته لتصميم ملابس الممثلين، وهو ما حدد أسلوبه الدرامي إلى حد كبير. أسلوب لم تكمن قوته في التصميم والتفصيل بقدر ما كانت في تطويعه الألوان الصارخة ورسمه لوحات فنية على القماش.
هذه العلاقات تطورت وانتشرت لتصبح بمثابة موضة دارجة بين المصممين. فقد طالت غابرييل شانيل وإلسا سكاباريللي في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. بينما تجسدت هذه العلاقة في صداقات بين شانيل وجون كوكتو ودالي وغيرها، أظهرت إلسا سكاباريللي تفانيا أكبر ترجمته في أزياء وعطور. أحيانا كثيرة على حساب الجانب التجاري، الأمر الذي تسبب لها في مشكلات مادية كبيرة. في عام 1954 أغلقت دارها بسبب عدم مجاراتها لتغيرات السوق، مُخلفة إرثا لا يزال كثير من المصممين المعاصرين يغرفون منه، بداء من ميوتشا برادا إلى جون بول غوتييه. هذا الأخير مثلا استوحى شكل قارورة عطره الشهير التي تأخذ شكل جسد امرأة من قارورة عطر ابتكرتها قبله بعقود. وبالطبع لا يمكن الحديث عن الفن من دون التطرق إلى المصمم كريستيان ديور، الذي قبل أن يصبح واحدا من أهم مصممي القرن العشرين، كان يحلم بالعمل في المجال الفني. افتتح قاعة عرض صغيرة في عام 1928 لبيع لوحات فنانين شباب من أمثال بابلو بيكاسو وجون كوكتو، وماكس جاكوبس، وجورج أوريك. وعندما أصبح مصمما أعطانا لوحات انطباعية لا مثيل لها مطبوعة بالورود والأزهار على فساتين فخمة لا تزال تُلهب الخيال لحد الآن.
ولم تخفت قوة هذه العلاقة الحميمة في أي زمن. ففي الستينات ظهرت على شكل فستان استلهمه الراحل إيف سان لوران من الرسام الهولندي بيت موندريان. كان يتميز بمربعات على شكل مكعبات متعددة الألوان أصبحت تُعرف في لغة الموضة بـ«كالار بلوكينغ» Color Blocking. لا يزال الفستان شاهدا على فنية إيف سان لوران لحد الآن. فقد دخل المعارض والمتاحف.
وشيئا فشيئا بدأت هذه التعاونات تتوسع لتشمل مجالات إبداعية أخرى مثل تصوير الحملات الترويجية والأفلام القصيرة والمجلات وغيرها. وقد تكون أعمال أندي وورهول من أشهر هذه الأعمال. فانطلاقته أساسا كانت من عالم الموضة في الخمسينات من القرن الماضي، حيث تعاون كرسام أحذية مع مجلات «غلامور» ثم «فوغ» وهاربر بازار». كما تولى إخراج «إنترفيو» وهي مجلة مهتمة بالفن والموضة. كان قارئا جيدا لعصره وسابقا له في الوقت ذاته. رفض فكرة الحُكم على أسلوب ما بأنه سيء أو أفضل من غيره، لأن المُفترض في الموضة حسب رأيه «أن تعبر عن نفسها بأسلوب تجريدي هذا الأسبوع وأسلوب فنان بوب في الأسبوع الذي بعده من دون أي شعور بضرورة التنازل عن الأسلوب الخاص أو الإحساس بالذنب».
ربما ما توقعه وورهول آنذاك أن القيود التي كانت تفرضها الموضة ستلغى، من الفوارق بين ما هو مناسب للنهار والمساء إلى ما هو فني وما هو تجاري. وبالفعل استسلم المعارضون والمحافظون في الثمانينات لتغيرات العصر، واضطروا لفتح أبواب المتاحف والمعارض لصناع الموضة. صحيح أن أسباب البعض كانت تجارية محضة لأنهم كانوا يحتاجون لتمويل بيوت الأزياء الكبيرة، إلا أنه هذا لا يعني أنهم لم يكونوا يستحقون ذلك. فالثقافة تغيرت، ولم يعد فيها مكان للآراء المتحجرة من جهة، والموضة أصبحت مع الوقت فنا قائما بذاته من جهة ثانية. الدليل على هذا أن معرض «جمال متوحش» للراحل ألكسندر ماكوين حقق أرباحا غير مسبوقة ورقما قياسيا في عدد زوار متحف المتروبوليتان بنيويورك، الأمر الذي استدعى تمديده لعدة أشهر.
التعاونات مع الفنانين أيضاً أخذت منحى تجارياً محضاً في بعض الأحيان، وذلك باللعب على نقاط ضعف مستهلك يعشق الفن لكنه لا يستطيع له سبيلاً. ما قامت به الموضة أنها تعمدت تعويضه عن ذلك بإكسسوارات وأزياء بتوقيع فنانين كبار. ونجحت في ضرب عصفورين بحجر واحد: إرضاء زبائنها وكسب ودهم من ناحية، وتحقيق الربح من ناحية ثانية. الفنانون بدورهم استفادوا، إذ حصلوا على تمويلات هم في أمس الحاجة إليها، فضلاً عن تحقيقهم الانتشار بين شريحة من الزبائن يتمتع بعضهم بإمكانيات مادية عالية، ويمكن أن يتحولوا إلى هواة لاقتناء التحف الفنية مستقبلاً.