بعد «كوكب الشرق» و«العندليب»... حكيم يعتلي خشبة «الأولمبيا»

في إطار جولة فنية أوروبية لتنشيط السياحة ودعم صندوق «تحيا مصر»

حكيم أمام ملصق إعلاني لفيلمه «أسد مصر» في باريس -      أم كلثوم أمام إعلان حفلها في باريس عام 1967
حكيم أمام ملصق إعلاني لفيلمه «أسد مصر» في باريس - أم كلثوم أمام إعلان حفلها في باريس عام 1967
TT

بعد «كوكب الشرق» و«العندليب»... حكيم يعتلي خشبة «الأولمبيا»

حكيم أمام ملصق إعلاني لفيلمه «أسد مصر» في باريس -      أم كلثوم أمام إعلان حفلها في باريس عام 1967
حكيم أمام ملصق إعلاني لفيلمه «أسد مصر» في باريس - أم كلثوم أمام إعلان حفلها في باريس عام 1967

يعتلي الفنان المصري حكيم خشبة مسرح الأولمبيا في 23 من الشهر الجاري، ليكون ثالث مطرب مصري يحيي حفلاً فيه، بعد كوكب الشرق أم كلثوم، والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.
يأتي حفل المطرب الشعبي، ضمن جولة فنية أوروبية له، تبدأ الشهر الجاري بالتعاون مع هيئة تنشيط السياحة المصرية، وأعلن السبت الماضي عن تفاصيلها في مؤتمر صحافي بالقاهرة، بحضور هشام الدميري رئيس هيئة تنشيط السياحة، وستيفان روماتيه، السفير الفرنسي لدى مصر.
قال حكيم في المؤتمر الصحافي: «شرف كبير لي أن أغني على هذا المسرح، ومنذ 20 سنة، كنت أسعى لتلك الفرصة، كوني أمثل مصر والثقافة العربية، وأعتبر نفسي جزءا بسيطا جدا منها». وأضاف: «أود أن أقدم كل ما يمكنني تقديمه للسياحة المصرية، من خلال الأغنية الشعبية التي هي جزء من ثقافتنا وفنوننا».
وأكد حكيم: «لن يفوتني في كل حفلة سأغني فيها على كل مسرح أوروبي، إلقاء كلمة مهمة لتشجيع السياحة في بلدي مصر، ودعوة جماهيري من الأجانب لزيارة المعالم السياحية». كما أعلن أن دخل الحفل سيقدمه للمشروعات القومية والخيرية المصرية، مساهمة منه في دعمها. ومن بين هذه المشروعات: صندوق «تحيا مصر»، ومؤسسة مجدي يعقوب، ومستشفى 500500 لعلاج الأورام.
من جانبه، أكد هشام الدميري، رئيس هيئة تنشيط السياحة، على أنّ الهدف من الجولة الأوروبية للفنان حكيم، هو بعث رسالة للعالم بأنّ مصر بلد الفنون والتراث والعراقة، وأنها بلد يرفض العنف والإرهاب، معتبراً أنّ «الجولة الفنية للفنان حكيم ستساهم في تحسين صورة مصر أمام العالم، من خلال تقديم صورة جميلة عن الفن المصري».
يبدأ حكيم جولته منتصف الشهر المقبل، في مسرح «أبولو» بمدينة برشلونة، ليحيي بعده حفلاً في مسرح «ترانسبوردير» في مدينة ليون الفرنسية. وفي 21 من الشهر نفسه، يتوجه حكيم إلى هولندا لإحياء حفل غنائي آخر في مسرح «مليك ويج» بمدينة أمستردام، ثم يختتم الجولة بأربع حفلات في مدن فرنسية، مختلفة منها: باريس وتولوز ومارسيليا ومونبلييه.
ويأتي إعلان حكيم عن تبرعه بأجره لمساندة مصر، ليذكّر بمواقف كل من «كوكب الشرق» و«العندليب». كانت أم كلثوم قد أحيت حفلها بباريس في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1967، وكان الحفل حسب ما نشرته الصحف آنذاك بمبادرة من الجنرال شارل ديغول رئيس فرنسا، عندما قال: «لقد خرج العرب بعد هزيمة 67 بمأساة، وأريد من أم كلثوم رفع معنويات العرب هنا في فرنسا»، وقد قبلت أم كلثوم الدعوة بهدف رفع الروح المعنوية، والحصول على مبالغ مالية كبيرة تساهم في المجهود الحربي.
تغنت أم كلثوم لمدة 5 ساعات بحضور الرئيس الفرنسي، والنجم الكبير جيرار ديبارديو، وكبار الشخصيات العربية والفرنسية، وظل حفل «كوكب الشرق» الحدث الفني الأكبر على مسرح الأولمبيا، وأهم الأحداث الفنية في القرن العشرين، وتلقت أم كلثوم أعلى أجر لمطرب غنى على هذا المسرح. قدم الحفل الإذاعي جلال معوض، وكانت أم كلثوم ترتدي فستانا أخضر اللون، وما إن ظهرت على المسرح، حتى دوت القاعة بالتصفيق الحاد الذي استمر 10 دقائق كاملة، وهذا يعتبر رقما قياسيا لم يشهده «الأولمبيا» من قبل، وحققت أم كلثوم أرباحاً وصلت إلى 212 ألف جنيه إسترليني، ذهبت كلها للمجهود الحربي. وكتب لها الرئيس الفرنسي برقية لتهنئتها على نجاح حفلها: «لقد لمست بصوتك سيدتي، أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعاً».
أما «العندليب»، فكان حفله عام 1974 من أهم الحفلات العربية هناك أيضا، خصوصا أنه جاء بعد انتصارات أكتوبر (تشرين الأول) المجيدة. وصل عدد الحضور إلى أكثر من 7 آلاف من المصريين والعرب المقيمين في باريس، بالإضافة إلى حشد هائل من الفرنسيين، ووصل ثمن التذكرة إلى مئات الفرنكات، وعلى الرّغم من ذلك فإن المسرح قد اكتظ عن آخره بالجمهور، ولم يكن هناك مقعد خالٍ في المسرح.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)