جرت العادة أن يستثمر رجال الأعمال ومجموعات الضغط في صحف ومواقع وقنوات إخبارية للدفع بمصالحهم، سواء كانت سياسية أو تجارية. لكنه من النادر أن تنجح وسائل الإعلام في اقتحام الدوائر السياسية، ناهيك عن أقوى إدارة في العالم. ذلك ما نجحت شبكة «بريتبارت» الإعلامية في تحقيقه خلال فترة قصيرة نسبيا، بعد أن كانت منبوذة من طرف جزء كبير من النخبة السياسية في واشنطن لآرائها التي وُصفت بالمحرّضة على العنف والتفرقة. وتبوّأ ستيف بانون، الرئيس التنفيذي للموقع الإخباري، منصب مدير حملة دونالد ترمب الانتخابية، قبل أن يتسلم منصب كبير استراتيجيي البيت الأبيض لفترة لم تتجاوز 8 أشهر. وألهم بانون الكثير من شعارات ترمب الانتخابية وساهم في تحديد أولوياته الرئاسية، وهي الأولويات نفسها التي تبناها «بريتبارت» ودفع بها.
وبينما لا يتمتّع الموقع الإخباري اليميني بالشهرة، ولا المصداقية، التي تحظى بها وسائل إعلام أميركية أخرى مثل صحف «نيويورك تايمز» أو «واشنطن بوست» أو حتى موقع «بازفيد»، إلا أنه أصبح الموقع اليميني المحافظ الأكثر شعبية بعد تولي دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
فما هو «بريتبارت»، وهل أصبح فعلا مقياسا لتوجهات الإدارة الأميركية؟ وهل يمكن اعتباره لسان البيت الأبيض غير الرسمي؟
فكرة إسرائيلية ونشأة أميركية
قرر أندرو بريتبارت، وهو إعلامي أميركي يميني اشتغل لصالح رواد المواقع الإخبارية مثل أريانا هافينغتون ومات درودج واشتهر بمساهماته الصحافية في صحيفة «واشنطن تايمز» وموقع «درودج ريبورت» وبآرائه النقدية للإعلام التقليدي، عام 2007 إنشاء شبكة إخبارية إلكترونية خاصة به.
وروى لاري سولوف، محامي أندرو والشريك المؤسس لموقع بريتبارت، في مقال رأي نشره عام 2015 أنه رافق أندرو في رحلة صحافية إلى إسرائيل عام 2007، وفاجأه الأخير ذات ليلة في القدس بفكرة إنشاء شبكة إعلامية «تدعم الحرية وإسرائيل».
وقال سولوف: «طلب مني (أندرو) الانسحاب من شركة المحاماة التي كنت شريكا بها والتي تعدّ 800 موظف، لأشارك معه في مشروع إعلامي». وتابع: «ربما كان ذلك تحت تأثير المكان التاريخي الذي كنا نوجد به، لكنني وافقت»، على حد تعبيره. وأضاف: «أتذكر أننا ناقشنا في تلك الليلة رغبتنا في إنشاء موقع يؤيد الحرية ويؤيد إسرائيل».
وأطلق أندرو بريتبارت، الذي أدرك أهمية الإعلام الرقمي، في البداية موقعا يقدم خدمة إخبارية عبر انتقاء وتجميع قصص صحافية من الوكالات وقنوات مثل «فوكس نيوز» وإعادة نشرها، قبل أن ينشئ في 2008 و2009 و2010 ثلاثة موقع إخبارية مرتبطة بالموقع الأم، لُقّبت بـ«الكبار الثلاثة»، هي «هوليود الكبير» و«الحكومة الكبيرة» و«الصحافة الكبيرة». وعكست هذه المواقع السياسة التحريرية لأندرو بريتبارت وشركائه، مع انضمام محررين وصحافيين يحملون توجهات سياسية معادية لليسار واليمين المعتدل والإعلام التقليدي.
اشتهر بريتبارت في 2010 و2011 بسلسلة من القصص الكاذبة، التي اعتمدت في حالات عديدة على تلاعب بمقاطع فيديو. واشتهر منها مقطع لمسؤولة في وزارة الزراعة الأميركية، تدعى شيرلي شيرود، تدلي بتصريحات عنصرية، ما أدى إلى طردها من الوزارة. وتبين بعد ذلك أنه تم التلاعب بالفيديو، وأنها كانت في الحقيقة تنتقد التصريحات العنصرية.
في المقابل، استعاد الموقع بعضا من ثقة قراءه، بعد أن فجّر فضيحة في عام 2011 حول النائب الديمقراطي عن نيويورك، أنثوني وينر، الذي استخدم موقع «تويتر» لإرسال صورة خادشة للحياء لسيدة في العشرينات من عمرها، ما دفعه إلى الاستقالة في 23 من يونيو (حزيران).
«هافينغتون بوست اليمين»
تحت إشراف مؤسسه، اكتسب بريتبارت مكانة بارزة في الإعلام الأميركي عبر نشره سلسلة من القصص والفضائح حول سياسيين ليبراليين وبيروقراطيين ومنظمات، كما أوردت صحيفة «نيويورك تايمز». وأصبح الموقع منبوذا من طرف الديمقراطيين والوسطيين وبعض الجمهوريين الذين اعتبروا أنه يحرض على الانقسام السياسي والكراهية ويروج لقصص صحافية مضللة. في المقابل، يجد فيه قراؤه اليمينيون منصّة لمواجهة الإعلام التقليدي والليبرالي.
وسلط الضوء على بريتبارت بشكل أكبر مع التحاق المصرفي ستيف بانون بفريقه، وتصريحه بأنه سيجعل الموقع الإخباري «هافينغتون بوست» اليمين. ولم يبرز ستيف بانون، الذي يربط اسمه اليوم بالموقع الإخباري المثير للجدل، ضمن الفريق الإعلامي إلا بعد وفاة أندرو بريتبارت عام 2012 بسكتة قلبية. واصل بانون مشروع أندرو بإطلاق موقع محدث وشامل للثلاثة الكبار تحت اسم واحد. وعمل على توسيع فريق بريتبارت، وافتتح في 2014 مكتبا جديدا على رأس كل 90 يوما، وأصبح للموقع مكاتب بتيكساس وفلوريدا وكاليفورنيا ولندن والقدس والقاهرة.
بانون أو عرّاب «بريتبارت»
بدأ بانون مطلع الثمانينات خدمته ضابطاً في البحرية، وقضى 4 سنوات بصفة مهندس مساعد على متن مدمرة، ثم أصبح المساعد الخاص لقائد العمليات البحرية في وزارة الدفاع بالتزامن مع دراسته في جامعة جورج تاون، للحصول على شهادة في دراسات الأمن القومي. في الثمانينات، ونتيجة إعجابه الشخصي المتزايد بالرئيس رونالد ريغان، توجه بانون لدراسة إدارة الأعمال في جامعة هارفارد، وانتقل منها إلى مصرف «غولدمان ساكس»، أشهر المؤسسات المصرفية في الولايات المتحدة، قبل أن يغادره ويؤسس مصرفاً صغيراً للاستثمارات، حمل اسم «بانون وشركاه». واستحوذ على المصرف بنك «سوسيتيه جنرال» في عام 1998.
وغير بانون مسيرته المهنية بعد ذلك، وقرر الاستثمار في مجال الإعلام، متجهاً ناحية هوليوود. وسرعان ما أنتج وثائقيا يحمل اسم «في مواجهة الشر»، لتوثيق الأحداث السياسية التي شهدتها الولايات المتحدة تحت قيادة ريغان. وأنتج بعد ذلك أفلاما أخرى تعكس اهتماماته السياسية اليمينية، وشملت «حزب الشاي»، والسياسية المثيرة للجدل سارة بالين، وغيرها.
التقى بانون بأندرو بريتبارت في عام 2004، وتبلورت فكرة إنشاء «بريتبارت»، لكن بانون لم يتحمل مسؤولية الموقع إلا بعد رحيل مؤسسه. أدار بانون فريق عمل الموقع، الذي تحول إلى منبر لحركة «حزب الشاي» في نظر الكثيرين، خاصة عقب فوز باراك أوباما بولايته الأولى. وفيما نجح بانون في تطوير بريتبارت، إلا أن الكثيرين من فريق أندرو انتقدوا الرئيس التنفيذي الجديد، واعتبروا أنه ابتعد عن «إرث المؤسس». وقال بين شابيرو، صديق أندرو وأحد كبار المحررين بالموقع، إن «المؤسس (أندرو) كان يهدف لمواجهة المتنمرين في السياسة. وأنشأ موقع (بريتبارت) لمحاربتهم». وقدم شابيرو استقالته من هيئة تحرير الموقع، معترضا على التوجه الذي فرضه بانون على الموقع.
حماية الرئيس من «أعدائه»
أثارت عودة كبير مستشاري البيت الأبيض إلى حضن المؤسسة الإعلامية اليمينية جدلا واسعا في الساحتين الإعلامية والسياسية. وفيما عبّر سياسيون عن مخاوفهم من تداعيات التحاق بانون الذي شارك في اجتماعات بالغة السرية خلال عمله في البيت الأبيض بـ«بريتبارت»، رأى آخرون في ذلك فرصة لجس نبض اهتمامات الرئيس ترمب.
فبعد ساعات من مغادرته منصب كبير المستشارين في البيت الأبيض منتصف الشهر الماضي، التحق بانون باجتماع تحرير في موقع «بريتبارت» وأكّد في تصريح صحافي نادر أنه «سيحارب، مع الرئيس ترمب، أعداه»، في إشارة إلى «الإعلام الكاذب».
ويرى الكثيرون أن «بريتبارت» تقود الحروب الإعلامية التي لا يستطيع الرئيس الحالي قيادتها، حتى إنه يهاجم أحيانا المقربين من ترمب لتوجهاتهم «الغامضة» باعتباره. وقبل فترة قصيرة من إقالة بانون من منصبه، شن «بريتبارت» حملة ضد ابنة ترمب إيفانكا، وصهره جاريد كوشنر ولقّبهم بـ«ديمقراطيي» البيت الأبيض. كما هاجم الموقع استراتيجية ترمب في أفغانستان القاضية بتعزيز عدد الجنود الأميركيين بها، إلا أنه سرعان ما عاد لدعم الرئيس في معاركه في الكونغرس المتعلقة بتمويل جدار المكسيك الحدودي وإلغاء واستبدال نظام الرعاية الصحية «أوباماكير».
وفي تصريحات صحافية أذيعت في مقابلة تلفزيونية أمس، أعاد بانون تأكيده أنه سيواصل حماية الرئيس الأميركي من «أعدائه». وركز بانون على قضية الهجرة، في دفاعه عن قرار توجه الرئيس لإلغاء برنامج «الحالمين للمهاجرين الصغار، وهاجم الكنيسة الكاثوليكية واتهمها بدعم الهجرة بدافع «المصلحة الاقتصادية».
وبثت قناة «سي بي إس» مقتطفات من حلقة برنامجها الحواري «60 دقيقة» مع بانون (63 عاما)، الذي وصف نفسه بأنه «محارب شارع (...) أنا محارب، لذلك أنا ودونالد ترمب على اتفاق كبير». وأضاف مصرفي الأعمال السابق: «سأكون سندا له من الخارج على الدوام، لحمايته. هدفنا دعمه، لكي يعي أعداؤه أنه لن يكون هدفا سهلا».
واتخذ مثالا الجدل الذي أثارته تصريحات ترمب بعد أعمال عنف تخللت مظاهرة لليمين المتطرف، قابلها تجمع لمناهضي العنصرية في مدينة شارلوتسفيل وأسفرت عن مقتل امرأة، بعدما وضع اللوم على المعسكرين على قدم المساواة.
وقال بانون: «أنا الوحيد الذي تكلم محاولا الدفاع عنه. عندما يتحالف المرء مع أحدهم، فعليه البقاء إلى جانبه»، مضيفا: «إن كنتم ضعفاء فعليكم بالاستقالة»، في إشارة إلى كبير المستشارين الاقتصاديين لدى ترمب غاري كون، الذي صرح بأن الرئيس كان يمكنه اتخاذ «موقف أفضل» من أحداث شارلوتسفيل. وشدد بانون على إدانة منظمي هذا التجمع، مؤكدا أن «لا مكان في السياسة الأميركية... للنازيين الجدد والكونفدراليين (الجنوب الأميركي أثناء الحرب الأهلية) الجدد وجماعة كو كلوكس كلان» العنصرية، كما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية.
كما انتقد ممثلي الكنيسة الكاثوليكية الأميركية التي نددت بإلغاء ترمب لبرنامج «داكا» أو «الحالمين» الذي أقامه سلفه باراك أوباما لحماية نحو 800 ألف مهاجر شاب مهاجر من الترحيل، كانوا قاصرين عندما وفدوا إلى الولايات المتحدة مع أهلهم، ويجيز لهم الدراسة والعمل ولو مؤقتا. وقال إن «سلوك الأساقفة كان فظيعا»، مضيفا أنهم «يحتاجون إلى المهاجرين السريين لملء كنائسهم»، و«لديهم مصلحة اقتصادية في هجرة مفتوحة، هجرة غير مشروعة مفتوحة». وتابع: «أحترم البابا والكرادلة والأساقفة فيما يتعلق بالديانة، لكننا نتحدث هنا عن سيادة أمة، وفي هذا الموضوع ليسوا إلا أفرادا لديهم آراء».
حليف «مشروط» للبيت الأبيض
قفزت نسبة قراء «بريتبارت» من 2.9 مليون زائر في 2012 إلى 17 مليونا في 2016، وفق إحصائيات نشرتها صحيفة «واشنطن بوست»، ليصبح بذلك أكثر موقع محافظ أميركي قراءة. ويمكن إرجاع هذا الارتفاع الهائل في الزيارات إلى تميّز الموقع بمقابلات حصرية مع المرشح الجمهوري، آنذاك، دونالد ترمب، ومشاركاته المتكررة في برنامج ستيف بانون.
وبينما كسب الموقع الإخباري قاعدة قراء جديدة، إلا أنه واجه سيلا من الانتقادات اعتبرته «ناديا يتجمع فيه معجبو ترمب، على حد تعبير هيئة الإذاعة البريطانية، وابتعاده عن أسباب إنشائه. وهو ما أشار إليه شابيرو في انتقاد آخر لقيادة بانون، وكتب في مقال رأي نشره في موقع «ديلي واير» في أغسطس (آب) من العام الماضي أن «بريتبارت أصبح موقع ترمب الشخصي»، لافتا إلى أنه قرر الاستقالة في مارس (آذار) 2016 بعد أن أصبح واضحا أن ولاء «بريتبارت» لترمب يفوق ولاءه لموظفيه.
ورد رئيس تحرير «بريتبارت» على هذه الاتهامات في مقابلة مع «نيويورك تايمز»، قال فيها: «ولاؤنا ليس لدونالد ترمب، ولاؤنا لقرائنا وقيمنا». وتابع: «إذا تراجع ترمب عن القيم والوعود التي قطعها للناخبين والتي أدّت إلى فوزه بالانتخابات الرئاسية، فإننا سنصبح من أشد منتقديه».