«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»... عودة مثيرة لتنظيم متماسك

على عكس التفكك الذي أصاب تنظيم «البغدادي» في العراق وسوريا

«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»... عودة مثيرة لتنظيم متماسك
TT

«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»... عودة مثيرة لتنظيم متماسك

«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»... عودة مثيرة لتنظيم متماسك

تشير مجموعة من الأحداث والوقائع منذ مارس (آذار) 2017، إلى عودة فعلية وقوية «لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». فعلى عكس التفكك الذي أصاب «خلافة البغدادي» بالعراق وسوريا، جمع الزعيم التاريخي الطارقي إياد أغ غالي، الخميس 2 مارس 2017، في وحدة اندماجية، كلّا من «جماعة أنصار الدين» و«جبهة تحرير ماسينا» و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى» و«تنظيم المرابطين»، في تنظيم جديد باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». واختارت وثيقة الإعلان رؤية تنظيم القاعدة وقدمت البيعة لقيادة التنظيم أيمن الظواهري؛ وأكدت على الوفاء لأمير القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، وأمير حركة طالبان الملا هيبة الله.

مباشرة بعد هذا الإعلان، نفذ التنظيم الجديد سلسلة من الهجمات بكل من الجزائر ومالي وبوركينافاسو، والنيجر. فقد أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، تبنيها لأول عملية، عبر الجناح الإعلامي للتنظيم «مؤسسة الزلاقة»، التي أوضحت أن الهجوم الذي تعرضت له قاعدة بوليسكي العسكرية المالية قرب الحدود مع بوركينافاسو، يوم الأحد 5 مارس 2017 قام به مقاتلون من الجماعة الجديدة. وأكد الجيش المالي الخبر، موضحا أن الهجوم أسفر عن مقتل 11 من عناصره، ومتهما جماعة «أنصار الإسلام في بوركينافاسو» التي يقودها «ملام إبراهيم جيكو»، بالوقوف وراء هذا العمل الإرهابي.
وفي يوم الاثنين 14 أغسطس (آب) 2017، قام التنظيم الإرهابي الجديد بالهجوم على مطعم تركي، بالعاصمة البوركينية واغادوغو ، وقتل مهاجمون من عناصر «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» 18 شخصا. وبعد ذلك، شن التنظيم التابع لـ«القاعدة» هجوما على قوات الأمم المتحدة يوم الثلاثاء 15 أغسطس 2017، أسفر عن مقتل سبعة أشخاص، بينهم خمسة من حراس بعثتها لحفظ السلام في مالي «المينسما»؛ كما أصاب ستة من القبعات الزرق في هجوم آخر على المقر العام للبعثة في مدينة تمبكتو التاريخية.
وتأتي الهجمات الإرهابية الأخيرة ببرشلونة الإسبانية، والتي خلفت 15 قتيلا ونحو 100 جريح لتعيد ملف «قاعدة المغرب الإسلامي» لواجهة الاهتمام الدولي من جديد؛ في سياق دولي مشغول بخطورة الإرهاب والهجرة السرية على أمن واستقرار الدول الأوروبية ودول البحر الأبيض المتوسط، وبخاصة أمام فشل بعض دول الساحل في السيطرة على أراضيها وكذا الحرب الأهلية في ليبيا.
وفي الوقت الذي سارع كثير من المحللين لاتهام تنظيم البغدادي في الوقوف وراء عملية الدهس الأخيرة بناءً على ما أورده تنظيم داعش من تبني للعملية عبر وكالته «دابق». لم يتبين إلى اليوم بشكل حاسم الانتماء التنظيمي إلى الشباب الذين نفذوا وخططوا للهجوم؛ كما لم يصدر عن إسبانيا والمغرب باعتبارهما الدولتين المعنيتين بالعملية اتهام رسمي لـ«داعش». ومما يزيد من شرعية التساؤل عن الخلفية الفكرية والتنظيمية للإرهابيين، اكتشاف ارتباطهم بخلية مغربية، وتمكن الأمن المغربي من إلقاء القبض على مشاركين في العملية الأخيرة على التراب المغربي، أحدهما يبلغ من العمر 28 عاما وعاش في برشلونة 12 سنة، واعتُقل في مدينة الناظور القريبة من مدينة مليلية المحتلة من إسبانيا.
أكثر من ذلك، تبين أن بصمات تنظيم «القاعدة» حاضرة بقوة في العمل الهمجي الأخير. فالهجوم الذي كان وراءه 15 فردا من أصول مغربية، تبين فيما بعد أن لهم سوابق تنظيمية مع القاعدة. حيث كشفت صحيفة «آ بـس» عن تقرير سري للشرطة القضائية الإسبانية يميل بناء على معلومات، إلى احتمال كون اعتداء برشلونة هو سلسلة من أعمال وراءها إرهابيون لهم ارتباط بتنظيم أيمن الظواهري.
وذهب التقرير إلى الربط بين الأحداث الأخيرة واعتداء 16 مايو (أيار) 2003 التي شهدتها مدينة الدار البيضاء المغربية. وأشار التقرير إلى انتماء أحد المشاركين في الهجوم الأخير الإمام عبد الباقي إلى «القاعدة»، وكان ذلك وراء طلب المحققين الإسبان من القضاء التنصت على هاتف الإمام منذ (2005)؛ للتأكد من ارتباطه بتنظيمين إرهابيين، هما «أنصار الإسلام» و«الجماعة الإسلامية المغربية المقاتلة»، المتهمة بكونها من يقف وراء اعتداء 11 مارس بمدريد 2004، واعتداء 16 مايو بالدار البيضاء المغربية 2003.
في هذا السياق، يعتبر أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة أليكانتي، إجناثيو ألباريث أوسوريو، أن برشلونة ونواحيها، ظلت حاضرة في التاريخ الإرهابي لـ«القاعدة». وذكر أن أحد الاجتماعات التحضيرية استعدادا لهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لعام 2001 بأميركا تم في كاتالونيا. كما عاد لطريقة تنفيذ الهجوم الإرهابي العنيف بمدريد عام 2004 الذي خلّف 192 قتيلا، وفرار منفذي هذه الهجمة إلى بلدة سانتا كولوما دي جرامانيت القريبة من برشلونة؛ ومن هنا يمكن اعتبار هذه المدينة إحدى البؤر الرئيسية القديمة للإرهاب في أوروبا، القريبة من جغرافية تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
ويبدو أن هناك عوامل مساعدة على العودة القوية، نذكر منها: أولا، التراجع الكبير الذي أصاب تنظيم داعش وتبخر حلم «الخلافة» على أرض العراق وسوريا. وثانيا استغلال «القاعدة بالمغرب الإسلامي» للتركيز الدولي على محاربة «داعش» في منطقة الشرق الأوسط، وتعقد الوضع القبلي والإثني بدول الساحل والصحراء، وكذلك فشل الدولة الليبية وغرقها في حرب أهلية معقدة، لا يبدو أنها ستحل قريبا.
ثالثا، تسويق «القاعدة» نفسها في السنوات الثلاثة الماضية باعتبارها منظمة معتدلة وغير متوحشة، وأن هدفها في المغرب الإسلامي هو الدفاع عن المسلمين ومحاربة الصليبيين الغزاة المستعمرين.
رابعا، كون تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» أكد في مناسبات عدة، أنه لا شرعية لتنظيم داعش وزعيمه أبي بكر البغدادي بشمال أفريقيا ودول الساحل. وسبق لأمير منطقة الصحراء الكبرى بتنظيم «قاعدة المغرب الإسلامي»، جمال عكاشة (يحيى أبو الهمام)، أن أكد في مقابلة حصرية لموقع «وكالة الأخبار» الموريتانية المستقلة، أن علاقة القاعدة بجماعة أبي الوليد الصحراوي التي حاولت الانشقاق عن «القاعدة» في 13 مايو 2015، ومبايعة تنظيم الدولة لا تزال «حتى الآن علاقة عادية وعلى اتصال معها».
خامسا، ورغم ما عاشه التنظيم من مصاعب ناتجة من خلافات تنظيمية طيلة سنتي 2015 و2016. وكذلك قوة المواجهات مع التحالف الدولي بقيادة فرنسا؛ فإنه يمكن التأكيد اليوم، أن التنظيم استعاد كثيرا من قوته التنظيمية، وتوسع من حيث حاضنته القبلية والاجتماعية، سواء في ليبيا أو جنوب الجزائر أو مالي وتونس والشرق الموريتاني، وأن زعامة إياد أغ غالي، تعني نهاية عصر الانشقاقات.
وهذه الظروف ستساعد التنظيم على الاستفادة من مئات الدواعش المغاربة والتونسيين الذين عادوا من العراق وسوريا. وبخاصة بعد إعلان جماعة أنصار الشريعة الليبية حل نفسها يوم السبت 27 مايو 2017؛ الشيء الذي يعني موت تنظيم داعش بشمال أفريقيا، وانتصارا كبيرا لآيديولوجية تنظيم «القاعدة»، على أشرس منافس له منذ التأسيس على يد أسامة بن لادن.
وكان تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» وهو المعروف اختصارا بـ«AQMI»، أول تنظيم إرهابي عالمي بشمال أفريقيا ودول الساحل. ظهر بقوة على إثر الحرب الأهلية الجزائرية في تسعينات القرن الماضي. ورغم وجود الجماعة المتشددة والمسلحة منذ 1982 التي أسسها «مصطفى بويعلي» على التراب الجزائري؛ فقد عاشت المجموعات الإرهابية الجزائرية نوعا من الفوضى والتناحر، ليأخذ تاريخ الإرهاب بالمنطقة مسارا آخر بعد انشقاق «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» عن الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وانضمامها إلى تنظيم القاعدة عام 2003 بعد تقديم البيعة للزعيم أسامة بن لادن. ومنذ ذلك التاريخ ظهر اسم «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» ليعرف به فرع التنظيم بشمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء.
ويبدو أن الحرب الأهلية التي تعيشها اليوم ليبيا، والنزاعات التي تمزق دولة مالي، تجعل من تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، الوجهة المفضلة لجيل جديد من الإرهابيين بشمال أفريقيا ودول الساحل. ويمكن القول: إن التنظيم استعاد كثيرا من قوته وقدرته على الاندماج التنظيمي والتوسع الجغرافي، حيث وصلت عملياته كلا من بوركينافاسو، وتشاد، والنيجر، وليبيا، وتونس والجزائر... كما أن تنظيماته الممتدة بين الصومال ونيجيريا تعرف تواصلا وتعاونا متزايدا وفقا لتقارير استخباراتية وخبراء غربيين.
وهذا يعني أن قدرة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بعد الوحدة الاندماجية التي قادها إياد أغ غالي بين فصائله الأربع القوية بشمال أفريقيا ودول الساحل، ستشكل منعطفا في تاريخ التنظيم وقدرته على المواجهة، والوصول للتراب الأوروبي.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.