«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»... عودة مثيرة لتنظيم متماسك

على عكس التفكك الذي أصاب تنظيم «البغدادي» في العراق وسوريا

«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»... عودة مثيرة لتنظيم متماسك
TT

«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»... عودة مثيرة لتنظيم متماسك

«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»... عودة مثيرة لتنظيم متماسك

تشير مجموعة من الأحداث والوقائع منذ مارس (آذار) 2017، إلى عودة فعلية وقوية «لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». فعلى عكس التفكك الذي أصاب «خلافة البغدادي» بالعراق وسوريا، جمع الزعيم التاريخي الطارقي إياد أغ غالي، الخميس 2 مارس 2017، في وحدة اندماجية، كلّا من «جماعة أنصار الدين» و«جبهة تحرير ماسينا» و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى» و«تنظيم المرابطين»، في تنظيم جديد باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». واختارت وثيقة الإعلان رؤية تنظيم القاعدة وقدمت البيعة لقيادة التنظيم أيمن الظواهري؛ وأكدت على الوفاء لأمير القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، وأمير حركة طالبان الملا هيبة الله.

مباشرة بعد هذا الإعلان، نفذ التنظيم الجديد سلسلة من الهجمات بكل من الجزائر ومالي وبوركينافاسو، والنيجر. فقد أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، تبنيها لأول عملية، عبر الجناح الإعلامي للتنظيم «مؤسسة الزلاقة»، التي أوضحت أن الهجوم الذي تعرضت له قاعدة بوليسكي العسكرية المالية قرب الحدود مع بوركينافاسو، يوم الأحد 5 مارس 2017 قام به مقاتلون من الجماعة الجديدة. وأكد الجيش المالي الخبر، موضحا أن الهجوم أسفر عن مقتل 11 من عناصره، ومتهما جماعة «أنصار الإسلام في بوركينافاسو» التي يقودها «ملام إبراهيم جيكو»، بالوقوف وراء هذا العمل الإرهابي.
وفي يوم الاثنين 14 أغسطس (آب) 2017، قام التنظيم الإرهابي الجديد بالهجوم على مطعم تركي، بالعاصمة البوركينية واغادوغو ، وقتل مهاجمون من عناصر «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» 18 شخصا. وبعد ذلك، شن التنظيم التابع لـ«القاعدة» هجوما على قوات الأمم المتحدة يوم الثلاثاء 15 أغسطس 2017، أسفر عن مقتل سبعة أشخاص، بينهم خمسة من حراس بعثتها لحفظ السلام في مالي «المينسما»؛ كما أصاب ستة من القبعات الزرق في هجوم آخر على المقر العام للبعثة في مدينة تمبكتو التاريخية.
وتأتي الهجمات الإرهابية الأخيرة ببرشلونة الإسبانية، والتي خلفت 15 قتيلا ونحو 100 جريح لتعيد ملف «قاعدة المغرب الإسلامي» لواجهة الاهتمام الدولي من جديد؛ في سياق دولي مشغول بخطورة الإرهاب والهجرة السرية على أمن واستقرار الدول الأوروبية ودول البحر الأبيض المتوسط، وبخاصة أمام فشل بعض دول الساحل في السيطرة على أراضيها وكذا الحرب الأهلية في ليبيا.
وفي الوقت الذي سارع كثير من المحللين لاتهام تنظيم البغدادي في الوقوف وراء عملية الدهس الأخيرة بناءً على ما أورده تنظيم داعش من تبني للعملية عبر وكالته «دابق». لم يتبين إلى اليوم بشكل حاسم الانتماء التنظيمي إلى الشباب الذين نفذوا وخططوا للهجوم؛ كما لم يصدر عن إسبانيا والمغرب باعتبارهما الدولتين المعنيتين بالعملية اتهام رسمي لـ«داعش». ومما يزيد من شرعية التساؤل عن الخلفية الفكرية والتنظيمية للإرهابيين، اكتشاف ارتباطهم بخلية مغربية، وتمكن الأمن المغربي من إلقاء القبض على مشاركين في العملية الأخيرة على التراب المغربي، أحدهما يبلغ من العمر 28 عاما وعاش في برشلونة 12 سنة، واعتُقل في مدينة الناظور القريبة من مدينة مليلية المحتلة من إسبانيا.
أكثر من ذلك، تبين أن بصمات تنظيم «القاعدة» حاضرة بقوة في العمل الهمجي الأخير. فالهجوم الذي كان وراءه 15 فردا من أصول مغربية، تبين فيما بعد أن لهم سوابق تنظيمية مع القاعدة. حيث كشفت صحيفة «آ بـس» عن تقرير سري للشرطة القضائية الإسبانية يميل بناء على معلومات، إلى احتمال كون اعتداء برشلونة هو سلسلة من أعمال وراءها إرهابيون لهم ارتباط بتنظيم أيمن الظواهري.
وذهب التقرير إلى الربط بين الأحداث الأخيرة واعتداء 16 مايو (أيار) 2003 التي شهدتها مدينة الدار البيضاء المغربية. وأشار التقرير إلى انتماء أحد المشاركين في الهجوم الأخير الإمام عبد الباقي إلى «القاعدة»، وكان ذلك وراء طلب المحققين الإسبان من القضاء التنصت على هاتف الإمام منذ (2005)؛ للتأكد من ارتباطه بتنظيمين إرهابيين، هما «أنصار الإسلام» و«الجماعة الإسلامية المغربية المقاتلة»، المتهمة بكونها من يقف وراء اعتداء 11 مارس بمدريد 2004، واعتداء 16 مايو بالدار البيضاء المغربية 2003.
في هذا السياق، يعتبر أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة أليكانتي، إجناثيو ألباريث أوسوريو، أن برشلونة ونواحيها، ظلت حاضرة في التاريخ الإرهابي لـ«القاعدة». وذكر أن أحد الاجتماعات التحضيرية استعدادا لهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لعام 2001 بأميركا تم في كاتالونيا. كما عاد لطريقة تنفيذ الهجوم الإرهابي العنيف بمدريد عام 2004 الذي خلّف 192 قتيلا، وفرار منفذي هذه الهجمة إلى بلدة سانتا كولوما دي جرامانيت القريبة من برشلونة؛ ومن هنا يمكن اعتبار هذه المدينة إحدى البؤر الرئيسية القديمة للإرهاب في أوروبا، القريبة من جغرافية تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
ويبدو أن هناك عوامل مساعدة على العودة القوية، نذكر منها: أولا، التراجع الكبير الذي أصاب تنظيم داعش وتبخر حلم «الخلافة» على أرض العراق وسوريا. وثانيا استغلال «القاعدة بالمغرب الإسلامي» للتركيز الدولي على محاربة «داعش» في منطقة الشرق الأوسط، وتعقد الوضع القبلي والإثني بدول الساحل والصحراء، وكذلك فشل الدولة الليبية وغرقها في حرب أهلية معقدة، لا يبدو أنها ستحل قريبا.
ثالثا، تسويق «القاعدة» نفسها في السنوات الثلاثة الماضية باعتبارها منظمة معتدلة وغير متوحشة، وأن هدفها في المغرب الإسلامي هو الدفاع عن المسلمين ومحاربة الصليبيين الغزاة المستعمرين.
رابعا، كون تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» أكد في مناسبات عدة، أنه لا شرعية لتنظيم داعش وزعيمه أبي بكر البغدادي بشمال أفريقيا ودول الساحل. وسبق لأمير منطقة الصحراء الكبرى بتنظيم «قاعدة المغرب الإسلامي»، جمال عكاشة (يحيى أبو الهمام)، أن أكد في مقابلة حصرية لموقع «وكالة الأخبار» الموريتانية المستقلة، أن علاقة القاعدة بجماعة أبي الوليد الصحراوي التي حاولت الانشقاق عن «القاعدة» في 13 مايو 2015، ومبايعة تنظيم الدولة لا تزال «حتى الآن علاقة عادية وعلى اتصال معها».
خامسا، ورغم ما عاشه التنظيم من مصاعب ناتجة من خلافات تنظيمية طيلة سنتي 2015 و2016. وكذلك قوة المواجهات مع التحالف الدولي بقيادة فرنسا؛ فإنه يمكن التأكيد اليوم، أن التنظيم استعاد كثيرا من قوته التنظيمية، وتوسع من حيث حاضنته القبلية والاجتماعية، سواء في ليبيا أو جنوب الجزائر أو مالي وتونس والشرق الموريتاني، وأن زعامة إياد أغ غالي، تعني نهاية عصر الانشقاقات.
وهذه الظروف ستساعد التنظيم على الاستفادة من مئات الدواعش المغاربة والتونسيين الذين عادوا من العراق وسوريا. وبخاصة بعد إعلان جماعة أنصار الشريعة الليبية حل نفسها يوم السبت 27 مايو 2017؛ الشيء الذي يعني موت تنظيم داعش بشمال أفريقيا، وانتصارا كبيرا لآيديولوجية تنظيم «القاعدة»، على أشرس منافس له منذ التأسيس على يد أسامة بن لادن.
وكان تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» وهو المعروف اختصارا بـ«AQMI»، أول تنظيم إرهابي عالمي بشمال أفريقيا ودول الساحل. ظهر بقوة على إثر الحرب الأهلية الجزائرية في تسعينات القرن الماضي. ورغم وجود الجماعة المتشددة والمسلحة منذ 1982 التي أسسها «مصطفى بويعلي» على التراب الجزائري؛ فقد عاشت المجموعات الإرهابية الجزائرية نوعا من الفوضى والتناحر، ليأخذ تاريخ الإرهاب بالمنطقة مسارا آخر بعد انشقاق «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» عن الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وانضمامها إلى تنظيم القاعدة عام 2003 بعد تقديم البيعة للزعيم أسامة بن لادن. ومنذ ذلك التاريخ ظهر اسم «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» ليعرف به فرع التنظيم بشمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء.
ويبدو أن الحرب الأهلية التي تعيشها اليوم ليبيا، والنزاعات التي تمزق دولة مالي، تجعل من تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، الوجهة المفضلة لجيل جديد من الإرهابيين بشمال أفريقيا ودول الساحل. ويمكن القول: إن التنظيم استعاد كثيرا من قوته وقدرته على الاندماج التنظيمي والتوسع الجغرافي، حيث وصلت عملياته كلا من بوركينافاسو، وتشاد، والنيجر، وليبيا، وتونس والجزائر... كما أن تنظيماته الممتدة بين الصومال ونيجيريا تعرف تواصلا وتعاونا متزايدا وفقا لتقارير استخباراتية وخبراء غربيين.
وهذا يعني أن قدرة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بعد الوحدة الاندماجية التي قادها إياد أغ غالي بين فصائله الأربع القوية بشمال أفريقيا ودول الساحل، ستشكل منعطفا في تاريخ التنظيم وقدرته على المواجهة، والوصول للتراب الأوروبي.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».