«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (8): فنيسيا انتهى... مرحباً بتورنتو

الفلسطيني كامل الباشا فاز بجائزة أفضل ممثل

من «شكل الماء» صاحب الجائزة الأولى - كامل الباشا الفائز  بجائزة فنيسيا كأفضل ممثل - كرستيان بايل  كما يبدو في «عداءات»
من «شكل الماء» صاحب الجائزة الأولى - كامل الباشا الفائز بجائزة فنيسيا كأفضل ممثل - كرستيان بايل كما يبدو في «عداءات»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (8): فنيسيا انتهى... مرحباً بتورنتو

من «شكل الماء» صاحب الجائزة الأولى - كامل الباشا الفائز  بجائزة فنيسيا كأفضل ممثل - كرستيان بايل  كما يبدو في «عداءات»
من «شكل الماء» صاحب الجائزة الأولى - كامل الباشا الفائز بجائزة فنيسيا كأفضل ممثل - كرستيان بايل كما يبدو في «عداءات»

فاز الممثل الفلسطيني كامل الباشا بجائزة أفضل ممثل في ليلة ختام الدورة الـ74 يوم أول من أمس. وفي حين لم يفز الفيلم الذي قام الممثل بالمشاركة في بطولته، وهو «القضية 23» لجانب الممثل اللبناني عادل كرم، بأي جائزة أخرى، إلا أن توجه جائزة فنيسيا إلى الممثل الفلسطيني هو اعتراف ضمني بأن الفيلم نوقش جيداً قبل أن تتوصل لجنة التحكيم، برئاسة الممثلة الأميركية آنيت بنينغ، إلى قرارها ذاك.
الفيلم الذي خطف جائزة الأسد الذهبي، الأولى في عداد الجوائز، هو الفيلم الأميركي الذي حدث وأن حظي بأعلى تقدير من قِـبل النقاد أيضاً وهو «شكل الماء»، الفانتازيا الداكنة والمثيرة التي حققها غويلرمو دل تورو من بطولة سالي هوكينز، التي كانت خصّت «الشرق الأوسط» بحديث منشور.
دل تورو وقف ليستلم جائزة في ختام استعراض الفائزين وغالب دموعه وهو يقول: «أؤمن بالحياة. أؤمن بالحب. أؤمن بالسينما». ويأتي هذا الاستقبال الجيد من قِـبل المهرجان بالتواكب مع استقبال جيد آخر حظي الفيلم به في مهرجان توليارايد الأميركي. هذا قبل أن يتوجه الفيلم ذاته إلى مهرجان تورنتو الذي انطلق في الثامن من هذا الشهر.
الجائزة المهمة الثانية هي جائزة لجنة التحكيم الخاصّـة، وهي الثانية في الأولويات، وهذه تسلمها الفيلم الإسرائيلي «فوكستروت» لمخرجه سامويل مواز الذي كان نال الأسد الذهبي سنة 2006 عن فيلمه الأقل مستوى «لبنان».
جائزة أفضل مخرج ذهبت إلى الفرنسي إكزاڤييه ليغران عن فيلمه الأول «رعاية»، وهو دراما حول من سيقوم برعاية الأطفال بعدما اتفق الأبوان على الطلاق. هذا ما يلج بهما إلى المحكمة.
والمقابل النسائي للجائزة التي حصل عليها كامل الباشا جاءت من نصيب الممثلة شارلوت رامبلينغ التي أدت دور البطولة النسائية في فيلم أندريا بالاورو «هانا».

تلك القضية

المحكمة هي الجامع بين ثلاثة أفلام في المسابقة شمل الفوز اثنين منها، هما «القضية 23» و«رعاية»، أما الفيلم الثالث فهو «الجريمة الثالثة» للياباني كورا - إيدا هيروكاذو، وأفضلها بلا شك هو الفيلم اللبناني «القضية 23» الذي برع في ألا يكون سياسيا بينما يتصدى لموضوع سياسي بالمقام الأول.
كما تقدم هنا في رسالة سابقة، هو فيلم عن ضحيّـتين كل منهما تنفي عن الأخرى أنها ضحية. الأولى هو رجل لبناني ما زال يستمع إلى الخطب ذات النعرات الطائفية مليء بالغضب حيال الفلسطينيين ويرى أن النظام بأسره يعمل لمصلحتهم وليس لمصلحة المواطنين اللبنانيين. والثاني هو الفلسطيني الذي يعمل في شركة تابعة للبلدية كان يقوم بعمله المطلوب منه عندما دلق عليه الأول الماء من شرفته فشتمه.
إذ تنتقل القضية إلى المحكمة يتبين لاحقاً أن الضغينة الطائفية ناتجة عن خسارة عائلة الأول لأملاكها عندما هاجم الفلسطينيون مساكنهم خلال الحرب الأهلية، بينما يعايش الفلسطيني واقعه التاريخي الذي دفع به للعيش لاجئاً في لبنان.
ربما ذهبت الجائزة في هذا المجال إلى اعتبار أن كامل الباشا (وهو محترف مسرحي يعيش في القدس) يستحقها لأنه فلسطيني. احتمال يؤيده أن الفيلم الإسرائيلي الذي فاز بالجائزة الثانية هو فيلم انتقادي عن العسكرية الإسرائيلية، وأن لجنة التحكيم ورئيستها الأميركية تتألف من مجموعة غالبة من اليساريين، لكن الممثل يستحقها. منواله هو التعبير صمتاً عما في داخله من الأسى الكبير.
في المقابل، فإن عادل كرم لديه، هنا، شخصية مفتوحة تقرأها من اللحـظة الأولى. ليس الخطأ خطأه بل يتبع حقيقة أنه من الخطر على رسالة الفيلم البحث عن نقاط رمادية في شخصيته تجيز للمشاهد تكوين نظرة متعاطفة وإلا دخل الفيلم متاهة مختلفة. زياد الدويري يكتفي بتوزيع المصادر العاطفية والسياسية لشخصياته ويصنع عملاً جيداً في هذا المقام. لم يحقق أفضل فيلم يمكن لمسابقة أوسكار أفضل فيلم أجنبي استحواذه، بل النوع الذي قد يشق، غالباً، طريقه لجوائز أخرى.
وعلى ذكر الأوسكار، فإن اللجنة المتخصصة لترشيح الأفلام اللبنانية إلى الأوسكار، والتابعة لوزارة الثقافة، غالباً ما ستختار هذا الفيلم لتمثيل السينما اللبنانية. وهو لن يكون الفيلم الوحيد الذي سينطلق من فنيسيا ليدخل سباق الأوسكار بل هناك «شكل الماء» نفسه، والفيلم الأسترالي «سويت كنتري». أما ما يتردد بشأن «فوكستروت» فهو أنه قد يكون الترشيح الإسرائيلي لأوسكار أفضل فيلم أجنبي.

صواريخ سينمائية

فنيسيا المنتهي يتشابك، توقيتاً، مع مهرجانين آخرين يجدهما الكثير من الموزعين نقطة انطلاق موازية لموسم الجوائز. الأول توليارايد المكتفي بأربعة أيام من الحياة سنوياً لا تتسع لأكثر من 35 فيلما من بينها، هذا العام: «فوكستروت» و«تصغير» و«شكل الماء» و«فيرست ريفورمر»، وكلها عرضت هنا وتنتقل من توليارايد إلى المهرجان الكبير التالي تورنتو الذي يتسع، كالعادة، لأكثر من 350 فيلما (وفي بعض دوراته السابقة شهد ما تجاوز الـ400 فيلم).
تورنتو ينطلق من الثامن إلى الثامن عشر، أي قبل انتهاء المهرجان الإيطالي بيومين. يحفل بالعروض الأولى كما بعروض أفلام مرّت ببعض المهرجانات الأوروبية الأخرى. كذلك بالحفلات واللقاءات وشغل مكتظ من قبل طواقم شركات التوزيع والإنتاج إما دعما لما أنتجوه أو بحثاً عن أفلام يشترونها.
بالنسبة للناقد فإن برمجة يومياته هي أكثر تعقيدا من برمجة يومياته في أي مهرجان أوروبي، ولن يجيده تماماً إلا من تدرج في معرفة المهرجان عقداً بعد عقد وسنة بعد سنة. في كل الأحوال فإن تورنتو هو أكبر منصات الإطلاق الثلاثة (فنيسيا، توليارايد وتورنتو) وصواريخه السينمائية تسعى لكي تحط في هوليوود، لأن موسم الجوائز صار مثل المدار الذي تتمحور حوله الأفلام ذات القيمة الفنية.
هذا لا يعني أن الأفلام التي عرضت في فنيسيا وتعرض الآن في تورنتو تستقبل بمستوى واحد من الإقبال. على العكس قد يتفاوت الأمر تبعاً لتفاوت الثقافات.
على سبيل المثال، «مكتوب حبي» لعبد اللطيف كشيش، الذي وجده رهط من النقاد الأوروبيين رائعاً على فراغ موضوعه وخلوه من عنصر التطور الدرامي، سيدق رأسه بالحائط حين يعرض في تورنتو بعد أيام. ولجنة تحكيم فنيسيا صنعت خيراً إذ استبعدته، كون المخرج وبعض النقاد هم الوحيدين الذين يجدونه فيلماً بمقوّمات السينما الفعلية.
مات دامون استقبل هنا بترحاب كبير نتيجة تأديته دوره في «تصغير»، لكن الأخبار الأولى الموثوقة الآتية بعد 24 ساعة على عرضه في مهرجان توليارايد هي أن الممثل وجد فتوراً ملحوظاَ. مهرجان تورنتو هو الذي سيتجه صوب أحد الاستقبالين، إما سيكون استقباله هناك استكمالاً لما شهده الممثل في فنيسيا أو شبيهاً بالاستقبال الذي تعرض له في توليارايد. والكلام ذاته ينطبق على الفيلم ذاته ومخرجه ألكسندر باين. ولا يعرض فنيسيا كل ما يعرضه تورنتو بل حفنة منه. الكثير من الأفلام الأميركية والأجنبية يتحاشى فنيسيا بما أن تورنتو هو بيت القصيد إعلامياً وتسويقياً. لذلك يحتشد في المهرجان الكندي أفلام لن يسع النقاد مشاهدتها إلا هناك أو حين عروضها التجارية المبرمجة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من هذه السنة. بينها الفيلم الجديد لأنجلينا جولي، كمخرجة، «أولاً قتلوا والدي» الذي ألهب حماس الحضور في توليارايد قبل أيام. الفيلم التسجيلي يدور حول ما ارتكبته الخمير الحمر من جرائم في كمبوديا. أيضاً من بين العروض التي يزخر بها تورنتو:
> «عداءات» Hostiles هو وسترن (الذي يرفض أن يموت كنوع) من إخراج سكوت كوبر وبطولة كرستيان بايل الذي عليه اصطحاب هندي إلى قبيلته متحملا مخاطر الطريق من البيض أساساً.
> «لادي بيرد» هو من النوع الذي يحتفي به الموسم من الأعمال النسائية. مخرجته هي غريتا غرويغ من التمثيل (نحو 30 فيلما) إلى الإخراج مع ساوريز رونان في البطولة.
> «الساعة الأدكن» للبريطاني جو رايت حول الفترة التي تلت مباشرة تسلم ونستون تشرشل لمهامه كرئيس وزراء بريطانيا وتضمنت توقيع اتفاق سلام مع ألمانيا النازية. دور العمر لغاري أولدمان لاعباً شخصية تشرشل ومحاطاً بليلي جيمس وستيفاني ديلون وساموَل وست وكرستن سكوت توماس.
> جايك جيلنهال يتطلع بالتأكيد إلى الأوسكار عبر تمثيله شخصية جف بومان الذي فقد ساقه إثر العملية الإرهابية في مدينة بوسطن، سنة 2013، الفيلم هو «أقوى» (Stronger) ومخرجه هو ديڤيد غوردون غرين.
> «موت ستالين»، لأرماندو إيانوتشي يعد بأن يكون أحد أكثر الأفلام المعروضة في تورنتو إثارة. إنه كوميديا صارخة فرنسية التمويل، أميركية التمثيل واللهجة، حول ما تلا وفاة الديكتاتور جوزف ستالين. منفذ كفيلم أميركي مع 15 في المائة من الواقع و85 في المائة من الخيال.

جوائز فنيسيا مع تقييم الناقد لما شوهد منها

المسابقة الرسمية

- الأولى لأفضل فيلم: «شكل الماء» لغويلرمو دل تورو (الولايات المتحدة) ****
- لجنة التحكيم الكبرى: «فوكستروت» لسامويل مواز (إسرائيل) ** 1‪-‬2
- أفضل مخرج: «رعاية» (Custody) لإكزاڤييه ليغران (فرنسا) **
- أفض ممثل: كامل الباشا عن «القضية 23» لزياد الدويري (لبنان) ***
- أفضل ممثلة: شارلوت رامبلينغ عن «هانا» لأندريا بالاورو (إيطاليا)
- أفضل سيناريو: «ثلاث لوحات خارج إيبينغ، ميسوري» لمارتن مكدوناف (الولايات المتحدة) ***
- جائزة التحكيم الخاصّة: «سويت كنتري» لوورويك ثورنتون (أستراليا) *** 1‪-‬2

مسابقة قسم «آفاق»

- الأولى لأفضل فيلم: «نيكو، 1988» (إيطاليا) **
- أفضل مخرج: فهيد جليلفاند عن «لا تاريخ، لا توقيع» (إيران)
- لجنة التحكيم الخاصة:»كانيبا» لڤيرينا باراڤل ولوسان كاستانغ - تايلور (فرنسا)
- أفضل ممثلة: لينا خوري عن «المباركون» لستيفاني جمعة (فرنسا)
- أفضل ممثل: ناڤيد محمدزاده عن «لا تاريخ، لا توقيع» (إيران).


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)