«الموسيقى الصفراء» تنتصر على «الحمراء» في فيتنام

مقهى على بحيرة هانوي مرتادوه من أصحاب الملابس الغالية

فرض حظر استمر لعقود على أغاني الحب القديمة
فرض حظر استمر لعقود على أغاني الحب القديمة
TT

«الموسيقى الصفراء» تنتصر على «الحمراء» في فيتنام

فرض حظر استمر لعقود على أغاني الحب القديمة
فرض حظر استمر لعقود على أغاني الحب القديمة

عاد المغني نجوين فان لوك إلى ما كان عليه ليجذب المستمعين بنفس الموسيقى التي تسببت في تعرضه لمشكلات في المرة الأولى، بعد عقود من سجنه في فيتنام أثناء الحرب لتغنيه بأغاني الحب.
وفي مقهى معبأ بالدخان بالقرب من بحيرة هانوي الغربية والذي يتميز بأن مرتاديه من أصحاب الملابس الغالية، غنى نجوين فان لوك الطاعن في السن أغاني الحب القديمة.
كانت كلمات أغنية المطرب الأميركي فرانك سيناترا وقتها سببا في أن يحكم على لوك بأن يقوم طوال عقد من الزمان تقريبا بأعمال شاقة خلال الحرب الفيتنامية بسبب اتهامات له بالتخريب.
ورغم أن دولة فيتنام الشيوعية ذات الحزب الواحد أصبحت تقبل منذ ذلك الحين بما كان يسمى تحقيرا من شأنه في وقت من الأوقات بـ«الموسيقى الصفراء»، تم في وقت سابق فرض حظر استمر لعقود على أغاني الحب القديمة التي تعود لفترة ما قبل الحرب.
هذا النوع من الأغاني الذي كان على النقيض مع الموسيقى الثورية الرسمية المعروفة باسم «الموسيقى الحمراء» اعتبر «معاديا للثورة» في وقت كانت فيه ثقافة ما قبل الحرب مرفوضة.
وتم بوجه خاص نبذ أغاني الحب التي تتناقض ما تنطوي عليه من عواطف رقيقة تناقضا صارخا مع أغاني الحرب الثورية. والآن وبعد أن بلغ لوك 72 عاما، يقول إن كل ما يريده هو استعادة شرفه.
ويقول: «لقد ضحيت بكل شيء من أجل استرداد شرفي القديم والدفاع عن موسيقاي، لقد دفعت ثمنا باهظا من أجل عواطفي وحبي». ويصف نجوك داي، وهو موسيقي فيتنامي معاصر شهير، لوك بأنه إرث «نادر وموهوب» لحقبة ماضية.
ويقول إن «الموسيقى الصفراء لها وضع مهم للغاية، وهي نقطة مشرقة في تاريخنا الموسيقى وانتقلت إلى هذا الجيل من آخرين على الرغم من حقيقة أنها اعتادت أن توصم بأنها (موسيقى عدائية)».
وولد لوك في عام 1945 خلال السنوات الأخيرة من الاستعمار الفرنسي، وبلغ سن الرشد في فيتنام الشمالية الشيوعية خلال الحرب.
في عمر العشرين، في عام أول معركة برية كبيرة بين الولايات المتحدة والقوات الفيتنامية الشمالية، بدأ لوك تشكيل فرقة مع اثنين من الأصدقاء وقامت بعزف أغاني الحب التي كانت شائعة في فترة ما قبل الحرب. ويقول لوك: «كنا صغارا جدا ولم يكن لنا أي رأي بشأن السياسة، لم يكن لدينا سوى حبنا للموسيقى».
وباستخدام قيثارات قديمة اشتروها في سوق لبيع الأشياء القديمة، قام الثلاثة بالعزف في منازلهم في هانوي في وقت متأخر من الليل وهم يدخنون ويشربون الشاي.
وكانت لا تتم دعوة أحد سوى الأصدقاء المقربين. وكانوا يغلقون على أنفسهم الأبواب تحسبا من أن يقوم الجيران بالإبلاغ عنهم بأنهم يعزفون موسيقى صفراء.
وعلى الرغم من أن الكلمات التي كانت تغنى فقط عن حب الشباب، اعتبرها النظام ارتدادا منحطا ملوثا بالرأسمالية.
ويقول لوك إن «كل الروائع القديمة من الأدب والفنون - اعتبروها منتجات سيئة من النظام القديم».
وكان لوك وأصدقاؤه قد نجحوا في التكتم على عزفهم طيلة ثلاث سنوات حتى افتضح أمرهم في عام 1968 لأسباب غير واضحة تماما. وأدين الثلاثة كلهم بـ«الاعتداء على ثقافة الاشتراكية» مع تلقي لوك حكما بالحبس الانفرادي والعمل القسري لمدة عشر سنوات.لكن حظه بدأ يعود له مرة أخرى في عام 1973 مع توقيع اتفاقيات باريس للسلام.
وعلى الرغم من أنه كان يتبقى عامان آخران قبل إعادة توحيد فيتنام، نتج عن اتجاه هانوي لتحقيق النصر تخفيف الحكم على لوك.وأطلق سراحه في عام 1976، وتزوج وأصبح له ابن ورث حب والده للموسيقى واليوم يقوم بتعليم العزف على القيثارة في معهد هانوي للموسيقى.
وفي عام 1986، بدأت فيتنام أولى سلسلة إصلاحاتها، ووجدها لوك طريقا للعودة إلى عزف الموسيقى.
وبعد أن خفت قبضة النظام الشمولي في فيتنام، أعيد تصنيف الأغاني التي كانت في السابق مرفوضة باعتبارها من الموسيقى الصفراء وأصبح يطلق عليها «موسيقى قبل الحرب»، ليتم الاحتفال بها كقطع ثقافية أثرية.
لكن وضع لوك كسجين سياسي سابق لا يزال يطارده هو وزملاؤه في الفرقة. وتوفي أحدهما وهو مشرد في عام 2004، في حين ترك الآخر الغناء ويعيش مجهولا غير معروف في هانوي.
وطوال تسعينات القرن الماضي، حاول لوك إنشاء مكان يمكنه فيه أن يغني ولكن محاولاته أحبطتها السلطات ثلاث مرات، لكن سمح له أخيرا بفتح مقهى له في عام 2008، وحمل اسم لوك فانج وهو ما يعني بالإنجليزية «لوك الأصفر». وهو الآن يجتذب جمهورا أغلبه من كبار السن على الرغم من أن لوك قال إن «مثقفين» شباباً يأتون أيضاً للاستماع إلى أغانيه ثلاث مرات في الأسبوع.
ويقول كيونج آن، 45 عاما وهو مهندس كهرباء دائم الحضور للاستماع لأغاني لوك إنه يحب الرمزية التخريبية التي أصبح لوك يمثلها. ويقول آن: «أنا أحبه لموقفه ضد سلطة الشيوعية، التي منعته وسجنته لغنائه الأغاني، على الرغم من أنها مجرد أغاني حب فقط». وعلى الرغم من أن ملحني الأغاني يتم الاحتفاء بهم رسميا الآن، يقول لوك إنه لم يتلق مطلقا اعتذارا من الحكومة.كما ألغيت بالقوة حفلة موسيقية له في مدينة هو تشي منه، وهي أول حفلة مقررة له على الإطلاق في فيتنام الجنوبية سابقا من قبل السلطات في مارس (آذار) الماضي.
واستفسر لوك قائلا: «لدي سؤال واحد أوجهه للحكومة وهو لماذا يتم تكريم كل الملحنين الذين كتبوا مثل هذه الموسيقى ولماذا أفقد أنا - الذي أقوم فقط بغناء موسيقاهم - شرفي ولا أحصل على أي شيء؟».ويضيف: «أريد فقط أن أستعيد شرفي».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».