معهد الفيلم البريطاني في لندن «يكتشف السينما العربية»

برنامج يمتد لمدة سنة ويعرض مزيجا من أشهر روائعها

معهد الفيلم البريطاني في لندن «يكتشف السينما العربية»
TT

معهد الفيلم البريطاني في لندن «يكتشف السينما العربية»

معهد الفيلم البريطاني في لندن «يكتشف السينما العربية»

حينما تتجول في أروقة معهد الفيلم البريطاني بأضوائها الخافتة، تمر بلوحات نجمة السينما في خمسينات القرن الماضي، فيفيان لي، وملصقات لنسخ جرى إنتاجها لفيلم الرعب الكلاسيكي الشهير «نوسفيراتو مصاص الدماء»، كما تشاهد شاشات تعرض الأفلام القديمة التي تصور الحياة اليومية في لندن. إنه المكان حيث يعود حب وسحر السينما إلى الحياة مرة أخرى.
ينطلق هذا الشهر وعلى مدى عام كامل برنامج بعنوان «اكتشف السينما العربية» والذي يعرض مزيجا من أشهر الأفلام الجماهيرية الحديثة والروائع السينمائية العربية. وينظم معهد الفيلم البريطاني، وهو أحد المؤسسات الرائدة في هذا المجال في المملكة المتحدة، البرنامج بغية تعريف الجمهور البريطاني بالأفلام التي يجري إنتاجها في المنطقة العربية.
ولم تكن فكرة إطلاق هذا البرنامج مفاجأة في ظل الاهتمام المتزايد الذي تحظى به الأفلام العربية مؤخرا، فضلا عن الفضول المتنامي لدى الجمهور للتعرف على القصص الإنسانية والاتجاهات الفنية للمنطقة العربية المترامية الأطراف والغنية بالاتجاهات الفكرية المختلفة.
تقول منى ديلي، مؤسسة ومديرة مؤسسة «زينيث فاونديشن» والقائمة على البرنامج: «رغم التزايد الكبير في أعداد الأفلام التي يجري إنتاجها كل عام، تعاني السينما العربية من أزمة التوزيع، وبالتالي تبقى الوسيلة الوحيدة للتعريف بتلك الأفلام هي عرضها في أكبر جزء ممكن من العالم. وهذه هي الطريقة المثلى لإتاحة الفرصة للناس للتعرف على السينما العربية».
وسيكون فيلم «شتاء الغضب» للمخرج إبراهيم البطوط هو الأول في سلسلة الأفلام البالغ عددها 52 فيلما والتي سيجري عرض واحد منها كل أسبوع طوال عام وهي مدة البرنامج. وسيعرض برنامج «اكتشف السينما العربية» مزيجا من الأفلام الكلاسيكية والحديثة وكذلك الأفلام القصيرة. وسيجري عرض أربعة أفلام كل شهر تدور أحداثها عن طبيعة البلد الذي أُنتجت فيه أو تتناول فكرة محددة. وسوف يتم التركيز خلال الأشهر الثلاثة الأولى من نوفمبر (تشرين الأول) 2013 إلى يناير (كانون الثاني) 2014 على السينما المصرية المعاصرة والأسرة في مجتمعات الشرق الأوسط وكذا السينما الجزائرية.
وبفضل المزج بين الأساليب السينمائية الحديثة والأحداث السياسية الراهنة التي تصورها السينما المصرية، ستحظى الأفلام المصرية بصدى كبير ومختلف لدى نوعيات متباينة من الجمهور العاشق للسينما. وحسب هلين دوايت، رئيسة قاعات السينما التابعة لمعهد الفيلم البريطاني، ربما تمثل الأفلام المعروضة مادة تثقيفية أكثر من كونها مجرد صور متحركة على شاشات السينما.
تقول دوايت في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «لقد اكتسبت المنطقة العربية زخما كبيرا بسبب الأحداث المرعبة والعنيفة التي شهدها العديد من دول العالم العربي مؤخرا، بيد أنه إذا تسنى لنا عرض الأفلام التي تصور الإشكاليات والقضايا المختلفة التي تموج بها البلدان العربية فسوف يكون ذلك امرا جيدا للغاية. يعرض صناع السينما في أفلامهم قصصا شخصية يستطيع الجمهور من خلالها فهم طبيعة الناس وما يعانونه من مشاكل. وفي الوقت الذي تسبب فيه نشرات الأخبار للناس شعورا بالإحباط، تقوم أفلام السينما على الجانب الآخر بمهمة تعريف الجمهور بالسمات الشخصية للناس عن طريق الشخصيات التي تلعب الأدوار على الشاشة الفضية»، لكن هذا لا يعني بالطبع إهمال الجانب الفني في تلك الأفلام.
تصف ديلي هذا المحصول من الأفلام بـ«السينما الواقعية الجديدة»، وتوضح ذلك بقولها: «لقد جسدت السينما المصرية (الواقعية) في شتى مراحل عملها، بيد أن الطابع المميز للمرحلة الحالية من الواقعية في السينما المصرية هو الجانب الجمالي والفني لتلك الأفلام. في الماضي، كانت الأعمال السينمائية واقعية في تركيزها على القضايا المجتمعية مثل القهر ومشاكل طبقة الفلاحين، لكنها كانت تتميز بجودة فنية عالية، أما الأفلام المنتجة حديثا فتتميز بجودة فنية سينمائية كبيرة تجعلها تبتعد عن نمط الأفلام التي تبدو وكأنها أفلام وثائقية». وعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، والتي كانت بدايتها عام 2010 بفيلم «ميكروفون» للمخرج أحمد عبد الله والذي سيتم عرضه ضمن البرنامج، ظهرت نزعة في الأفلام السينمائية يمكن تسميتها بنوعية «الدراما الوثائقية» التي تتناول بشكل حصري الموضوعات السياسية والاجتماعية، وتقدم مزجا للهموم الواقعية في القضايا اليومية بالمشاهد الارتجالية التي يؤديها ممثلون غير مدربين مع قصة مكتوبة وطاقم عمل فيلم محترف.
وربما تحتل فكرة «الأسرة في مجتمعات الشرق الأوسط» مكانا ضمن أنواع القضايا التي سيتم طرحها من خلال الأفلام التي سيتم عرضها خلال البرنامج. ولأن الأسرة تمثل نموذجا مصغرا للمجتمع سواء داخل أو خارج السينما، فإنها تحظى باهتمام شديد من صناع السينما حيث يجري تناول قضايا في كل الأفلام المنتجة في شتى الدول العربية، بدايةً من الأفلام التي تتناول مشاكل الأسر المهاجرة في أوروبا، كما في فيلم «نغمة قديمة» للمخرج الجزائري رشيد دجيداني في عام 2012، مرورا بالأفلام التي تتناول مشاكل الأسر في الشرق الأوسط كما في الفيلم الأردني الروائي الطويل «الجمعة الأخيرة» للمخرج يحيى عبد الله، إلى الأفلام التي تتناول صراع الأجيال كما في فيلم «الرحلة الكبرى» للمخرج المغربي إسماعيل فروخي الذي جرى إنتاجه في عام 2004، والذي يتناول قصة أب مغربي مقيم بفرنسا يقرر أن يصطحب معه في رحلة إلى الحج ابنه المتشبع بالثقافة الغربية بعيدا عن تقاليد أجداده الإسلامية بالبلد الأصل (المغرب).
وتشير دوايت إلى أنه «خلال عملية اختيار الأفلام التي سيجري عرضها ضمن البرنامج، كنا دائما نسال أنفسنا ما طبيعة السينما العربية؟ إنها تتناول مشاكل مساحة كبيرة من الأرض التي تمتد من شمال أفريقيا وحتى العراق، والتي لا يمكن أن يتم تصنيفها حسب نفس المعايير». فالأفلام التي تتناول «الأسرة» تختلف تماما في طبيعة المشاكل التي تتناولها من المحيط إلى الخليج.
وتضيف ديلي أنه «رغم أن دجيداني كاتب روائي في الأصل، لكنه أخرج فيلمه المدهش (نغمة قديمة) الذي جرى إنتاجه بأقل التكاليف وحاز جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما خلال مهرجان كان». ويتناول الفيلم قصة أسرة جزائرية مهاجرة تعيش في فرنسا من خلال استكشاف نوع من النفاق يوضح العنصرية التي يجري ممارستها ضد العرب في فرنسا، لكنه يشير أيضا إلى العنصرية الموجودة داخل مجتمعات المهاجرين أنفسهم، على سبيل المثال، مثل تلك الممارسات التي تحدث بين العرب والأفارقة. كما يتناول الفيلم موضوعات أخرى متعلقة بالدين والمجتمع الأبوي.
وخلال شهر يناير، سيجري إلقاء الضوء على السينما الجزائرية من خلال الأفلام التي سيعرضها البرنامج وعلى وجه الخصوص الأفلام الكلاسيكية، مثل فيلم «وقائع سنين الجمر» الذي أنتجه المخرج الشهير محمد الأخضر حمينة في عام 1975. تقول دوايت عن الفيلم: «كان من الصعب الحصول على نسخة جيدة من هذا الفيلم، ولذلك فقد لجأنا إلى السفارة الجزائرية لمساعدتنا في الحصول على الفيلم». ولا شك أن افتقار السينما العربية لأساليب الصيانة قد كلف ميراثهم الثقافي الكثير. وحقيقة أنه من الصعب توفير الوسائل التي يمكن عن طريقها الحصول على الأفلام القديمة تعني أنه ما زال هناك نقص في معرفة كيفية الوصول إلى هذا الفن الحديث في المنطقة العربية. وتعلق ديلي على هذه المسألة بقولها: «لقد قمت بعملية بعث مضنية لإيجاد بعض الأشياء فيما يتعلق بالأعمال السينمائية العربية حتى أنه كان من الصعب جدا بالنسبة لي العثور عليها حتى عن طريق المصادفة».
وتؤكد ديلي أن الاهتمام الكبير بالسينما العربية الذي تزايد خلال السنوات القليلة الماضية لم يكن مرده فقط للتغيرات السياسية، لكنه يرجع بالأحرى إلى صعوبة الوصول إلى المعلومة التي ترتبط بشغف الناس الأصيل في الحصول على ما ينقصهم من معلومات بشأن أي من القضايا. تقول ديلي إن «لندن مدينة تجتمع فيها ثقافات من شتى بقاع الأرض، لذا يبدو من الجنون أنه كانت هناك فجوة كبيرة من عدم الاهتمام بالفن العربي طوال العشر سنوات الماضية. أما الآن، فهناك الكثير المتاح للاختبار والاطلاع عليه الذي جرى توفيره على مدى العقد المنصرم. وطالما أن هناك قطاعات كبيرة من الجماهير والأماكن التي تهتم بالسينما العربية، فسوف يتواصل ذلك الاهتمام ولن يكون مجرد تقليعة لفترة زمنية محددة وتنتهي».
وقد أهدى القائمون على «اكتشف السينما العربية» دورة المهرجان إلى الراحلة شيلا ويتاكر، التي رأست معهد الفيلم البريطاني قبل انتقالها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة للمشاركة في تأسيس مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2004. وقد كانت ويتاكر، التي تُوفيت هذا الصيف، من أكبر الداعمين لفكرة عرض الأفلام السينمائية العربية في لندن، وكانت أيضا ضمن الرعيل الأول الذي طرح فكرة استضافة ذلك البرنامج في معهد الفيلم البريطاني.
للمزيد من المعلومات حول برنامج «اكتشف السينما العربية»، يمكنكم الدخول إلى موقع bfi.org.uk.، وسوف يستمر البرنامج حتى نهاية 2014.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)