{الحوت الأزرق} يتسبب في انتحار 15 شاباً هندياً

أخطر الألعاب على الإنترنت تكلف اللاعب بمهام مضرة ومؤذية آخرها قتل نفسه

{الحوت الأزرق} يتسبب في انتحار 15 شاباً هندياً
TT

{الحوت الأزرق} يتسبب في انتحار 15 شاباً هندياً

{الحوت الأزرق} يتسبب في انتحار 15 شاباً هندياً

اتصل صبي في الثانية عشرة من العمر من ولاية تاميل نادو في جنوب الهند مؤخرًا بخط الطوارئ التابع للدولة وأخذ يصرخ بشكل هستيري قائلا: «سيقتلونني أنا وأسرتي». وعندما سأله المختص على الجانب الآخر من الخط عن هوية الشخص الذي يحاول القيام بذلك، سكت هنيهة قبل اعترافه بأنه قد شارك في «تحدي الحوت الأزرق» وأراد التوقف.
ليست هذه حالة فردية، فقد تسببت لعبة «الحوت الأزرق» في وفاة نحو 15 شابا تتراوح أعمارهم بين 12 إلى 24 عاما، منتحرين، في حين تم التمكن من إنقاذ كثيرين في الوقت المناسب.
وقد استيقظت الهند على كارثة «الحوت الأزرق» في 29 يوليو (تموز) حين قفز صبي في الرابعة عشرة من العمر من شرفة في الطابق السابع من إحدى البنايات في مومباي، مما أدى إلى مقتله. وقد التقط لنفسه صورا فوتوغرافية وهو يجلس على حافة سور الشرفة قبيل قفزه وكتب: «الشيء الوحيد الذي سيتبقى مني قريبا هو صورتي».
وبينما كانت كاتبة هذه السطور تعكف على كتابة الموضوع، قفز أشوك مالونا من جسر أعلى نهر سابارماتي في غوجارات بعد فترة قصيرة من نشر مقطع مصور على موقع «فيسبوك» ذكر فيه أن هذه هي المرحلة الأخيرة من «تحدي الحوت الأزرق الخاص به، وسوف ينتحر. كذلك تم العثور على شاشيكانت بورها، الطالب في علوم الإدارة البالغ من العمر 21 عاما، معلقا بحبل من رقبته في شجرة في سكن جامعة بونديتشيري في منتصف الليل. كذلك شنق طالب جامعي يبلغ من العمر 19 عاما نفسه باستخدام مروحة سقف في منزله في مادوراي»، وكتب أيضًا قبل انتحاره عن لعبة «تحدي الحوت الأزرق» الخطيرة التي تسبب الإدمان.
كذلك تم العثور على بارث سينغ، طالب في الصف السادس يبلغ من العمر 13 عاما، وهو معلق في غرفة نومه في 28 أغسطس (آب)، وكان في يده هاتف والده كانت عليه اللعبة المذكورة حين تم إنزال الجثة المعلقة.
على الجانب الآخر، تم إنقاذ آخرين في آخر لحظة على مدى الأيام القليلة الماضية. وتم وضع مراهق في دلهي تحت الملاحظة بعدما قطع شرايين ذراعه، ونقله أبواه إلى المستشفى. كذلك تم إنقاذ فتى آخر في السادسة عشرة من العمر من جايبور كان قد ترك منزل والديه في إطار المرحلة الأخيرة من تلك اللعبة؛ وقال إنه كان في المرحلة الأخيرة وكان يوشك على الانتحار.
وتم نقل طالب في الصف العاشر، على يده رمز الحوت، إلى مستشفى حكومي في أسام، عاصمة ولاية غواهاتي. كذلك وردت الأنباء من كل أنحاء الهند من مومباي، ودلهي، وكيرالا، وكلكتا، وتاميل نادو، وبونديتشيري، وبونه، وغوجارات، وإندور، ودهرادون، بانتحار مراهقين أو إنقاذهم قبل قفزهم من بنايات بناء على تعليمات مروجي اللعبة.
«غوغل تريندز» المثير للقلق
في ظل استيقاظ الهند يوميا على أنباء انتشار اللعبة في مختلف أنحاء البلاد على نحو لم يتصوره أحد، رصد محرك البحث العملاق «غوغل» أرقاما مفزعة. أوضح محرك «غوغل» أن الهند قد شهدت أكبر قدر من مرات البحث المتعلق بـ«تحدي الحوت الأزرق» على مستوى العالم. الأسوأ من ذلك هو أن هناك تقارير ذات صلة قد كشفت عن أن الهند شغلت هذا المركز لمدة ثلاثة أشهر، وإن كانت ذروة عمليات البحث في يوليو 2017.
هناك اعتقاد بأنه قد تم صنع لعبة الكومبيوتر المذكورة في روسيا عام 2013، وأنها قد أصبحت واحدة من أكثر ألعاب الإنترنت إثارة للجدل على مستوى العالم، وتم اعتبارها السبب وراء انتحار أكثر من 130 مراهقا على مستوى العالم. وقد كشف «غوغل تريندز»، الذي يحلل ويجمع كلمات أو عبارات البحث الأكثر استخداما، عن تزايد عدد الأشخاص الذين يبحثون عن لعبة الحوت الأزرق من الهند خلال الاثني عشر شهرا الماضية. مع ذلك لا تعني نتائج «غوغل تريندز» بالضرورة أن الذين يبحثون عن اللعبة المرتبطة بالانتحار يلعبونها بالفعل. بحسب التقرير، من بين الكلمات المفتاحية الأكثر استخداما «تحدي الحوت الأزرق»، و«تحدي لعبة الحوت الأزرق»، و«تنزيل لعبة تحدي الحوت الأزرق»، و«تنزيل لعبة تحدي الحوت الأزرق على الإنترنت».
كذلك قدم التقرير تحليلا للتوجهات بحسب الولايات. في الوقت الذي تصدرت فيه كل من ولايتي مانيبور، وناغالاند، قائمة البحث عن اللعبة باستخدام الكلمة المفتاحية «تحدي الحوت الأزرق»، تصدرت أسام قائمة البحث عن اللعبة باستخدام الكلمة المفتاحية «تحدي لعبة الحوت الأزرق». وتشير البيانات أيضا إلى تصدر كل من جامو، وكشمير، وأسام، وتاميل نادو، قائمة البحث باستخدام كلمة «تنزيل لعبة تحدي الحوت الأزرق». على الجانب الآخر تشير البيانات الخاصة بالمدن إلى تصدر مدينة كلكتا قائمة البحث باستخدام كلمة «تحدي الحوت الأزرق».
آثار لا تمّحي
كانت تلك اللعبة مدمرة، فمجرد دخول المرء إلى عالمها، لا يتمكن من الخروج بحسب ما كتب فيغيش، طالب يبلغ من العمر 19 عاما من تاميل نادو، قبل إتمامه المرحلة الأخيرة من اللعبة وانتحاره باستخدام ساري والدته. وقد صرحت والدته المكلومة لقناة تلفزيونية خاصة بأنها قد رأت علامات غريبة على جسده، وسألته عنها فرد عليها قائلا: «لا شيء، لا شيء سيحدث لي». وقد اكتشفت أن ابنها كان متعلقا بتلك اللعبة المميتة التي كان يقول إن نحو 75 طفلا يشاركون فيها في مجموعة واحدة. وأوضحت قائلة: «أناشد الحكومة بأن تنقذ هؤلاء الأطفال. ينبغي ألا تمر أم بمأساة فقد طفلها، وتعاني من آثار الصدمة». بعد حدوث عدد من حالات الانتحار المرتبطة بتلك اللعبة الخطيرة في أنحاء الهند، يبحث المراهقون الذين شاركوا في التحدي عن مخرج. يقول دكتور لاكشمي فيجاياكومار، مؤسسة مركز «سنيها» للوقاية من الانتحار: «يخشى أكثرهم الخروج لأنه يتم تهديدهم بالقتل أو بإلحاق الأذى بأسرهم». وأوضح قائلا إن كثيرا من الأطفال المرضى قد اعترفوا بمشاركتهم في اللعبة؛ وكان ذلك بدافع الفضول في أكثر الحالات. وكان التحدي يتضمن قيام المسؤول عن اللعبة بتكليفهم بخمسين مهمة، أكثرها مضرة ومؤذية للذات. وتتمثل المهمة الأخيرة في الانتحار.
أقوال الآباء ومقاطع
مصورة على الهواتف
في حالتي انتحار من ولاية كيرالا بجنوب الهند إحداهما تمت في 19 مايو (أيار)، والأخرى في 27 يوليو، حين لم تكن أغلب المناطق في الهند تدرك خطر «الحوت الأزرق»، أشارت تحقيقات الشرطة وأقوال الآباء إلى وجود صلة بين الخطر وتحدي الحوت الأزرق.
وذكرت صحيفة «تايمز أوف إنديا» أن ساوانت، وهو خريج حديث في معهد التدريب الصناعي يبلغ من العمر 22 عاما، ومانوج تشتاندران، طالب في الصف الحادي عشر، قد شنقا نفسيهما في المنزل وقام الأول بذلك في 19 مايو، في حين قام الثاني بذلك في 27 يوليو.
ونقلت الصحيفة عن والدة تشاندران قولها للشرطة إن ابنها قد أخبرها ذات مرة عن لعبة مثيرة منتشرة تسمى «الحوت الأزرق»، وأنها قد تقود إما إلى الجنون أو الانتحار. كان هذا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016. وقالت: «طلبت منه ألا يلعب هذه اللعبة، فقط لاحظت تغيرا في سلوكه بعد شهر ديسمبر (كانون الأول)، لكنني لم آخذ الأمر على محمل الجد». وكانت من بين التغيرات السلوكية، التي أشارت إليها الأم، رفضه للمذاكرة، ورغبته في التجول في أنحاء الهند بدراجة نارية، وزيارته الشاطئ والمقابر ليلا. وحين تم سؤالها عن عدم تقدمها بشكوى فور وفاة ابنها، أجابت قائلة: «لقد فتحت هاتفه المحمول بعد أيام طويلة من وفاته. لم أصدقه حين قال لي إنه قد زار المقابر والشاطئ ليلا. لكن أذهلتني المقاطع المصورة التي وجدتها على هاتفه؛ وقد أدركت حينها فقط أنه قد شارك في تحدي الحوت الأزرق». بحسب والدة ساوانت، كان ابنها مدمنا على ألعاب الفيديو، وكان يبقى لوقت متأخر من الليل لممارستها. كذلك كان يعاني من مشكلات سلوكية، فقد خرج دون أن يعرف أحد مكانه لمدة 10 أيام، وحاول الانتحار مرتين، إحداهما في عام 2016، والأخرى في 2017.
السبب العزلة والوحدة
دفع انتشار اللعبة الحكومة الهندية نحو إصدار توجيهات لكل من «غوغل»، و«فيسبوك»، و«واتساب»، و«إنستغرام»، و«مايكروسوفت»، و«ياهو» بإزالة تلك الروابط فورا. كذلك أصدرت وزارة الداخلية إرشادا لقوات الشرطة في مختلف أنحاء الهند باتخاذ إجراءات حاسمة ضد المواقع الإلكترونية التي توفر تلك الروابط الخاصة بتنزيل اللعبة.
وقال دكتور رانا، استشاري بارز في طب أعصاب الأطفال في المستشفى: «من المعتاد أن ينغمس المراهقون في سلوكيات خطيرة من أجل التباهي بقدراتهم أمام أقرانهم. لذا من الضروري أن يقيم الآباء علاقة صداقة قوية مع أبنائهم، بدلا من الاتجاه إلى التعنيف والتوبيخ، حيث من شأن ذلك أن يزيد من احتمالات مناقشة الأبناء شؤون حياتهم مع آبائهم». ويقول أمولي، صانع أفلام: «ما يحدث سببه هو شعور المراهقين بالعزلة والوحدة. لهذا السبب يبحثون عن واقع افتراضي خاص بهم. حين تكون طفلا وتشعر بالعزلة تتجه إلى مثل تلك الأشياء». ويحمّل أمولي الآباء مسؤولية حدوث ذلك، حيث يرى أنهم ليس لديهم الوقت الكافي للاعتناء بأبنائهم. ويضيف قائلا: «ليس لدى الآباء وقت لأبنائهم، وكذلك يختفي الجدود من المشهد بسبب تباعد أفراد العائلة عن بعضهم».


مقالات ذات صلة

«سوني» تكشف عن خوذة جديدة للواقع الافتراضي لجهاز «بلايستيشن 5»

يوميات الشرق «سوني» تكشف عن خوذة جديدة للواقع الافتراضي لجهاز «بلايستيشن 5»

«سوني» تكشف عن خوذة جديدة للواقع الافتراضي لجهاز «بلايستيشن 5»

كشفت مجموعة «سوني» العملاقة في مجال الإلكترونيات، أمس (الثلاثاء)، عن خوذة جديدة للواقع الافتراضي مخصصة لأجهزة اللعب «بلايستيشن 5»، في تعزيزٍ لطموحاتها في سوق تشهد طفرة كبيرة. وكانت المجموعة اليابانية قد أطلقت في مرحلة أولى إكسسواراً أول من هذا النوع سنة 2016 لجهاز ألعاب الفيديو الشهير بنسخته السابقة. وتتسم خوذة «بلايستيشن في آر 2» ذات اللونين الأبيض والأسود، بشكل أكثر استشرافية وسهولة أكبر في الحمل.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق «إنفوغراف»... أسعار مبيعات أجهزة «بلاي ستيشن» منذ عام 1994

«إنفوغراف»... أسعار مبيعات أجهزة «بلاي ستيشن» منذ عام 1994

تُطلق شركة «سوني» جهاز «بلاي ستيشن 5»، هذا الخريف. وبالجهاز هذا، جنباً إلى جنب مع الأجهزة الأربعة السابقة التي تحمل الاسم نفسه يصبح عدد أجهزة وحدات التحكم التي أنتجتها شركة التكنولوجيا اليابانية العملاقة، منذ ظهورها لأول مرة في عام 1994 ما يقرب من 20 جهازاً، بيع منها 560 مليون وحدة. ويوضح «الإنفوغرافيك» التالي أسعار مبيعات جميع أجهزة «بلاي ستيشن» من عام 1994 إلى 2020:

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «سوني» تكشف النقاب رسمياً عن «بلاي ستيشن 5» وألعابه الجديدة (فيديو)

«سوني» تكشف النقاب رسمياً عن «بلاي ستيشن 5» وألعابه الجديدة (فيديو)

كشفت شركة «سوني» للصناعات الإلكترونية رسمياً النقاب عن منصة ألعاب الفيديو «بلاي ستيشن 5»، التي من المقرر إطلاقها في الأسواق في وقت لاحق من هذا العام. وبحسب صحيفة «ديلي ميل» البريطانية، فقد أشارت «سوني» خلال عرض فيديو جديد بعنوان «مستقبل الألعاب»، إلى أن الجهاز سيكون متاحاً في لونين، الأبيض والأسود، وفي نسختين، الأولى ستتضمن قارئ أقراص ليزرية «Ultra HD Blu - ray»، في حين ستفتقر النسخة الأخرى، إليه معتمدة فقط على الألعاب التي سيتم تنزيلها عبر الإنترنت، وستحمل اسم «PlayStation 5 Digital Edition». ولم تعلن «سوني» عن سعر الجهاز أو تاريخ إطلاقه في الأسواق، لكنها قالت إنها لا تزال تخطط لإطلاقه قبل نه

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق «سوني» تكشف عن جهاز تحكم «بي إس 5» الجديد

«سوني» تكشف عن جهاز تحكم «بي إس 5» الجديد

كشفت شركة «سوني» للصناعات الإلكترونية عن المزيد من التفاصيل حول جهاز التحكم الجديد التابع لـمنصة ألعاب الفيديو «بلاي ستيشن 5» أمس (الثلاثاء)، وقالت إنها بدأت في شحن وحدة التحكم إلى مطوري الألعاب.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق «سوني» تطلق «بلاي ستيشن» جديداً بنكهة الماضي

«سوني» تطلق «بلاي ستيشن» جديداً بنكهة الماضي

تعتزم شركة «سوني» اليابانية إطلاق نسخة جديدة من جهاز «بلاي ستيشن كلاسيك»، ستحمل نفس تصميم النسخة الكلاسيكية القديمة التي تم إطلاقها قبل 25 عاما، ولكن بحجم أصغر من النسخة القديمة. وبحسب صحيفة «الغارديان» البريطانية، سيتم إطلاق النسخة الجديدة في يوم 3 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وهو نفس اليوم الذي أطلقت فيه النسخة الكلاسيكية لأول مرة في اليابان عام 1994. وستحمل النسخة الجديدة نفس تصميم النسخة القديمة ولكن بحجم أصغر بنسبة 45 في المائة وستحتوي على نحو 20 لعبة مدمجة. وستتضمن قائمة الألعاب معظم الألعاب الموجودة في النسخة القديمة، بما في ذلك Final Fantasy VII وRidge Racer Type 4 وTekken 3 وjumping f

«الشرق الأوسط» (طوكيو)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)