العلاج الجيني... آمال واسعة واستخدامات لا تزال محدودة

خطوة ستغير وجه الطب الحديث وتطوير الأدوية

حقيبة لحقنة في الوريد من العلاج الجيني الجديد «كيمريا» (أ.ب)
حقيبة لحقنة في الوريد من العلاج الجيني الجديد «كيمريا» (أ.ب)
TT

العلاج الجيني... آمال واسعة واستخدامات لا تزال محدودة

حقيبة لحقنة في الوريد من العلاج الجيني الجديد «كيمريا» (أ.ب)
حقيبة لحقنة في الوريد من العلاج الجيني الجديد «كيمريا» (أ.ب)

لأول مرة في تاريخ ممارسة الطب بالولايات المتحدة، منحت إدارة الدواء والغذاء الأميركية FDA يوم الأربعاء الموافق الثلاثين من أغسطس (آب) الماضي، موافقتها على البدء باستخدام أول علاج جيني Gene Therapy لمرضى السرطان بالولايات المتحدة.
علاجات جينية
وتمثل العلاجات الجينية طريقاً مختلفاً في معالجة بعض من أنواع الأمراض الوراثية أو المُكتسبة، وتعتمد هذه الطريقة العلاجية على أنواع مختلفة من المقاربات في التعامل مع الأمراض بغية إزالتها من أصلها. وهي وإن ما زالت في جوانب شتى قيد البحث والدراسة، إلاّ أن موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية على البدء باستخدامها هو بداية فعلية لنقلها من أروقة المختبرات إلى غرف المرضى كوسيلة علاجية. ويعتمد النوع الأكثر شيوعاً من أشكال العلاج الجيني، على إدخال قطعة طبيعية من الجينات لتحل محل القطعة الجينية غير الطبيعية ضمن سلسلة تراكيب الجينات الوراثية في الحمض النووي «دي إن إيه». DNA وهناك أنواع أخرى تشمل إصلاح الاضطراب في القطعة الجينية المختلة، وتغيير درجة تشغيل أو إيقاف الجين، وإجراء عملية مبادلة بين الجين غير الطبيعي والجين الطبيعي.
ويقوم علاج كيمريا Kymriah الجيني، واسمه العلمي «تيساجنليكلوسيل» Tisagenlecleucel، بإجراء عملية «قرص» لخلايا جهاز مناعة الجسم، أشبه بالقرصة على الأذن، كي تنشط وتتحول إلى «دواء حي» يسري في الجسم ليقوم بمهمة محاربة الخلايا السرطانية الدموية في حالات اللوكيميا leukemia وهو سرطان الدم، من نوع «سرطان ابيضاض الدم الليمفاوي الحاد» Acute Lymphoblastic Leukemia، وهو المرض الذي يتم اختصاره باسم «إيه إل إل» ALL.
عقار مضاد للسرطان
و«سرطان ابيضاض الدم الليمفاوي الحاد» أحد أنواع أمراض سرطان خلايا الدم البيضاء، ويحصل فيه تكاثر غير طبيعي وغير منضبط، وخلال فترة زمنية قصيرة جداً في خلايا الدم البيضاء وهي في نخاع العظم Bone Marrow، لتخرج إلى الدم وتنتشر في الجسم. وهو شكل حاد من سرطان خلايا الدم البيضاء، والذي يتميز بإفراط إنتاج وتراكم خلايا الدم البيضاء السرطانية غير الناضجة في نخاع العظم، ما يُؤدي إلى التسبب بتثبيط إنتاج الخلايا الطبيعية الأخرى التي يُنتجها نخاع العظم عادة، أي خلايا الدم الحمراء وخلايا الدم البيضاء والصفائح الدموية Platelets، وما يُؤدي أيضاً إلى انتشار تلك الخلايا السرطانية في أرجاء الجسم.
ونتيجة لكل هذا، يحصل فقر الدم Anemia وضعف دقات القلب والتعب والصداع، نتيجة عدم إنتاج الكميات الطبيعية من خلايا الدم الحمراء، كما يسهل حصول الالتهابات الميكروبية والحمى، نتيجة لنقص عدد خلايا الدم البيضاء Neutropenia وضعف عملها، وأيضاً تحصل سهولة في النزيف الدموي، نتيجة لنقص إنتاج الصفائح الدموية Thrombocytopenia. وكل هذا هو عبارة عن «هدر للموارد» يحصل في نخاع العظم بفعل التكاثر غير المنضبط للخلايا السرطانية فيه.
ويُعتبر نوع السرطان هذا من أكثر السرطانات شيوعاً فيما بين الأطفال ما بين عمر الثانية والخامسة من العمر، ويُشكل نحو 30 في المائة من أمراض السرطان التي تصيب الأطفال، كما يُصيب الكبار في عمر ما فوق الخمسين سنة. كما يُعتبر نوع بي B - Cell من «سرطان ابيضاض الدم الليمفاوي الحاد» الأكثر شيوعاً من بينها وفيه تتكاثر نوعية خلايا بي الليمفاوية، وهناك نوع آخر أقل شيوعاً وهو نوع سرطان نوع خلايا تي T - Cell.
استخدام محدود
ووفق ما صرحت به إدارة الغذاء والدواء الأميركية، يُمكن استخدام العلاج الجيني الجديد للأطفال والبالغين الذين لا يستجيبون لبرامج العلاج الكيميائي المستخدم حالياً في معالجة حالات «سرطان ابيضاض الدم الليمفاوي الحاد». وخلال المؤتمر الصحافي بهذا الشأن، علق الدكتور سكوت غوتليب، مفوض إدارة الغذاء والدواء الأميركية، بالقول: «إعلان يوم الأربعاء سيغير وجه الطب الحديث وتطوير الأدوية. وقد تمت دراسة منتجات العلاج الجيني في معالجة الكثير من الحالات والأمراض، التي تشمل الاضطرابات الجينية وأمراض أخرى». وأضاف غوتليب أن «منتجات العلاج الجيني تجري دراستها حاليا في الكثير من الأمراض والحالات، بما في ذلك حالات الاضطرابات الوراثية وأمراض المناعة الذاتية وأمراض القلب والسرطان والسكري وفيروس نقص المناعة البشري - الإيدز».
ووفق ما تشير إليه الإحصاءات الطبية للمؤسسة القومية للسرطان بالولايات المتحدة U.S. National Cancer Institute فإن نحو 20 في المائة من المُصابين بنوع بي من حالات «سرطان ابيضاض الدم الليمفاوي الحاد» إما لا يستجيبون للمعالجة الكيميائية المتوافرة حالياً أو تعود إليهم حالة السرطان تلك، وهي الحالات التي يُرجى أن تستفيد من العلاج الجيني الجديد.
من جانبه علق الدكتور كينيث أندرسون، رئيس الجمعية الأميركية لأمراض الدم والذي يُركز على سرطان الدم، بقوله: «إن موافقة يوم الأربعاء تمثل تحولا مهماً في نموذج علاج سرطان الدم، ولدينا الآن دليل على أنه من الممكن القضاء على السرطان عن طريق تسخير قوة الجهاز المناعي للمريض، وهذا هو العلاج العلاجي المحتمل في مرضى اللوكيميا الذين لا يستجيبون للعلاجات الأخرى». ومع ذلك، أكد الدكتور أندرسون أن «هذه الموافقة تتعلق فقط بعدد صغير من الأطفال المُصابين بسرطان ابيضاض الدم الليمفاوي الحاد، وهناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لجعل هذا العلاج أكثر فاعلية لمجموعة أوسع من مرضى هذا النوع من السرطان، والحد من الآثار الجانبية الشديدة التي يعاني منها المرضى خلال فترة العلاج، وفي نهاية الأمر لإيجاد تطبيق أوسع باستخدامه خارج سرطانات الدم».
وهو ما وافق عليه الدكتور أوتيس براولي، كبير المسؤولين الطبيين في الجمعية الأميركية للسرطان، بقوله: «هذا كبير كبير، وأتوقع أن هذه التكنولوجيا سوف تنتشر إلى معالجة أمراض أخرى على مدى السنوات القليلة المقبلة، إنها طريقة جديدة لعلاج السرطان التي أعتقد أننا سوف نزيد استغلالها بنجاح على مدى العقد المقبل».
واعتمدت إدارة الغذاء والدواء في قرارها على دراسة إكلينيكية شملت 63 مريضاً بنوع بي من سرطان ابيضاض الدم الليمفاوي الحاد، وبعد ثلاثة أشهر من العلاج، ظل 83 في المائة من المرضى بلا سرطان. وأفاد الدكتور غوتليب أن موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية كانت سريعة، وتمت بعد سبعة أشهر فقط من تسلم الوكالة للطلب المبدئي حول الموافقة على بدء استخدامه في معالجة المرضى من قبل الشركة المنتجة للعقار.
وبمقابل هذه الجوانب الإيجابية في الحديث عن العلاج الجيني الجديد، فإنه يأتي مع احتمال تسبب هذا العقار بآثار جانبية شديدة محتملة، وأحدها هو «متلازمة إفراج السيتوكين» Cytokine Release Syndrome، وهو من مضاعفات العلاج المناعي الشائعة التي تسبب الحمى بدرجة قد تهدد الحياة وأعراض تشبه الأنفلونزا، كما أن هذا العقار يمكن أن يسبب بعض الانتكاسات العصبية والالتهابات الخطيرة وانخفاض ضغط الدم وضعف الكلى الحاد. وبسبب هذه المخاوف المتعلقة بسلامة المرضى عند تلقي المعالجة به، ستطلب إدارة الغذاء والدواء الأميركية أن تحصل المستشفيات على شهادة خاصة لاستخدام هذا العقار الجديد، وفقا لما ذكرته الإدارة في بيان الموافقة على بدء استخدامه. ورغم عدم تصريح الشركة المنتجة عن التكلفة المادية لهذا العقار، فإن بعض المراقبين الطبيين يتوقعون أنه في حدود 300 ألف دولار لكل حالة مرضية.
آفاق المستقبل
وأفادت إدارة الغذاء والدواء الأميركية بأن ثمة علاجات جينية أخرى للسرطان في خط أنابيب البحوث الجارية اليوم. وكانت دراسة إكلينيكية صينية في يونيو (حزيران) الماضي قد أظهرت نتائج واعدة في علاج نوع آخر من سرطان الدم، وهو الورم النخاعي المتعدد Multiple Myeloma، وذلك باستخدام خلايا تي المبرمجة Reprogrammed T - Cells في الطريقة نفسها تماما كما يفعل العقار الجيني الجديد.
وأفاد الدكتور غوتليب بكلمات مفعمة بالأمل أن إدارة الغذاء والدواء الأميركية قد منحت بالفعل أكثر من 550 تصريحاً بإجراء تطبيقات فعلية للتحقق من الجدوى الدوائية لمجموعة من الأدوية ذات الصلة بمنتجات العلاج الجيني، ورغم أن الطريق لا يزال طويلاً نحو إنتاج علاجات جينية مأمونة وفعالة فإن العجلة المحورية اليوم لإتمام تلك الرحلة قد اكتملت، ووصل العلم إلى نقطة تفوق، حيث إن ما يكفي من مكونات هذه المساعي الجادة في البحث عن تلك الأدوية قد تم وضعها بالفعل، بما يُمكننا من خلاله أن نُقدم مجموعة من العلاجات الفعالة للمرضى.

* استشارية في الباطنية


مقالات ذات صلة

دهون العضلات قد تزيد خطر الوفاة بأمراض القلب

صحتك دهون العضلات قد تزيد خطر الوفاة بسبب النوبات القلبية أو قصور القلب (رويترز)

دهون العضلات قد تزيد خطر الوفاة بأمراض القلب

أظهرت دراسة أن الأشخاص الذين لديهم جيوب خفية من الدهون في عضلاتهم معرضون لخطر أكبر للوفاة، بسبب النوبات القلبية أو قصور القلب، بغض النظر عن وزن الجسم.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك الغرسة يمكنها تغيير نشاط المخ وتحسين الحالة المزاجية (أ.ف.ب)

غرسة دماغية يمكنها تحسين المزاج

ستخضع غرسة دماغية، يمكنها تحسين الحالة المزاجية باستخدام الموجات فوق الصوتية، للتجربة من قِبل هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
تكنولوجيا الساعات الذكية تزيد من قلق الأشخاص بشأن صحتهم (رويترز)

الساعات الذكية تزيد من قلق الأشخاص بشأن صحتهم

أظهر تقرير جديد أن أكثر من نصف مالكي الساعات الذكية يقولون إن هذه الأجهزة تجعلهم يشعرون بمزيد من التوتر والقلق بشأن صحتهم.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك بائع للفاكهة في الصين (أ.ف.ب)

دراسة: تناول المأكولات الغنية بالألياف يحمي الجسم من العدوى

أفادت دراسة علمية حديثة بأن تناول المأكولات الغنية بالألياف يزيد من حماية الجسم من العدوى.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك القواعد الأساسية للرجال المعاصرين تمكِّنهم من الحفاظ على لياقتهم البدنية

7 نصائح للرجال للياقة بدنية تتجاوز العمر

القواعد الأساسية للرجال المعاصرين تمكِّنهم من الحفاظ على لياقتهم البدنية ليتمتعوا بصحة أفضل يوماً بعد يوم وفي أي عمر.

«الشرق الأوسط» (لندن)

التعرُّف على اضطرابات الدماغ من شبكية العين

العمليات الحيوية في شبكية العين والدماغ متشابهة جداً (ماكس بلانك)
العمليات الحيوية في شبكية العين والدماغ متشابهة جداً (ماكس بلانك)
TT

التعرُّف على اضطرابات الدماغ من شبكية العين

العمليات الحيوية في شبكية العين والدماغ متشابهة جداً (ماكس بلانك)
العمليات الحيوية في شبكية العين والدماغ متشابهة جداً (ماكس بلانك)

أظهرت دراسة جديدة أجراها باحثون من معهد ماكس بلانك للطب النفسي بألمانيا، أنّ الشبكية بمنزلة امتداد خارجي للدماغ وتشترك في الجينات عينها، ما يجعلها طريقة سهلة للعلماء للوصول إلى دراسة اضطرابات الدماغ بمستويات أعلى من الدقة.

وأفادت النتائج بأنّ العمليات الحيوية في شبكية العين والدماغ متشابهة جداً، وهذا من شأنه جعل الشبكية بديلاً رائعاً لدراسة الاضطرابات العصبية وبطريقة فائقة السهولة؛ «لأننا نستطيع فحص شبكية العين لدى المرضى بدقة أعلى بكثير من الدماغ»، وفق الباحثين. وهم أكدوا على أن فهم الآليات البيولوجية حول هذا الأمر من شأنه مساعدتهم على تطوير خيارات علاجية أكثر فاعلية وأكثر شخصية.

وحلَّل باحثو الدراسة المنشورة في دورية «جاما سيكاتري»، الارتباط الجيني بين خلايا الشبكية وعدد من الاضطرابات العصبية النفسية. ومن خلال الجمع بين البيانات المختلفة، وجدوا أنّ جينات خطر الفصام كانت مرتبطة بخلايا عصبية محدّدة في شبكية العين.

وتشير جينات الخطر المعنيّة هذه إلى ضعف بيولوجيا المشابك العصبية، وبالتالي ضعف قدرة الخلايا العصبية على التواصل مع بعضها البعض. ويرجح الباحثون أن يكون هذا الضعف موجوداً أيضاً في أدمغة مرضى الفصام.

وبناءً على تلك الفرضية، أظهر الباحثون أنّ الاتصال العصبي يبدو معوقاً في شبكية العين لدى مرضى الفصام بالفعل.

وأوضحوا، في بيان، الجمعة أنّ «العثور على هذا الخلل في العين يشير إلى أنّ العمليات في الشبكية والدماغ متشابهة جداً؛ وهذا من شأنه جعل الشبكية بديلاً رائعاً لدراسة الاضطرابات العصبية، لأننا نستطيع فحص شبكية العين لدى المرضى بدقة أعلى بكثير من الدماغ».

في دراستهم السابقة، وجد باحثو معهد ماكس بلانك للطب النفسي، برئاسة فلوريان رابي، تغيّرات في شبكية العين لدى مرضى الفصام أصبحت أكثر حدّة مع زيادة المخاطر الجينية. وبناءً على ذلك، اشتبهوا في أنّ التغيرات الشبكية ليست نتيجة لأمراض مصاحبة شائعة مثل السمنة أو مرض السكري فحسب، وإنما قد تكون ناجمة عن آليات أمراض مدفوعة بالفصام بشكل مباشر.

إذا كانت هذه هي الحال، فإنّ معرفة مزيد عن هذه التغيّرات قد تساعد الباحثين على فهم الآليات البيولوجية وراء الاضطراب. وبالإضافة إلى الفصام، لوحظت تغيرات في الشبكية لدى مرضى الاضطراب ثنائي القطب والاكتئاب والتصلّب المتعدّد ومرض ألزهايمر ومرض باركنسون والسكتة الدماغية.

باستخدام بيانات من دراسات كبيرة سابقة، دمج رابي والمؤلّف الأول إيمانويل بودريوت من معهد ماكس بلانك للطب النفسي وجامعة لودفيغ ماكسيميليان ميونيخ في ألمانيا، بيانات المخاطر الجينية من الاضطرابات العصبية النفسية مع بيانات تسلسل الحمض النووي الريبي للشبكية.

أظهرت النتائج أنّ جينات المخاطر كانت مرتبطة بخلايا شبكية مختلفة في الاضطرابات المذكورة أعلاه.

كما ارتبط الخطر الجيني للإصابة بالتصلّب المتعدّد بخلايا المناعة في الشبكية، بما يتماشى مع الطبيعة المناعية الذاتية للاضطراب. وكذلك ارتبطت جينات الخطر للإصابة بالفصام بفئة محددة من الخلايا العصبية الشبكية تشارك في الوظيفة المشبكية، وتحدّد قدرة الخلايا العصبية على التواصل مع بعضها البعض.