ليلى صبار... معالجة أدبية لظاهرة العنف

اثنتا عشرة شخصية في اثنتي عشرة قصة

ليلى صبار... معالجة أدبية لظاهرة العنف
TT

ليلى صبار... معالجة أدبية لظاهرة العنف

ليلى صبار... معالجة أدبية لظاهرة العنف

قلما يذكر في العالم العربي اسم ليلى صبار، الكاتبة الفرنسية من أصل جزائري (من أب جزائري وأم فرنسية)، لكنها تعتبر في فرنسا إحدى الكاتبات المرموقات اللوائي نلن جوائز أدبية عدة. وكانت قد انتقلت إلى فرنسا بعد أن انتقلت العائلة إليها في نهاية الخمسينات. عملت صبار أولاً مدرسة للغة الفرنسية، ثم في الإذاعة الثقافية الفرنسية لمدة خمسة عشر عاماً. وقد شقت طريقها في الأدب، وشاع اسمها بعد عدة أعمال تتمحور جميعها حول الجزائر، والتاريخ الاستعماري، في قالب سرد ذاتي. وعالجت في أعمالها الغزيرة مشكلات الهجرة والتأقلم، والفوارق الثقافية بين فرنسا والجزائر.
وفي عناوين أعمال ليلى صبار كثيراً من الألوان: «الملابس الخضراء»، و«العيون الخضر»، و«البيت الأزرق»، و... «الشرق أحمر». وهذا العنوان الأخير لآخر عمل لها، وهو يدل كما هو واضح على الجغرافيا أولاً، وثانياً على اللون، لون الدم، ولون الجمر... إنه الشرق المثقل بالدم والنار.
في هذا العمل، تلجأ ليلى صبار إلى القصة القصيرة، حيث تسرد وقائع معيشة في بلاد الشام، في قالب أدبي بمزيج من لغة أنطون تشيخوف، وتصوير فرانز كافكا؛ لغة مختصرة الكلمات، لكنها صادمة وجارحة، بمشاهد مؤلمة حتى البكاء، مازجة بين الماضي والحاضر، بين التاريخي والآني، اثنتا عشرة قصة قصيرة كلوحات متماثلة في قاعة عرض.
اثنتا عشرة شخصية في اثنتي عشرة قصة تطرح أسئلة عن ظاهرة جديدة لم تجد لها الكاتبة تفسيراً بعد: ما الدوافع وراء الشباب والشابات الذين ينعمون بحياة هادئة، ودولهم توفر لهم كل الإمكانيات للنجاح، للانجرار للتطرف؟ لماذا هذه الرغبة بالانتقام ممن يعتبرونهم «كفاراً»؟ وماذا ستكون نتائج هذه الظاهرة الخطيرة التي تدفع هؤلاء لارتكاب جرائم مريعة بحق أبناء بلادهم؟ أي دين لهؤلاء الذين لا يعرف بعضهم حتى سورة قرآنية واحدة عن ظهر قلب ليرتكب أعمال عنف باسم الدين؟ وما دور المواقع الاجتماعية في تأجيج هذه الظاهرة، ودور المجتمع فيما يحدث؟ هل هناك أسباب تجعلنا نعتقد أن هذا المجتمع أصابه خلل ما في أحد أعضائه الوظيفية؟
«الشرق أحمر» هو عمل أدبي أولاً، لكنه أيضاً سياسي وأخلاقي ونفسي، فليلى صبار تبحث عن الفجوات النفسية في أعماق شخصياتها. اثنتا عشرة قصة هروب لاثنتي عشرة شخصية، بين ليلة وضحاها، يصل هؤلاء إلى سوريا والعراق، ليجدون أنفسهم في بلاد تدمرها الحروب ويعمها الخراب.
تبدأ ليلى صبار حكاياتها بـ«مشردة تدمر»، مع مجموعة من المتطرفين في معرض فني تشكيلي، حيث كانوا يبحثون عن لوحة فنية لفنان كبير يريدون تمزيقها، فيختارون لوحة دولاكروا الشهيرة «نساء الجزائر». نساء عاهرات بالنسبة لهم، ثم ينتهي بهم المطاف في تدمر في صفوف «داعش»، في المدينة الأثرية معجزة الصحراء السورية، ليجدوا امرأة تهيم على وجهها؛ زوجها يعمل على حدود تركيا، وابنها البكر جندي في جيش الخلافة، أستاذ تنتهي حياته تحت ركام منزله المهدم، وابنها الأصغر هرب إلى مكان مجهول بعد أن بات منزله حطاماً بصاروخ موجه، وهي تهرب من حرب أتت على الأخضر واليابس، تسير في هذه التيهاء بجلابيب مهلهلة كمعتوهة لا تعرف في أي جهة تهيم.
وفي قصصها «كاهنة» و«القاتلة الصغيرة» و«بلاد السعادة» و«الأخوات الثلاث»، ركزت الكاتبة على هؤلاء الفتيات اللواتي كن لقمة سائغة لأفكار متطرفة لا تمت إلى ثقافتهن بصلة، وتحولن بقناعتهن إلى آلة حيوانية لإرضاء رغبات المقاتلين.
صور مختصرة لواقع المشرق في مخيلة ليلى صبار لأنها لم تعش يوماً واحداً في سوريا أو العراق. عمل أدبي من مشاهدات على شاشات التلفزيون لصور العنف والقصف الذي عصف بهذين البلدين، وبحث في ظاهرة «الجهاد» التي أغرت عدداً من الشبان والشابات الفرنسيين، وقضت مضاجع أوروبا كاملة. قصص ليلى صبار معالجة أدبية لظاهرة اجتماعية وأمنية.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.