«الشرق الأوسط» تستكشف «دمشق الصغيرة» في القاهرة

الوجبات الشعبية رهان اللاجئات... والمطاعم تجذب المصريين والأجانب

سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
TT

«الشرق الأوسط» تستكشف «دمشق الصغيرة» في القاهرة

سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)

في أحد منازل ضاحية العبور بشرق القاهرة، تقوم مجموعة من النساء السوريات باستغلال خبرتهن في الطهي لإعداد الوصفات السورية التقليدية؛ وبعناية يقمن بتحضيرها لضمان مذاق يعمل على رواج أطباقهن التي يبتاعها منهن المصريين والأجانب في مصر على السواء، حيث تذهب تلك الأطباق مباشرة من مطابخهن إلى الزبائن بعد تسجيل الطلب تليفونيا.
نساء المطبخ السوري أطلقن على مشروعهن الصغير مسمى «زيت زيتون»، وهو اسم ترويجي من منتج سوري شهير، وهدفن من ذلك تزويد أنفسهن بمصدر جيد للمال، وتوفير دخل ثابت، وهو ما نجحن فيه بالفعل خلال السنوات الأربع الماضية، حيث لاقت صناعة الأطعمة السورية الشهيرة رواجا بين المصريين.
أما في الجهة المقابلة من القاهرة، حيث تقع ضاحية السادس من أكتوبر، فقد تخطى المطبخ السوري المنازل إلى المطاعم، ومن نطاق المشروع الصغير إلى المتوسط، بعد أن افتتح السوريون مجموعة من المطاعم لتكون مصدر رزق لهم، حيث استقر الكثير منهم في هذه المدينة بعد فرارهم من سوريا إلى مصر، مستغلين مهاراتهم ومدخّراتهم من أجل توفير لقمة العيش، واختاروا الدخول في مجال المأكولات، وهو «الرهان» الذي نجح بتفوق بعد أن جذبت المطاعم آلاف المصريين والأجانب المقيمين بالقاهرة.
الرهان على مصر لم يظهر فقط على الأرض، فقبل أيام قليلة انتشر في الفضاء الإلكتروني «تغريدات» ينصح مضمونها - الذي كتبه سوريون مقيمون في القاهرة - بالقدوم إلى مصر، مؤكدين أنها الأفضل بين جميع الدول العربية بالنسبة لهم، وذلك بعد أن طالب شاب سوري من مواطنيه تقديم النصائح إليه، والإجابة عن سؤاله «هل المعيشة بمصر جيدة؟».
منذ 6 سنوات وحتى اليوم؛ ما زالت مصر ملجأ لآلاف الأفراد والعائلات السورية اللاجئة التي جاءت تبحث عن الأمان، والفرار من ويلات الحرب في بلادهم واستمرار الصراعات، وعجزهم عن مواصلة الحياة والاستقرار هناك.

120 ألف لاجئ
ويقدر عدد اللاجئين السوريين في مصر بنصف مليون سوري في الوقت الراهن، بحسب إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي أعلنت خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي عن تسجيل مكتب المفوضية في القاهرة ما يزيد على 120 ألف لاجئ سوري، بينهم قرابة 52 ألف طفل، استضافتهم مصر، وقدمت لهم الدعم اللازم، فيما قدرت عدد اللاجئين السوريين المسجلين وغير المسجلين بمكتب المفوضية إلى نحو نصف مليون لاجئ سوري. وهو الرقم المعلن أيضا من جانب الحكومة المصرية، وفق تقديرات محمد ثروت سليم، القائم بأعمال السفارة المصرية في سوريا.
وبحسب المفوضية، التي تعمل على توفير الحماية والمساعدة للاجئين السوريين بالتعاون مع الحكومة المصرية ومجموعة من الشركاء، فإن هؤلاء اللاجئين يصارع من أجل البقاء، وكسب الرزق، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لأنفسهم، عبر توفير المستلزمات الأساسية للعيش كالطعام والرعاية الصحية والتعليم. علما بأن الوضع الاقتصادي الصعب في مصر المترافق مع تدهور في سعر صرف الجنيه المصري أدى إلى ارتفاع شديد في أسعار المنتجات وتكاليف المعيشة.
وتوضح المفوضية أن «مصر لا تدير مخيمات للاجئين، لذا يجب على هؤلاء الأشخاص أن يعولوا أنفسهم إلى أن يتم تسجيلهم كلاجئين». وهو ما بادر إليه السوريون بتأسيس مشروعات صغيرة في مصر تدعمهم على المعيشة، والتي تعتمد على تقديم الخدمات إلى المواطنين المصريين، والحصول على الأموال للإنفاق على أسرهم وغيرهم من النازحين، وهو الوضع الذي يصفه القائم بالأعمال المصري بأن «السوريين نجحوا جميعاً في الاندماج في المجتمع المصري».
أسباب هذا النجاح يُرجعها «فضل»، الذي اصطحب أسرته إلى القاهرة منذ عام 2012، إلى أن مصر تطبق سياسة الباب المفتوح. وعندما التقى اللاجئ الأربعيني المفوضية لأول مرة في القاهرة قال: «أتينا إلى مصر ليس لإمكانية دخولها بطرق قانونية فحسب، بل لأننا سمعنا أن الحياة فيها أرخص بكثير من الدول الأخرى».
سبب آخر يتمثل في ترحيب الشعب المصري باللاجئين السوريين، بل واستقبالهم في منازلهم واقتسام مواردهم الضئيلة معهم. وبحسب «فضل»: «فإنهم عاملونا بشكل جيد»، مضيفاً أنه سعيد بقدوم أسرته إلى مصر عوضاً عن التوجه إلى تركيا، أو الأردن أو العراق التي تستضيف أعداداً أكبر كثيراً من اللاجئين يقيم العديد منهم في المخيمات.
تتيح مصر لـ«فضل» ولآلاف غيره الحق في الوصول الكامل والمجاني لنفس الخدمات العامة المقدمة للمصريين، كما يتمتع السوريون بالرعاية الصحية نفسها وخدمات التعليم الأساسي والعالي، كما تسجل مصر أعلى معدلات التحاق لأطفال اللاجئين السوريين بالمدارس، حيث يبلغ عدد الطلاب المسجلين في المدارس 39.314 طالبا سوريا، ويبلغ عدد الطلاب السوريين المسجلين في الجامعات المصرية نحو 14 ألف طالب بالجامعات، وفق إحصائيات رسمية للخارجية المصرية.
وفيما وقعت الحكومة المصرية والأمم المتحدة في فبراير (شباط) 2015 خطة رئيسية لمساعدة اللاجئين السوريين في مصر، عبر الاستفادة من برامج المساعدة، والتركيز النوعي على سبل العيش، وخلق فرص اقتصادية؛ يُقر لاجئون مقيمون بمصر بأنها هي الأفضل للعمل؛ كونها تمتلك السوق الداخلية الأكبر عربيا، والموقع الجغرافي الأفضل والأقرب إلى الأسواق التصديرية في الخليج وأفريقيا وأوروبا.

المستثمر الأول في مصر
واستنادا لتقارير الأمم المتحدة، يعتبر السوري هو المستثمر الأول في مصر خلال السنوات الست الماضية. فيما يؤكد خبراء اقتصاديون مصريون، أن السوريين استطاعوا أن يخلقوا توازنا اقتصاديا، وأن يدخلوا في عجلة الاقتصاد كمنتجين ومستهلكين.
ويؤكد تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، صدر في مايو (أيار) الماضي، نجاح السوريين في إنشاء مشروعات تجارية واستثمارات تقدر بـ800 مليون دولار في السوق المصرية منذ عام 2011 إلى الآن.
وأشار التقرير، الذي حمل عنوان «توفير فرص العمل يحدث الأثر المنشود»، إلى أن السوريين استطاعوا الدخول إلى الاقتصاد المصري، والمشاركة برأس مال قدر بالملايين خلال السنوات الماضية، رغم أن عددا كبيرا من الصعوبات التي واجهتهم مثل الحصول على تراخيص العمل، وإن كان من المحتمل أن يكون هذا التقدير أقل من الرقم الفعلي، لأن عددا كبيرا من المشروعات التجارية السورية لا تكون مسجلة، أو تسجل تحت اسم مصري.
وذكر التقرير أن المشروعات السورية تدخل في عدد كبير من القطاعات مثل النسيج والمطاعم والأسواق المحلية، وشركات تكنولوجيا المعلومات، بجانب أن عددا كبيرا من المصريين يعمل فيها، إضافة إلى أن الشركات السورية توفر التدريب للمصريين، وتضخ العملة الأجنبية، وتعزز الصادرات.
ونوه التقرير إلى أنه رغم صعوبات إنشاء مشروعات تجارية في مصر، فإنه تبين أن مصر من بين الأماكن الأكثر استقطابا للاجئين السوريين الراغبين في إنشاء مشروعات، لعدة أسباب؛ منها رغبة المصريين في السماح لهذه الشركات بالازدهار، وكبر السوق وسلسلة الإمداد في مصر، ووجود جالية من رجال الأعمال السوريين المقيمين مثل (جمعية رجال الأعمال السوريين)، والعديد من المنظمات غير الحكومية التي يديرها السوريون.
«الأثر المنشود»، بعيداً عن الإحصائيات يمكن لمسه فعليا على أرض الواقع في مناطق بعينها في مصر مثل: التجمع ومدينة نصر والشروق ومدينة السادس من أكتوبر، والأخيرة بصفة خاصة تحظى بالنصيب الأكبر من التواجد السوري، وهو ما دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إليها لرصد واقع السوريين فيها على الطبيعة.

أسماء جاذبة للمستهلك
فما أن تطأ القدم المدينة، التي تنصف كأحد المجتمعات العمرانية الجديدة بمصر، إلا ويُرى التواجد السوري جليا، فالمشروعات التجارية السورية تُلمس من خلال رؤية العدد الكبير من المحلات ذات الأسماء السورية لا سيما المطاعم، فالزائر للمدينة ليس غريباً عليه أن يتجول بين مطاعم ومحال ترفع أسماء «الشامي» و«الحلبي»، و«الدمشقي»، أو «باب الحارة»، و«ست الشام»، و«الركن الدمشقي»، و«ريف دمشق»... وهي الأسماء الكفيلة بجذب الزبائن إلى منتجاتها.
في الحي السابع بالمدينة يسمى الشارع التجاري الأبرز باسم «سوريا» أو «دمشق الصغيرة»، وسبب التسمية أن كل شيء فيه يحمل الروح السورية بدءا من المطاعم، التي تتخصص في تقديم الفلافل السورية المصنوعة من الحمص، والشاورما والمناقيش، والفتة والكباب الحلبي، وهي الأطعمة ذات السمعة الجيدة في السوق المصرية.
وبجانب المطاعم هناك محلات أخرى تتخصص في بيع منتجات سورية مثل الجبن والمكسرات وزيت الزيتون، وهناك متاجر الملابس، والعصائر، وباعة الخردوات، إلى جانب عدد من المقاهي.
وعلى نطاق واسع؛ تنتشر بالمدينة محلات صناعة الحلوى السورية والشامية، وأبرزها بلح الشام المقرمش والمهلبية السورية، إلى جانب الحلويات الشامية الأصلية كالكنافة النابلسية والقطايف والنمورة والمعمول والعوامة والبسبوسة وغيرها.
ويسرد محمد، وهو أحد الطلاب السوريين الدارسين بإحدى جامعات السادس من أكتوبر، أن التواجد التجاري السوري ظهر في بداية الأمر من خلال المطاعم السورية التي انتشرت بشكل سريع مع وفود عدد كبير من أهل سوريا، حيث أقبل المصريون على هذه المأكولات السورية بصورة لافتة للنظر، بل ذاع صيت العديد منها خلال السنوات الماضية لتنافس أكبر المطاعم المصرية ومطاعم «التيك أواي» الشهيرة التي تزدحم بها القاهرة والمحافظات المصرية.
ويتابع: «المصريون لا يعتبروننا ضيوفاً لديهم ولكنهم يعاملوننا على أننا أصحاب مكان، وهو ما منح السوريين حرية في العمل، سواء عبر العمل الحرفي، أو إقامة مشروعات تجارية وصناعية، وهو ما جعل النشاط الاقتصادي يتوسع إلى حد كبير خلال الفترة الماضية».
«ظهرت المطاعم قبل 6 سنوات، لكن الأمر تبدل الآن بعد أن بدأت النشاطات التجارية الأخرى في الظهور تباعا»، هذا ما ترويه رضوى، ربة منزل مصرية، التقتها «الشرق الأوسط» حيث كانت تتسوق في الشارع التجاري السوري بالمدينة، مضيفة أن المنتجات السورية وجدت طريقها للمنازل المصرية بعد أن لاقت رواجا كبيرا، لافتة إلى أن نشاطات السوريين في مصر حاليا لم تعد مقصورة على تجارة أو نشاط بعينه.
وتكمل حديثها: «بين عشية وضحاها انتشر السوريون بيننا من خلال افتتاح أنشطة متعددة، منها مغاسل تنظيف السجاد، ومغاسل السيارات، وتجارة بيع السيارات المستعملة، وصالونات التجميل، ومحلات بيع الآيس كريم، ومحلات بيع وصيانة أجهزة الجوال المحمولة، إلى جانب لجوء عدد كبير من السيدات السوريات إلى بيع الوجبات والحلويات السورية، وتوسعهن في الأعمال اليدوية بجميع أنواعها، خاصة المفروشات والإكسسوارات، بخلاف انتشار السوريين في عشرات المحلات كبائعين».
داخل أحد المطاعم السورية، يقول العامل «أبو علي»: «غالبية السوريين هنا (في حي 6 أكتوبر) كان لهم أعمال دائمة في دمشق والمدن الأخرى، وجميعهم من الأيدي العاملة والماهرة، وغادروا البلاد وسط ظروف معيشية صعبة، ولكنهم حملوا معهم بعضا مما اشتهر به المطبخ السوري، وهو ما أتاح لنا العمل هنا بعمل مفيد. ومع البراعة والحرفية في الصنعة تمكن السوريون من وضع بصمتهم في أرجاء مصر بمحلاتهم ومطاعمهم التي تقدم الوجبات الشعبية، والتي تعتبر جاذبة لمعظم المصريين بمختلف فئاتهم، ومناسبة لكل طبقاتهم الاجتماعية، بل أصبح لكل مطعم قاعدة من الزبائن الذين يقصدونه باستمرار لتذوق أطباق المطبخ السوري».
وبرأي «أبو علي» أن «تركز غالبية المشروعات والأنشطة الاقتصادية السورية في المطاعم يعود إلى كون الطعام أحد مظاهر التعبير عن التراث والثقافة، وبالتالي يحاول اللاجئون السوريون التعبير عما يحملونه من حنين لتراثهم، وكشكل من أشكال التمسك بأحد مظاهر الثقافة الأكثر وضوحا في البلاد والمتمثلة في المطبخ السوري».



«بريكست» بريطانيا... الحمى أقل زخماً

نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)
نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)
TT

«بريكست» بريطانيا... الحمى أقل زخماً

نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)
نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)

خلال السنوات الـ8 التي مرت منذ التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016، كُتبت ملايين الكلمات عن آثاره. وحتى يومنا هذا، لا تزال قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تقسم البريطانيين.

في المملكة المتحدة، هيمن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على النقاش السياسي لسنوات، سيما بين عامي 2016 و2019. وبدا الأمر وكأن الملحمة لا نهاية لها. كنت نائباً في البرلمان ووزيراً في الحكومة البريطانية طوال ذلك الوقت. وأعلم كم من الوقت استهلك الجدل الذي يبدو بلا نهاية.

لكن الساحة السياسية في المملكة المتحدة اليوم أصبحت أقل زخماً بحمى البريكست. واستقر النقاش الآن على شواغل أطول أجلاً: كيف يمكننا تنمية الاقتصاد؟ وكيف يمكننا التعامل مع مستويات الهجرة المرتفعة للغاية؟ وكيف يمكن للمملكة المتحدة أن ترسم طريقها في الساحة الدولية؟

وزير الخزانة البريطاني السابق كوازي كوارتنغ (غيتي)

في الأثناء، وفي أوروبا نفسها، هناك مشاكل ملحة لا علاقة لها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والمشاكل التي تواجهها أوروبا تماثل بشكل ملحوظ مشاكل بريطانيا.

يُنظر إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على اعتبار أنه عمل غريب وضرب من الجنون من جانب البريطانيين، في الوقت الذي أصبحت فيه القوى الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا أكثر تركيزاً على الداخل وأكثر تفتتاً من الناحية السياسية.

كان سقوط حكومة ميشال بارنييه بفرنسا، في بداية ديسمبر (كانون الأول)، مثالاً على مشكلة أوروبية لا علاقة لها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. جاء رحيل بارنييه، بعد 3 أشهر فقط، بعد وقت قصير من انهيار الائتلاف في ألمانيا، الذي دفع باتجاه إجراء انتخابات مبكرة في فبراير (شباط) 2025، بدل الموعد الذي توقعه الجميع في سبتمبر (أيلول).

في بريطانيا، بطبيعة الحال، حصلنا على نصيبنا العادل من الانتخابات المبكرة. كان قرار ريشي سوناك بإجراء الانتخابات في يوليو (تموز) 2024 أحدث دعوة لإجراء انتخابات مبكرة، بعد الانتخابات المبكرة الناجحة التي أجراها بوريس جونسون عام 2019، وانتخابات تيريزا ماي المبكرة الكارثية عام 2017.

تظهر كل هذه الانتخابات المبكرة كيف أن الخروج البريطاني استشرف عصراً يتسم بقدر أكبر من عدم اليقين والفوضى. لا شك أن الأمور أصبحت أقل قابلية للتنبؤ بها بعد خروج بريطانيا، برغم أن المؤرخين سوف يتناقشون بلا أدنى شك حول ما إذا كان خروج بريطانيا أحد أبرز أعراض عصر الاضطرابات، أو بالأحرى أحد تداعياتها.

يشير نجاح دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية عام 2016 إلى أن الخروج البريطاني، الذي سبق انتخابات ترمب، كان جزءاً من مجموعة أوسع من المتغيرات.

كانت القضايا التي أدت إلى بريكست؛ بما فيها ركود النمو الاقتصادي والهجرة الجماعية وفقدان الهوية بالنسبة للعديد من الناس في الغرب، هي القضايا نفسها التي ساهمت إلى حد كبير في انتصارات ترمب الانتخابية في عامي 2016 و2024.

يواجه البريطانيون أسئلة ملحة عن النمو الاقتصادي (إ.ب.أ)

في بداية عام 2025، يواجه الاتحاد الأوروبي وبريطانيا مشاكل تراجع النمو وارتفاع الهجرة نفسها. وتكمن خلف هذه الأسئلة القضايا المتعلقة بسياسات الهوية، والسياسات المثيرة للانقسام والمتعلقة بالعرق والجنس.

ويُقال إن الهوس المتصور بسياسات الهوية كان سبباً في إلحاق ضرر هائل بالديمقراطيين، كما بدا واضحاً في أحد الإعلانات الانتخابية الجمهورية، الذي يقول: «كامالا من أجلهم، والرئيس ترمب من أجلكم!».

هذه الرسالة المؤثرة بكل فعالية ألمحت إلى أن الديمقراطيين صاروا منغمسين في قضايا مثل حقوق المتحولين جنسياً، والاستخدام الصحيح للضمائر الشخصية، فضلاً عن مجموعة كاملة من النقاشات «المقبولة سياسياً» التي لم تكن على الإطلاق بين اهتمامات غالبية الأميركيين.

في أوروبا، هناك أيضاً مسألة الطاقة الرخيصة. وإلى أي مدى يتعيّن على الناس العاديين أن يدفعوا مقابل «التحول في الطاقة» لتصفير الكربون في اقتصاد بلدانهم عبر التخلي عن الوقود الأحفوري؟ لم تسبق أي قارة أوروبا في جهود «تصفير الكربون» أو الترويج للتخفيف من استخدام الوقود الأحفوري. ومع ذلك، لم تشهد أي قارة صعوداً أقوى للشعبوية اليمينية من أوروبا. فالشعبوية اليمينية عموماً ليست صديقة لـ«التحول الطاقي» والطاقة الخضراء.

من الواضح أن كل هذه المشاكل تتجاوز قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي تبدو أضيق وأكثر محدودية؛ إذ تنحسر أكثر في الزمن الماضي.

لكن بالنسبة لعشاق الاتحاد الأوروبي، فهناك شعور بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان بمثابة خسارة لكل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهم يزعمون أن المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي كان بوسعهما التعامل مع هذه القضايا بشكل أكثر فاعلية.

غير أن الحقيقة الواقعية تشير إلى خلاف ذلك. فمن المرجح ألا يختلف الوضع الراهن من عدم اليقين والخلافات السياسية إذا ظلت المملكة المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في حد ذاته لم يتسبب في الوعكة التي يعيشها الآن كل بلدان الغرب.

*وزير الخزانة البريطاني السابق