العائدون من «داعش»

إشكالية المواجهة ما بين خياري الاحتواء أو الردع

عناصر من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش» («الشرق الأوسط»)
عناصر من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش» («الشرق الأوسط»)
TT

العائدون من «داعش»

عناصر من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش» («الشرق الأوسط»)
عناصر من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش» («الشرق الأوسط»)

في أوائل التسعينات من القرن الماضي عاشت غالبية الدول العربية أزمة كبرى أثرت تأثيراً واضحاً على مقدرات الأمن القومي فيها، عرفت الأزمة بأنها «إشكالية أو سيناريو» العائدين من أفغانستان، أولئك الذين خلفتهم من ورائها الحرب ضد الاتحاد السوفياتي هناك. والشاهد أن هؤلاء كانوا وبالاً شديد القسوة على بلادهم وموطنهم وقد تسببوا في موجة عاتية من الإرهاب في تلك الفترة، وباتت فلولهم نواة تشكلت منها تنظيمات إرهابية جديدة، لا تزال تؤجج نيران التطرف وتكتسب عناصر جديدة من الأجيال الشابة.

ولعل التساؤل محل هذه القراءة: «هل هذه الأزمة قابلة للتكرار؟».
المقصود هنا ولا شك أزمة فلول «داعش»، بعد السقوط في العراق وسوريا وشبه الحصار التام في ليبيا، فهل سيكرر هؤلاء تجربة سابقيهم في أفغانستان؟
الهول هنا أوسع نطاقاً جغرافياً، حيث إن العائدين هذه المرة منهم جنسيات كثيرة ولا سيما من الأوروبيين، وليسوا من العرب فحسب، وعليه باتت علامة الاستفهام: «كيف يمكن التعاطي مع هؤلاء وأي السيناريوهات أفضل وأقرب... الردع أم الاحتواء، الإدماج أم الإبعاد؟... وأسئلة كثيرة أخرى.
ربما نحتاج في بداية المشهد إلى أن نقف عند حدود الأرقام والحقائق، لنتبين كيف أن الأمر جلل وخطير بالفعل، ويحتاج إلى شكل من أشكال التفكير العميق وإعداد الخطط المسبقة.
الكثير من الأرقام والدراسات صدرت في أوروبا عن عدد من المراكز البحثية والدراسية عن أعداد هؤلاء.
المتوسط الرقمي يقول إنه من فرنسا سافر نحو ألف متطرف وأن أكثر من مائتي فرد عادوا للداخل، أما بريطانيا فقد رجع إليها نحو 450 متطرفا من أصل 850 سافروا للالتحاق بالتنظيم في الشرق الأوسط، وتحتل ألمانيا المركز الثالث في أوروبا، حيث ورّدت لـ«داعش» نحو 800 مقاتل عاد منهم قرابة الـ300 فرد، في حين السويد ذهب منها 300 عضو، وعاد نصفهم تقريباً، وإلى النمسا عاد 50 متطرفا من أصل 300. أما الدول الاسكندنافية وبعض الدول الأوروبية فقد انتشر فيها أكثر من مائتي داعشي.
ولعل السؤال المهم والرئيسي في هذا السياق: «ما الخطورة الحقيقية لهؤلاء؟».
يمكن القطع، والعهدة على عدد من رجال الأمن والاستخبارات أصحاب الخبرة في التعامل مع العائدين من أفغانستان، أن المشهد الآني أكثر شراسة، فقد تحصل الدواعش على خبرات قتالية ودموية أشد قسوة وعنفاً وتطرفاً، من تلك التي عاشها من أطلق عليهم «المجاهدون في أفغانستان»؛ ولهذا فإن طرق المواجهة لا بد أن تكون بدورها مختلفة هذه المرة، وبدرجة كبيرة على الصعيدين التكتيكي والاستراتيجي دفعة واحدة.
والثابت، أنه وبالقدر نفسه تشعر الدول العربية بأن هناك أخطاراً حقيقية تتهددها، فالعائدون من العراق وسوريا حكماً سينتشرون في أرجاء العالم العربي ما بين مصر والأردن، تونس والجزائر، المغرب وموريتانيا، عطفاً على الفلول التي تحاول اختراق دول الخليج.
والحديث عن الدواعش العائدين إلى العالم العربي يحتم الإشارة إلى بلدين بنوع خاص، حتماً ستكون المواجهة فيهما مختلفة، تونس بداية، وليبيا تالياً. وتعد تونس المصدر الرئيسي للإرهابيين في سوريا والعراق، وهذا لا يعني أن الإرهابيين التونسيين هم بأنفسهم المصدر الرئيسي، ولكن تونس بوصفها أيضا ممراً للقادمين من أفريقيا، وحسب بعض التقديرات، هناك أكثر من ستة آلاف تونسي بين صفوف التنظيمات الإرهابية هناك.
أما ليبيا، فقد باتت مركزاً جاذباً لكل التيارات الجهادية والمتطرفة، وبخاصة في ظل الأوضاع المضطربة والصراع بين الليبيين أنفسهم، ولا نغالي إن قلنا إن ليبيا في وقت ما كانت مركز تجمع للمتطرفين القادمين من دول كثيرة، كاليمن والصومال والسودان قبل السفر إلى تركيا، ثم دخول سوريا أو العراق.
إما مصر والتي تعد من أكبر الدول التي اكتوت بنيران «العائدين من أفغانستان»، فتعلم تمام العلم أنها مستهدفة من هؤلاء بالدرجة الأولى، ولا سيما وأن فصيلا منهم لا يزال في أرض سيناء تحت اسم «ولاية سيناء».
والآن إلى عمق المسألة وكيف يتجه الأوروبيون إلى التعاطي مع العائدين من «داعش»، وهل تقفل أمامهم الأبواب وتسد الطرق والمسالك وترفض عودتهم مرة واحدة وإلى الأبد؟ أم يعاد دمج هؤلاء والنظر إليهم على أساس أنهم كانوا ضحايا أكثر منهم جناة أو إرهابيين؟
الثابت أن القضية لم تحسم بعد، والشقاق الفكري قائم بين مدرستين: المدرسة الأولى أنصارها بكل تأكيد غلاة اليمين الأوروبي المتشدد، والذين يرون أن هؤلاء خطراً لا يمكن قبوله داخل صفوف المجتمعات الأوروبية مرة أخرى، وقد جاءت العمليات الإرهابية العامين الماضيين في أوروبا لتعزز من وضعية هؤلاء، بعد أن رأى الأوروبيون بأعينهم مواطنيهم على الطرقات مضرجين في دمائهم. في حين فريق آخر يذهب إلى رؤية تحليلية أعمق، انطلاقاً من أنه حال إغلاق «أبواب العودة» أمام هؤلاء فإن المخاطر سوف تضحى أكثر فداحة، ليتحول هؤلاء إلى «قنابل موقوتة» تزرع في الخفاء وتنفجر في العلن.
هنا يقول المدعي العام البلجيكي، فريريك فان لوف، إنه «سبق أن اتصل أشخاص بالسفارات ليتمكنوا من العودة، أغلبهم من النساء والأطفال»، وقد شدد على الحاجة إلى آليات مناسبة للتعامل مع عودة القاصرين الذين تدربوا أو تربوا على العنف.
وفي هذا السياق كانت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية الشهيرة تشير إلى دعوات تصاعدت في الداخل البريطاني مؤخراً، تدعو لدمج المقاتلين البريطانيين العائدين من مناطق القتال مع تنظيم الدولة، وإعادة تأهيلهم بدلاً من زجهم في السجون، ومنحهم الفرصة، وإلا فإنهم قد يجدون جماعة متطرفة أخرى وينضمون إليها.
فلسفة الاتجاه السابق تتبلور في أنه عندما يشعر العائدون بالاحترام، وأن حكومتهم تعاملهم باعتدال، فإنهم سيندمجون، أما إذا لم يساعدهم أحد وذهبوا بهم إلى السجن، فإن ذلك سيدفعهم إلى مزيد من الإرهاب؛ ولهذا يجب أن يشعروا بأن حكوماتهم تهتم بهم.
لكن المشهد لا يمضي قدماً على هذا النحو الطهراني، ولا سيما أن الكثيرين من هؤلاء أياديهم ملطخة بالدماء، فقد حذر على سبيل المثال المدير التنفيذي لمؤسسة لمكافحة التطرف في بريطانيا، آدم دين، من أنه «يتعين إحالة المقاتلين العائدين إلى برامج متخصصة والتأكد من أنهم لا يخططون لتشكيل خلايا إرهابية أو شن هجوم» وتابع: «من المهم أن يكون المزيد من المقاتلين العائدين تحت الرقابة، ولاسيما أن هناك الكثير ممن سيعودون مع خسارة التنظيم مزيداً من الأراضي، ومن ثم يجب أن تكون هناك جهود لاحتوائهم».
وجهة النظر الثانية تميل إلى الوجهة المتشددة أوروبياً في مواجهة الدواعش العائدين والسبب هو الخوف من أن يكون هؤلاء قد جرى دفعهم من قبل التنظيم لتنفيذ عمليات إرهابية في بلادهم، ومن ثم فإنهم مصدر قلق كبير، وبخاصة أن احتمالات أن ينفذ هؤلاء هجوماً إرهابياً هي احتمالات قائمة ومرتفعة جداً في الحال والاستقبال على حد سواء. لكن، وعلى الرغم من حضور الطرف الأخير بقوة، فإن الحس الإنساني والفلسفي وإرث التنوير عند الأوروبيين في هذه القضية يبدو غالباً، وهذا ما يمكن للمرء أن يستنتجه من تصريحات منسق الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب، جيل دي كيرشوف، حيث أشار إلى أهمية معالجة عنصريين رئيسيين في مواجهة هذه القضية المثيرة والخطيرة: لم الشمل بين العائدين المعزولين وعائلاتهم وأصدقائهم، ومجتمعهم، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إبطال الأفكار العقائدية المتطرفة التي غرست في عقولهم.
هل يمكن للواقع العربي أن يتساوق مع مواجهة أوروبا للعائدين من «داعش»؟
بالقطع لا تستقيم المقاربات لاختلاف البيئات الأمنية والاجتماعية، كما أن الأعداد نفسها لا تتساوى، والأضرار بل الكوارث المحتملة بدورها لا تتوازن، وفي الغالب يبدو هنا ميل أكثر رفضاً لفكرة القبول والاندماج مرة أخرى، وإن كانت هناك أصوات تنحو لجهة الليبرالية والتمسك بقوة بحقوق الإنسان، وحقوق المواطنة، مبدأً رئيسيا يحكم التعاطي مع هذه الإشكالية. من بين الأصوات الأخيرة، يرتفع صوت الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، الذي تحدث منذ فترة إلى وكالة الصحافة الفرنسية أثناء زيارته لأوروبا (عام 2016 أواخر ديسمبر/ كانون الأول)، مؤكداً أنه من حق التونسيين أياً كانوا في العودة إلى وطنهم والاحتفاظ بجنسيتهم احتراماً لنص في الدستور الجديد (المادة رقم 25).
المسألة مثيرة للجدل، فالبعض على سبيل المثال يرى أن تفكير الرئيس التونسي عرضة للتشكيك؛ بسبب تحالفه مع حزب النهضة ذي الطبيعة الدينية، لكن على الجانب الآخر يدافع أنصار السبسي بأن الأمر هو احترام للحقوق الدستورية التي تصون للمواطن الحفاظ على جنسيته، وإن تطلب الأمر إخضاعه للمحاكمة بمقتضى قانون الإرهاب.
هل يمكن التساؤل عن الوضع في مصر التي عانت مرارة شديدة ولا تزال من أفعال كافة الجماعات الظلامية والتي تصل إلى «داعش» اليوم؟
يمكن القطع بأن مصر لديها تجربة سابقة مع تلك الجماعات، التي مرت بمراحل مختلفة في نشوئها وارتقائها، وقد عرفت فترة التسعينات بفترات المراجعة داخل السجون المصرية، شارك فيها تيارات من الجماعات الإسلامية والمتطرفين والإخوان المسلمين، عطفاً على فصائل أخرى وإن تعددت أسماؤها، إلا أنها آمنت بالعنف آليةً للتعامل مع الدولة.
المراجعات المشار إليها تقف الآن حائلاً أمام القول بحتمية المعالجة الفكرية للعائدين من «داعش»، فقد انقلب هؤلاء بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) على كافة ما تراجعوا عنه من تفكير العنف في القراءات السابقة، وعاد البعض منهم إلى سياقات العنف كخلفية وحتمية تاريخية في التعامل مع الدولة، وبقية المصريين، ومن بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، أبو العلاء عبد ربه، قاتل الكاتب المصري فرج فودة، الذي أمضى نحو عشرين عاماً في السجون المصرية، لم تردعه عن فكره، ولم يغير عقيدته القتالية والذهنية؛ ولهذا رأيناه لاحقاً ينضم إلى «جبهة النصرة» في سوريا، وصورته المتلفزة عام 2016 وهو يعتلي إحدى الآليات العسكرية الخاصة بـ«داعش» لا تزال حاضرة في الأذهان، وهو يزخم ويحض أعضاء التنظيم على القتال.
في دراسة مهمة للأستاذ، علي بكر، مساعد رئيس تحرير مجلة «السياسة الدولية» المصرية وخبير الحركات المتطرفة، نطالع الجانب السلبي من فكرة إدماج العائدين من «داعش»، بل وتقديم المساعدات لهم داخل المجتمع لإعادتهم إلى جادة الصواب، وعنده أن أولئك العائدين قد يرون تلك المساعدات حقاً مكتسباً لهم، وبالتالي تكون وسيلة لإكمال طريق «التشدد» المزعوم؛ نظراً لأنه فكر قائم على التقية في مواجهة الحكومات «الكافرة»، ومن أبرز الأمثلة على ذلك أبو زكريا البريطاني، الذي قام بعملية انتحارية استهدفت الجيش العراقي في فبراير (شباط) 2017؛ إذ كان قد أطلق سراحه من معتقل غوانتانامو في 2004، وصرفت له الحكومة البريطانية تعويضاً ماديا بلغ مليون جنيه إسترليني، ورغم ذلك توجه إلى سوريا عام 2014، وانضم لتنظيم داعش.
يمكن القطع بأن كارثية العائدين من «داعش» في الوقت الراهن باتت تشبه الساعات الأولى من المخاض، فرغم الألم الأولي، فإن الآلام الأشد والمعاناة الأكبر لم تظهر بعد، وغالباً ما سيكون ظهورها محدداً رئيسياً للآليات التي سوف يتفق على اتباعها، فإذا مالت الكفة لجهة المزيد من العمليات الإرهابية والمسلحة، وسقط الكثير من القتلى والجرحى، وتهدد الأمن والسلم المحليين والدوليين، فساعتها سيكون خيار الإبعاد هو الأقرب، عطفاً على الاحتجاز داخل سجون مقسمة حسب الأفكار والآيديولوجيات وبعيداً كل البعد عن المجرمين الجنائيين؛ حتى لا تصبح السجون «مفرخة» لإرهاب جديد أشد وقعاً ووحشية.
وحال حدثت تراجعات حقيقية، بعيدة عن طروحات وشروحات التقية، وهو احتمال ضئيل في المشهد، ساعتها يمكن تدبر حلول إنسانية وتبني مراجعات فكرية حقيقية غير منحولة، واعتماد برامج اجتماعية تصحح خطأ بشريا أرتكبه البعض على كارثيته... إلى أين سيمضي مشهد الدواعش العائدين؟... مبكر حسم المشهد بدرجة يقينية مطلقة.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟