العائدون من «داعش»

إشكالية المواجهة ما بين خياري الاحتواء أو الردع

عناصر من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش» («الشرق الأوسط»)
عناصر من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش» («الشرق الأوسط»)
TT

العائدون من «داعش»

عناصر من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش» («الشرق الأوسط»)
عناصر من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش» («الشرق الأوسط»)

في أوائل التسعينات من القرن الماضي عاشت غالبية الدول العربية أزمة كبرى أثرت تأثيراً واضحاً على مقدرات الأمن القومي فيها، عرفت الأزمة بأنها «إشكالية أو سيناريو» العائدين من أفغانستان، أولئك الذين خلفتهم من ورائها الحرب ضد الاتحاد السوفياتي هناك. والشاهد أن هؤلاء كانوا وبالاً شديد القسوة على بلادهم وموطنهم وقد تسببوا في موجة عاتية من الإرهاب في تلك الفترة، وباتت فلولهم نواة تشكلت منها تنظيمات إرهابية جديدة، لا تزال تؤجج نيران التطرف وتكتسب عناصر جديدة من الأجيال الشابة.

ولعل التساؤل محل هذه القراءة: «هل هذه الأزمة قابلة للتكرار؟».
المقصود هنا ولا شك أزمة فلول «داعش»، بعد السقوط في العراق وسوريا وشبه الحصار التام في ليبيا، فهل سيكرر هؤلاء تجربة سابقيهم في أفغانستان؟
الهول هنا أوسع نطاقاً جغرافياً، حيث إن العائدين هذه المرة منهم جنسيات كثيرة ولا سيما من الأوروبيين، وليسوا من العرب فحسب، وعليه باتت علامة الاستفهام: «كيف يمكن التعاطي مع هؤلاء وأي السيناريوهات أفضل وأقرب... الردع أم الاحتواء، الإدماج أم الإبعاد؟... وأسئلة كثيرة أخرى.
ربما نحتاج في بداية المشهد إلى أن نقف عند حدود الأرقام والحقائق، لنتبين كيف أن الأمر جلل وخطير بالفعل، ويحتاج إلى شكل من أشكال التفكير العميق وإعداد الخطط المسبقة.
الكثير من الأرقام والدراسات صدرت في أوروبا عن عدد من المراكز البحثية والدراسية عن أعداد هؤلاء.
المتوسط الرقمي يقول إنه من فرنسا سافر نحو ألف متطرف وأن أكثر من مائتي فرد عادوا للداخل، أما بريطانيا فقد رجع إليها نحو 450 متطرفا من أصل 850 سافروا للالتحاق بالتنظيم في الشرق الأوسط، وتحتل ألمانيا المركز الثالث في أوروبا، حيث ورّدت لـ«داعش» نحو 800 مقاتل عاد منهم قرابة الـ300 فرد، في حين السويد ذهب منها 300 عضو، وعاد نصفهم تقريباً، وإلى النمسا عاد 50 متطرفا من أصل 300. أما الدول الاسكندنافية وبعض الدول الأوروبية فقد انتشر فيها أكثر من مائتي داعشي.
ولعل السؤال المهم والرئيسي في هذا السياق: «ما الخطورة الحقيقية لهؤلاء؟».
يمكن القطع، والعهدة على عدد من رجال الأمن والاستخبارات أصحاب الخبرة في التعامل مع العائدين من أفغانستان، أن المشهد الآني أكثر شراسة، فقد تحصل الدواعش على خبرات قتالية ودموية أشد قسوة وعنفاً وتطرفاً، من تلك التي عاشها من أطلق عليهم «المجاهدون في أفغانستان»؛ ولهذا فإن طرق المواجهة لا بد أن تكون بدورها مختلفة هذه المرة، وبدرجة كبيرة على الصعيدين التكتيكي والاستراتيجي دفعة واحدة.
والثابت، أنه وبالقدر نفسه تشعر الدول العربية بأن هناك أخطاراً حقيقية تتهددها، فالعائدون من العراق وسوريا حكماً سينتشرون في أرجاء العالم العربي ما بين مصر والأردن، تونس والجزائر، المغرب وموريتانيا، عطفاً على الفلول التي تحاول اختراق دول الخليج.
والحديث عن الدواعش العائدين إلى العالم العربي يحتم الإشارة إلى بلدين بنوع خاص، حتماً ستكون المواجهة فيهما مختلفة، تونس بداية، وليبيا تالياً. وتعد تونس المصدر الرئيسي للإرهابيين في سوريا والعراق، وهذا لا يعني أن الإرهابيين التونسيين هم بأنفسهم المصدر الرئيسي، ولكن تونس بوصفها أيضا ممراً للقادمين من أفريقيا، وحسب بعض التقديرات، هناك أكثر من ستة آلاف تونسي بين صفوف التنظيمات الإرهابية هناك.
أما ليبيا، فقد باتت مركزاً جاذباً لكل التيارات الجهادية والمتطرفة، وبخاصة في ظل الأوضاع المضطربة والصراع بين الليبيين أنفسهم، ولا نغالي إن قلنا إن ليبيا في وقت ما كانت مركز تجمع للمتطرفين القادمين من دول كثيرة، كاليمن والصومال والسودان قبل السفر إلى تركيا، ثم دخول سوريا أو العراق.
إما مصر والتي تعد من أكبر الدول التي اكتوت بنيران «العائدين من أفغانستان»، فتعلم تمام العلم أنها مستهدفة من هؤلاء بالدرجة الأولى، ولا سيما وأن فصيلا منهم لا يزال في أرض سيناء تحت اسم «ولاية سيناء».
والآن إلى عمق المسألة وكيف يتجه الأوروبيون إلى التعاطي مع العائدين من «داعش»، وهل تقفل أمامهم الأبواب وتسد الطرق والمسالك وترفض عودتهم مرة واحدة وإلى الأبد؟ أم يعاد دمج هؤلاء والنظر إليهم على أساس أنهم كانوا ضحايا أكثر منهم جناة أو إرهابيين؟
الثابت أن القضية لم تحسم بعد، والشقاق الفكري قائم بين مدرستين: المدرسة الأولى أنصارها بكل تأكيد غلاة اليمين الأوروبي المتشدد، والذين يرون أن هؤلاء خطراً لا يمكن قبوله داخل صفوف المجتمعات الأوروبية مرة أخرى، وقد جاءت العمليات الإرهابية العامين الماضيين في أوروبا لتعزز من وضعية هؤلاء، بعد أن رأى الأوروبيون بأعينهم مواطنيهم على الطرقات مضرجين في دمائهم. في حين فريق آخر يذهب إلى رؤية تحليلية أعمق، انطلاقاً من أنه حال إغلاق «أبواب العودة» أمام هؤلاء فإن المخاطر سوف تضحى أكثر فداحة، ليتحول هؤلاء إلى «قنابل موقوتة» تزرع في الخفاء وتنفجر في العلن.
هنا يقول المدعي العام البلجيكي، فريريك فان لوف، إنه «سبق أن اتصل أشخاص بالسفارات ليتمكنوا من العودة، أغلبهم من النساء والأطفال»، وقد شدد على الحاجة إلى آليات مناسبة للتعامل مع عودة القاصرين الذين تدربوا أو تربوا على العنف.
وفي هذا السياق كانت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية الشهيرة تشير إلى دعوات تصاعدت في الداخل البريطاني مؤخراً، تدعو لدمج المقاتلين البريطانيين العائدين من مناطق القتال مع تنظيم الدولة، وإعادة تأهيلهم بدلاً من زجهم في السجون، ومنحهم الفرصة، وإلا فإنهم قد يجدون جماعة متطرفة أخرى وينضمون إليها.
فلسفة الاتجاه السابق تتبلور في أنه عندما يشعر العائدون بالاحترام، وأن حكومتهم تعاملهم باعتدال، فإنهم سيندمجون، أما إذا لم يساعدهم أحد وذهبوا بهم إلى السجن، فإن ذلك سيدفعهم إلى مزيد من الإرهاب؛ ولهذا يجب أن يشعروا بأن حكوماتهم تهتم بهم.
لكن المشهد لا يمضي قدماً على هذا النحو الطهراني، ولا سيما أن الكثيرين من هؤلاء أياديهم ملطخة بالدماء، فقد حذر على سبيل المثال المدير التنفيذي لمؤسسة لمكافحة التطرف في بريطانيا، آدم دين، من أنه «يتعين إحالة المقاتلين العائدين إلى برامج متخصصة والتأكد من أنهم لا يخططون لتشكيل خلايا إرهابية أو شن هجوم» وتابع: «من المهم أن يكون المزيد من المقاتلين العائدين تحت الرقابة، ولاسيما أن هناك الكثير ممن سيعودون مع خسارة التنظيم مزيداً من الأراضي، ومن ثم يجب أن تكون هناك جهود لاحتوائهم».
وجهة النظر الثانية تميل إلى الوجهة المتشددة أوروبياً في مواجهة الدواعش العائدين والسبب هو الخوف من أن يكون هؤلاء قد جرى دفعهم من قبل التنظيم لتنفيذ عمليات إرهابية في بلادهم، ومن ثم فإنهم مصدر قلق كبير، وبخاصة أن احتمالات أن ينفذ هؤلاء هجوماً إرهابياً هي احتمالات قائمة ومرتفعة جداً في الحال والاستقبال على حد سواء. لكن، وعلى الرغم من حضور الطرف الأخير بقوة، فإن الحس الإنساني والفلسفي وإرث التنوير عند الأوروبيين في هذه القضية يبدو غالباً، وهذا ما يمكن للمرء أن يستنتجه من تصريحات منسق الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب، جيل دي كيرشوف، حيث أشار إلى أهمية معالجة عنصريين رئيسيين في مواجهة هذه القضية المثيرة والخطيرة: لم الشمل بين العائدين المعزولين وعائلاتهم وأصدقائهم، ومجتمعهم، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إبطال الأفكار العقائدية المتطرفة التي غرست في عقولهم.
هل يمكن للواقع العربي أن يتساوق مع مواجهة أوروبا للعائدين من «داعش»؟
بالقطع لا تستقيم المقاربات لاختلاف البيئات الأمنية والاجتماعية، كما أن الأعداد نفسها لا تتساوى، والأضرار بل الكوارث المحتملة بدورها لا تتوازن، وفي الغالب يبدو هنا ميل أكثر رفضاً لفكرة القبول والاندماج مرة أخرى، وإن كانت هناك أصوات تنحو لجهة الليبرالية والتمسك بقوة بحقوق الإنسان، وحقوق المواطنة، مبدأً رئيسيا يحكم التعاطي مع هذه الإشكالية. من بين الأصوات الأخيرة، يرتفع صوت الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، الذي تحدث منذ فترة إلى وكالة الصحافة الفرنسية أثناء زيارته لأوروبا (عام 2016 أواخر ديسمبر/ كانون الأول)، مؤكداً أنه من حق التونسيين أياً كانوا في العودة إلى وطنهم والاحتفاظ بجنسيتهم احتراماً لنص في الدستور الجديد (المادة رقم 25).
المسألة مثيرة للجدل، فالبعض على سبيل المثال يرى أن تفكير الرئيس التونسي عرضة للتشكيك؛ بسبب تحالفه مع حزب النهضة ذي الطبيعة الدينية، لكن على الجانب الآخر يدافع أنصار السبسي بأن الأمر هو احترام للحقوق الدستورية التي تصون للمواطن الحفاظ على جنسيته، وإن تطلب الأمر إخضاعه للمحاكمة بمقتضى قانون الإرهاب.
هل يمكن التساؤل عن الوضع في مصر التي عانت مرارة شديدة ولا تزال من أفعال كافة الجماعات الظلامية والتي تصل إلى «داعش» اليوم؟
يمكن القطع بأن مصر لديها تجربة سابقة مع تلك الجماعات، التي مرت بمراحل مختلفة في نشوئها وارتقائها، وقد عرفت فترة التسعينات بفترات المراجعة داخل السجون المصرية، شارك فيها تيارات من الجماعات الإسلامية والمتطرفين والإخوان المسلمين، عطفاً على فصائل أخرى وإن تعددت أسماؤها، إلا أنها آمنت بالعنف آليةً للتعامل مع الدولة.
المراجعات المشار إليها تقف الآن حائلاً أمام القول بحتمية المعالجة الفكرية للعائدين من «داعش»، فقد انقلب هؤلاء بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) على كافة ما تراجعوا عنه من تفكير العنف في القراءات السابقة، وعاد البعض منهم إلى سياقات العنف كخلفية وحتمية تاريخية في التعامل مع الدولة، وبقية المصريين، ومن بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، أبو العلاء عبد ربه، قاتل الكاتب المصري فرج فودة، الذي أمضى نحو عشرين عاماً في السجون المصرية، لم تردعه عن فكره، ولم يغير عقيدته القتالية والذهنية؛ ولهذا رأيناه لاحقاً ينضم إلى «جبهة النصرة» في سوريا، وصورته المتلفزة عام 2016 وهو يعتلي إحدى الآليات العسكرية الخاصة بـ«داعش» لا تزال حاضرة في الأذهان، وهو يزخم ويحض أعضاء التنظيم على القتال.
في دراسة مهمة للأستاذ، علي بكر، مساعد رئيس تحرير مجلة «السياسة الدولية» المصرية وخبير الحركات المتطرفة، نطالع الجانب السلبي من فكرة إدماج العائدين من «داعش»، بل وتقديم المساعدات لهم داخل المجتمع لإعادتهم إلى جادة الصواب، وعنده أن أولئك العائدين قد يرون تلك المساعدات حقاً مكتسباً لهم، وبالتالي تكون وسيلة لإكمال طريق «التشدد» المزعوم؛ نظراً لأنه فكر قائم على التقية في مواجهة الحكومات «الكافرة»، ومن أبرز الأمثلة على ذلك أبو زكريا البريطاني، الذي قام بعملية انتحارية استهدفت الجيش العراقي في فبراير (شباط) 2017؛ إذ كان قد أطلق سراحه من معتقل غوانتانامو في 2004، وصرفت له الحكومة البريطانية تعويضاً ماديا بلغ مليون جنيه إسترليني، ورغم ذلك توجه إلى سوريا عام 2014، وانضم لتنظيم داعش.
يمكن القطع بأن كارثية العائدين من «داعش» في الوقت الراهن باتت تشبه الساعات الأولى من المخاض، فرغم الألم الأولي، فإن الآلام الأشد والمعاناة الأكبر لم تظهر بعد، وغالباً ما سيكون ظهورها محدداً رئيسياً للآليات التي سوف يتفق على اتباعها، فإذا مالت الكفة لجهة المزيد من العمليات الإرهابية والمسلحة، وسقط الكثير من القتلى والجرحى، وتهدد الأمن والسلم المحليين والدوليين، فساعتها سيكون خيار الإبعاد هو الأقرب، عطفاً على الاحتجاز داخل سجون مقسمة حسب الأفكار والآيديولوجيات وبعيداً كل البعد عن المجرمين الجنائيين؛ حتى لا تصبح السجون «مفرخة» لإرهاب جديد أشد وقعاً ووحشية.
وحال حدثت تراجعات حقيقية، بعيدة عن طروحات وشروحات التقية، وهو احتمال ضئيل في المشهد، ساعتها يمكن تدبر حلول إنسانية وتبني مراجعات فكرية حقيقية غير منحولة، واعتماد برامج اجتماعية تصحح خطأ بشريا أرتكبه البعض على كارثيته... إلى أين سيمضي مشهد الدواعش العائدين؟... مبكر حسم المشهد بدرجة يقينية مطلقة.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.