في أوائل التسعينات من القرن الماضي عاشت غالبية الدول العربية أزمة كبرى أثرت تأثيراً واضحاً على مقدرات الأمن القومي فيها، عرفت الأزمة بأنها «إشكالية أو سيناريو» العائدين من أفغانستان، أولئك الذين خلفتهم من ورائها الحرب ضد الاتحاد السوفياتي هناك. والشاهد أن هؤلاء كانوا وبالاً شديد القسوة على بلادهم وموطنهم وقد تسببوا في موجة عاتية من الإرهاب في تلك الفترة، وباتت فلولهم نواة تشكلت منها تنظيمات إرهابية جديدة، لا تزال تؤجج نيران التطرف وتكتسب عناصر جديدة من الأجيال الشابة.
ولعل التساؤل محل هذه القراءة: «هل هذه الأزمة قابلة للتكرار؟».
المقصود هنا ولا شك أزمة فلول «داعش»، بعد السقوط في العراق وسوريا وشبه الحصار التام في ليبيا، فهل سيكرر هؤلاء تجربة سابقيهم في أفغانستان؟
الهول هنا أوسع نطاقاً جغرافياً، حيث إن العائدين هذه المرة منهم جنسيات كثيرة ولا سيما من الأوروبيين، وليسوا من العرب فحسب، وعليه باتت علامة الاستفهام: «كيف يمكن التعاطي مع هؤلاء وأي السيناريوهات أفضل وأقرب... الردع أم الاحتواء، الإدماج أم الإبعاد؟... وأسئلة كثيرة أخرى.
ربما نحتاج في بداية المشهد إلى أن نقف عند حدود الأرقام والحقائق، لنتبين كيف أن الأمر جلل وخطير بالفعل، ويحتاج إلى شكل من أشكال التفكير العميق وإعداد الخطط المسبقة.
الكثير من الأرقام والدراسات صدرت في أوروبا عن عدد من المراكز البحثية والدراسية عن أعداد هؤلاء.
المتوسط الرقمي يقول إنه من فرنسا سافر نحو ألف متطرف وأن أكثر من مائتي فرد عادوا للداخل، أما بريطانيا فقد رجع إليها نحو 450 متطرفا من أصل 850 سافروا للالتحاق بالتنظيم في الشرق الأوسط، وتحتل ألمانيا المركز الثالث في أوروبا، حيث ورّدت لـ«داعش» نحو 800 مقاتل عاد منهم قرابة الـ300 فرد، في حين السويد ذهب منها 300 عضو، وعاد نصفهم تقريباً، وإلى النمسا عاد 50 متطرفا من أصل 300. أما الدول الاسكندنافية وبعض الدول الأوروبية فقد انتشر فيها أكثر من مائتي داعشي.
ولعل السؤال المهم والرئيسي في هذا السياق: «ما الخطورة الحقيقية لهؤلاء؟».
يمكن القطع، والعهدة على عدد من رجال الأمن والاستخبارات أصحاب الخبرة في التعامل مع العائدين من أفغانستان، أن المشهد الآني أكثر شراسة، فقد تحصل الدواعش على خبرات قتالية ودموية أشد قسوة وعنفاً وتطرفاً، من تلك التي عاشها من أطلق عليهم «المجاهدون في أفغانستان»؛ ولهذا فإن طرق المواجهة لا بد أن تكون بدورها مختلفة هذه المرة، وبدرجة كبيرة على الصعيدين التكتيكي والاستراتيجي دفعة واحدة.
والثابت، أنه وبالقدر نفسه تشعر الدول العربية بأن هناك أخطاراً حقيقية تتهددها، فالعائدون من العراق وسوريا حكماً سينتشرون في أرجاء العالم العربي ما بين مصر والأردن، تونس والجزائر، المغرب وموريتانيا، عطفاً على الفلول التي تحاول اختراق دول الخليج.
والحديث عن الدواعش العائدين إلى العالم العربي يحتم الإشارة إلى بلدين بنوع خاص، حتماً ستكون المواجهة فيهما مختلفة، تونس بداية، وليبيا تالياً. وتعد تونس المصدر الرئيسي للإرهابيين في سوريا والعراق، وهذا لا يعني أن الإرهابيين التونسيين هم بأنفسهم المصدر الرئيسي، ولكن تونس بوصفها أيضا ممراً للقادمين من أفريقيا، وحسب بعض التقديرات، هناك أكثر من ستة آلاف تونسي بين صفوف التنظيمات الإرهابية هناك.
أما ليبيا، فقد باتت مركزاً جاذباً لكل التيارات الجهادية والمتطرفة، وبخاصة في ظل الأوضاع المضطربة والصراع بين الليبيين أنفسهم، ولا نغالي إن قلنا إن ليبيا في وقت ما كانت مركز تجمع للمتطرفين القادمين من دول كثيرة، كاليمن والصومال والسودان قبل السفر إلى تركيا، ثم دخول سوريا أو العراق.
إما مصر والتي تعد من أكبر الدول التي اكتوت بنيران «العائدين من أفغانستان»، فتعلم تمام العلم أنها مستهدفة من هؤلاء بالدرجة الأولى، ولا سيما وأن فصيلا منهم لا يزال في أرض سيناء تحت اسم «ولاية سيناء».
والآن إلى عمق المسألة وكيف يتجه الأوروبيون إلى التعاطي مع العائدين من «داعش»، وهل تقفل أمامهم الأبواب وتسد الطرق والمسالك وترفض عودتهم مرة واحدة وإلى الأبد؟ أم يعاد دمج هؤلاء والنظر إليهم على أساس أنهم كانوا ضحايا أكثر منهم جناة أو إرهابيين؟
الثابت أن القضية لم تحسم بعد، والشقاق الفكري قائم بين مدرستين: المدرسة الأولى أنصارها بكل تأكيد غلاة اليمين الأوروبي المتشدد، والذين يرون أن هؤلاء خطراً لا يمكن قبوله داخل صفوف المجتمعات الأوروبية مرة أخرى، وقد جاءت العمليات الإرهابية العامين الماضيين في أوروبا لتعزز من وضعية هؤلاء، بعد أن رأى الأوروبيون بأعينهم مواطنيهم على الطرقات مضرجين في دمائهم. في حين فريق آخر يذهب إلى رؤية تحليلية أعمق، انطلاقاً من أنه حال إغلاق «أبواب العودة» أمام هؤلاء فإن المخاطر سوف تضحى أكثر فداحة، ليتحول هؤلاء إلى «قنابل موقوتة» تزرع في الخفاء وتنفجر في العلن.
هنا يقول المدعي العام البلجيكي، فريريك فان لوف، إنه «سبق أن اتصل أشخاص بالسفارات ليتمكنوا من العودة، أغلبهم من النساء والأطفال»، وقد شدد على الحاجة إلى آليات مناسبة للتعامل مع عودة القاصرين الذين تدربوا أو تربوا على العنف.
وفي هذا السياق كانت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية الشهيرة تشير إلى دعوات تصاعدت في الداخل البريطاني مؤخراً، تدعو لدمج المقاتلين البريطانيين العائدين من مناطق القتال مع تنظيم الدولة، وإعادة تأهيلهم بدلاً من زجهم في السجون، ومنحهم الفرصة، وإلا فإنهم قد يجدون جماعة متطرفة أخرى وينضمون إليها.
فلسفة الاتجاه السابق تتبلور في أنه عندما يشعر العائدون بالاحترام، وأن حكومتهم تعاملهم باعتدال، فإنهم سيندمجون، أما إذا لم يساعدهم أحد وذهبوا بهم إلى السجن، فإن ذلك سيدفعهم إلى مزيد من الإرهاب؛ ولهذا يجب أن يشعروا بأن حكوماتهم تهتم بهم.
لكن المشهد لا يمضي قدماً على هذا النحو الطهراني، ولا سيما أن الكثيرين من هؤلاء أياديهم ملطخة بالدماء، فقد حذر على سبيل المثال المدير التنفيذي لمؤسسة لمكافحة التطرف في بريطانيا، آدم دين، من أنه «يتعين إحالة المقاتلين العائدين إلى برامج متخصصة والتأكد من أنهم لا يخططون لتشكيل خلايا إرهابية أو شن هجوم» وتابع: «من المهم أن يكون المزيد من المقاتلين العائدين تحت الرقابة، ولاسيما أن هناك الكثير ممن سيعودون مع خسارة التنظيم مزيداً من الأراضي، ومن ثم يجب أن تكون هناك جهود لاحتوائهم».
وجهة النظر الثانية تميل إلى الوجهة المتشددة أوروبياً في مواجهة الدواعش العائدين والسبب هو الخوف من أن يكون هؤلاء قد جرى دفعهم من قبل التنظيم لتنفيذ عمليات إرهابية في بلادهم، ومن ثم فإنهم مصدر قلق كبير، وبخاصة أن احتمالات أن ينفذ هؤلاء هجوماً إرهابياً هي احتمالات قائمة ومرتفعة جداً في الحال والاستقبال على حد سواء. لكن، وعلى الرغم من حضور الطرف الأخير بقوة، فإن الحس الإنساني والفلسفي وإرث التنوير عند الأوروبيين في هذه القضية يبدو غالباً، وهذا ما يمكن للمرء أن يستنتجه من تصريحات منسق الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب، جيل دي كيرشوف، حيث أشار إلى أهمية معالجة عنصريين رئيسيين في مواجهة هذه القضية المثيرة والخطيرة: لم الشمل بين العائدين المعزولين وعائلاتهم وأصدقائهم، ومجتمعهم، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إبطال الأفكار العقائدية المتطرفة التي غرست في عقولهم.
هل يمكن للواقع العربي أن يتساوق مع مواجهة أوروبا للعائدين من «داعش»؟
بالقطع لا تستقيم المقاربات لاختلاف البيئات الأمنية والاجتماعية، كما أن الأعداد نفسها لا تتساوى، والأضرار بل الكوارث المحتملة بدورها لا تتوازن، وفي الغالب يبدو هنا ميل أكثر رفضاً لفكرة القبول والاندماج مرة أخرى، وإن كانت هناك أصوات تنحو لجهة الليبرالية والتمسك بقوة بحقوق الإنسان، وحقوق المواطنة، مبدأً رئيسيا يحكم التعاطي مع هذه الإشكالية. من بين الأصوات الأخيرة، يرتفع صوت الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، الذي تحدث منذ فترة إلى وكالة الصحافة الفرنسية أثناء زيارته لأوروبا (عام 2016 أواخر ديسمبر/ كانون الأول)، مؤكداً أنه من حق التونسيين أياً كانوا في العودة إلى وطنهم والاحتفاظ بجنسيتهم احتراماً لنص في الدستور الجديد (المادة رقم 25).
المسألة مثيرة للجدل، فالبعض على سبيل المثال يرى أن تفكير الرئيس التونسي عرضة للتشكيك؛ بسبب تحالفه مع حزب النهضة ذي الطبيعة الدينية، لكن على الجانب الآخر يدافع أنصار السبسي بأن الأمر هو احترام للحقوق الدستورية التي تصون للمواطن الحفاظ على جنسيته، وإن تطلب الأمر إخضاعه للمحاكمة بمقتضى قانون الإرهاب.
هل يمكن التساؤل عن الوضع في مصر التي عانت مرارة شديدة ولا تزال من أفعال كافة الجماعات الظلامية والتي تصل إلى «داعش» اليوم؟
يمكن القطع بأن مصر لديها تجربة سابقة مع تلك الجماعات، التي مرت بمراحل مختلفة في نشوئها وارتقائها، وقد عرفت فترة التسعينات بفترات المراجعة داخل السجون المصرية، شارك فيها تيارات من الجماعات الإسلامية والمتطرفين والإخوان المسلمين، عطفاً على فصائل أخرى وإن تعددت أسماؤها، إلا أنها آمنت بالعنف آليةً للتعامل مع الدولة.
المراجعات المشار إليها تقف الآن حائلاً أمام القول بحتمية المعالجة الفكرية للعائدين من «داعش»، فقد انقلب هؤلاء بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) على كافة ما تراجعوا عنه من تفكير العنف في القراءات السابقة، وعاد البعض منهم إلى سياقات العنف كخلفية وحتمية تاريخية في التعامل مع الدولة، وبقية المصريين، ومن بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، أبو العلاء عبد ربه، قاتل الكاتب المصري فرج فودة، الذي أمضى نحو عشرين عاماً في السجون المصرية، لم تردعه عن فكره، ولم يغير عقيدته القتالية والذهنية؛ ولهذا رأيناه لاحقاً ينضم إلى «جبهة النصرة» في سوريا، وصورته المتلفزة عام 2016 وهو يعتلي إحدى الآليات العسكرية الخاصة بـ«داعش» لا تزال حاضرة في الأذهان، وهو يزخم ويحض أعضاء التنظيم على القتال.
في دراسة مهمة للأستاذ، علي بكر، مساعد رئيس تحرير مجلة «السياسة الدولية» المصرية وخبير الحركات المتطرفة، نطالع الجانب السلبي من فكرة إدماج العائدين من «داعش»، بل وتقديم المساعدات لهم داخل المجتمع لإعادتهم إلى جادة الصواب، وعنده أن أولئك العائدين قد يرون تلك المساعدات حقاً مكتسباً لهم، وبالتالي تكون وسيلة لإكمال طريق «التشدد» المزعوم؛ نظراً لأنه فكر قائم على التقية في مواجهة الحكومات «الكافرة»، ومن أبرز الأمثلة على ذلك أبو زكريا البريطاني، الذي قام بعملية انتحارية استهدفت الجيش العراقي في فبراير (شباط) 2017؛ إذ كان قد أطلق سراحه من معتقل غوانتانامو في 2004، وصرفت له الحكومة البريطانية تعويضاً ماديا بلغ مليون جنيه إسترليني، ورغم ذلك توجه إلى سوريا عام 2014، وانضم لتنظيم داعش.
يمكن القطع بأن كارثية العائدين من «داعش» في الوقت الراهن باتت تشبه الساعات الأولى من المخاض، فرغم الألم الأولي، فإن الآلام الأشد والمعاناة الأكبر لم تظهر بعد، وغالباً ما سيكون ظهورها محدداً رئيسياً للآليات التي سوف يتفق على اتباعها، فإذا مالت الكفة لجهة المزيد من العمليات الإرهابية والمسلحة، وسقط الكثير من القتلى والجرحى، وتهدد الأمن والسلم المحليين والدوليين، فساعتها سيكون خيار الإبعاد هو الأقرب، عطفاً على الاحتجاز داخل سجون مقسمة حسب الأفكار والآيديولوجيات وبعيداً كل البعد عن المجرمين الجنائيين؛ حتى لا تصبح السجون «مفرخة» لإرهاب جديد أشد وقعاً ووحشية.
وحال حدثت تراجعات حقيقية، بعيدة عن طروحات وشروحات التقية، وهو احتمال ضئيل في المشهد، ساعتها يمكن تدبر حلول إنسانية وتبني مراجعات فكرية حقيقية غير منحولة، واعتماد برامج اجتماعية تصحح خطأ بشريا أرتكبه البعض على كارثيته... إلى أين سيمضي مشهد الدواعش العائدين؟... مبكر حسم المشهد بدرجة يقينية مطلقة.