«زبور»... الكتابة كحيلة وحيدة في مواجهة الموت

رواية ثانية لكمال داود الفائز بـ«غونكور» الفرنسية

كمال داود  -  غلاف الرواية
كمال داود - غلاف الرواية
TT

«زبور»... الكتابة كحيلة وحيدة في مواجهة الموت

كمال داود  -  غلاف الرواية
كمال داود - غلاف الرواية

افتتح الموسم الباريسي الأدبي الحالي بثماني روايات من القارة السمراء، منها الرواية الثانية للكاتب الجزائري كمال داود، التي اعتبرها بعض المعلقين في الصحافة الأدبية الحدث الأبرز في هذا الموسم المخصص للأدب الفرانكفوني. وقد حظيت هذه الرواية التي صدرت الشهر الماضي عن دار «أكت سود» في باريس، ودار «برزخ» في الجزائر، و«سيريس» في تونس، باهتمام إعلامي واسع، حتى قبل صدورها، خصوصاً أن الكاتب كان قد نال جائزة «غونكور» للرواية الأولى عن روايته: «مورسو: تحقيق مضاد» (وكنا قد كتبنا عنها في مقال سابق) التي واجه فيها كاتباً آخر، ألبير كامو، الذي نال جائزة نوبل للآداب عن روايته: «الغريب» (l'étranger)، ويتجاهل فيها هوية الضحية الجزائري الذي يقتله أحد المستوطنين الفرنسيين (مورسو) على شاطئ جزائري، ليأتي كمال داود ليعطيه اسماً، وهوية، وينسبه إلى عائلة ويعيد إلى ذهن القارئ الرواية الرائجة بعد أن أوقفها على قدميها. في حين اعتبر آخرون أنه لا يمكن أن نطلق عليها صفة رواية فهي أقرب إلى حكاية.
وجاءت روايته الثانية «زبور أو المزامير» (Zabor ou les psaumes) لتزيد من اهتمام بعض الأوساط الفرنسية بالكاتب الذي يتهم في بلده الجزائر بالإسلاموفوبيا، أو معاداته للدين، رغم أنه نشأ في بيئة دينية محافظة، وبانتقاده للغة العربية التي يعتبرها «حبيسة المقدس»، و«لا تعرف التطور». ولكن داود، وعلى الرغم من كل الانتقادات اللاذعة التي تلاحقه في بلده، من قبل الأوساط الدينية والثقافية، آثر أن يبقى في مدينة وهران ويكتب في صحيفتها «وهران»، بالإضافة إلى مراسلته مجلة «لوبوان» الفرنسية.
في روايته الثانية، بقي داود محافظاً على الأجواء الجزائرية منعكسة في الحياة اليومية لسكان القرى. فبطل الرواية الذي تدور كل الأحداث حوله، يعيش في قرية أبو قير (وهذه تسمية المستعمر الفرنسي السابق لهذه القرية تذكر بمعركة أبو قير في مصر بين البحرية البريطانية وأسطول نابليون، ووصفه لها يشابه القرية التي وُلِد فيها، قرية مسرا القريبة من مستغانم، حيث ولد في عام 1970، ثم انتقل بعدها إلى وهران) على أطراف الصحراء غرب الجزائر. زبور، بطل الرواية، يتيم الأم المنطوي على نفسه، كان على خلاف أقرانه مولعاً بالقراءة. وتعلم اللغة الفرنسية بجهده الشخصي من كتب أولاد المستعمر السابق التي تركوها خلفهم بعد رحيلهم من الجزائر. فالرواية كنصّ أدبي تبدو عادية، بأسلوب لغوي بسيط، سهل الهضم، لا يخلو من السلاسة، بلغة فرنسية متقنة، ومفردات منتقاة تتناسب والفكرة العامة التي تدور حول فكرة جديدة تجعل من الكتابة «تعويذة سحرية لإطالة أمد حياة المحتضرين، أو من شارف على الموت لمرض أو لعجز، أو لشيخوخة». هي فكرة تجعل الكتابة تواجه الموت، كدواء سحري، أو وسيلة تخلق معجزات، وتعاند قوانين الطبيعة، والقدر المحتوم.
وهنا القصة الطويلة التي تملأ كراساً بأكمله سرداً تبعد الموت عن المتلقي، حسب الكاتب. إنها على نقيض «ألف ليلة وليلة»، إذ إن القصة تأتي مسلسلاً ليليّاً متقطعاً يؤجل موت القاصة شهرزاد، وليس المتلقي شهريار الملك.
وفي صفحات أخرى من هذه القصة، يخبرنا داود أن القراءة وحدها لا تكفي. الكتابة هي الأساس، وهي التي تنقذ من الموت، في معنى مجازي... «أمة لا تقرأ ولا تكتب نهايتها الموت».
هي رواية بصوت واحد، صوت الكاتب، كتبت بصيغة المتكلم كمحرك رئيسي للأحداث، وكل الشخصيات حوله هي شبه ثانوية، شخصيات عابرة، تخدم الفكرة العامة في معجزة الكتابة، التي فيها الشفاء، ولكن ليس باللغة العربية، وإنما باللغة الفرنسية! لماذا بالفرنسية؟ ثم، لماذا اختيار هذا العنوان «زبور، أو المزامير» الذي يذكِّر بمزامير داود، مع أن الكاتب يشرح في روايته أن اسم «زبور» الأصلي كان إسماعيل، لكن اسم «زبور» جاءه بعد شجار مع أخيه غير الشقيق، عادل، راعي قطيع أغنام أمي حقد عليه، إثر حادث وقع بينهما عندما كانا طفلين، فصدم عادل رأس أخيه إسماعيل، وسقط عادل في جب جاف القعر. اتهم زبور بأنه هو من دفع أخاه ليسقط في الجب، ما جعل الأم أن تحكم على أبيه إبراهيم الذي تزوج منها بعد موت أم إسماعيل، بطرد ابنه من البيت، فيضعه مع عمته العزباء هاجر في منزل منفصل (وهنا لا بد للقارئ أن يلاحظ أوجه التشابه بين قصة إبراهيم الخليل مع زوجته سارة التي تجبره على طرد خليلته هاجر وطفلها إسماعيل كما جاءت في القرآن الكريم) هل هو تشابه في الأسماء مقصود لإسقاطات تاريخية ودينية؟
على أية حال، هذا الارتطام بالرأس جعله يسمع دويا يشبه صوتا يناديه «زااااا بووووور» فيتحول من إسماعيل (المسلم) إلى (زبور) اليهودي. وظل هذا الاسم هو الذي يطلق عليه فيما بعد. وبقي الأخوان متخاصمين طوال سنين طويلة، والأب لا يعير كبير اهتمام بالطفل إسماعيل (زبور) ولا بأبيه العليل الحاج حبيب. منذ دخول زبور المدرسة في قرية معظم قاطنيها أميون، أصابه في هوس القراءة والكتابة، فنراه منطوياً على نفسه لا يعرف من عالمه سوى الانكباب على القصص، وقراءة كل ما يقع تحت يديه، حتى إن أهالي قرية أبو قير كانوا يأتونه بكتب مُزِّقَت بعض صفحاتها، أو بعض المجلات، أو أي شيء يُقرأ، وكان يلتهمها جميعاً. وقد ذاع صيته في هذه القرية، بأن له مقدرة غير عادية على شفاء المرضى، وقهر الموت، عبر كتابة قصة حياتهم. هل هي هبة خارقة؟ أم مجرد شعوذة وتحدي الموت بالمتخيل؟
يقول: «يكفي أن نعطي للموت عظمة يقضقضها، أن نخدعه بقصة طويلة تنهكه حتى نراه ينأى بعيداً... الكتابة هي الحيلة الوحيدة الناجعة في مواجهة الموت... أعتقد أني الوحيد الذي وجد الحل: الكتابة... اخترعت الكتابة كي تحفظ الذاكرة... وإذا كنا لا نريد أن ننسى فهي بطريقة أو بأخرى، رفض للموت.. وإذا كانت الكتابة قد عمت هذا العالم ذلك لأنها وسيلة قوية لقهر الموت، وليس فقط وسيلة حسابية، أو سردية كما ولدت في حضارة ما بين النهرين».
هي مقولة مضادة لمعتقد سائد في قرية محافظة، فالموت حتمي مهما تحصنّا: «يأتيكم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة». لكن سكان أبو قير بدأوا يعتقدون به بعد تجارب مختلفة، فأعمار المسنين راحت تطول حتى تخطت المائة عام.
كتابات زبور التي تتحدى الموت (وكأن كمال داود يعتبر كتاباته كـ«المزامير» كما جاء في عنوان الرواية) اعتبرها «كأول تمرد للحبر ضد الموت... منذ زمن وقريتنا في صحة جيدة... لا قبور تُحفَر في مقابر بوغويلة في الهضبة منذ أن بدأت الكتابة، الناس يعيشون بفضل كتاباتي مائة سنة».
لكن زبور كان لديه تحدٍّ كبير، فكان إذا قابل أحدهم ولا يكتب عنه خلال أيام ثلاثة فإنه سيلاقي الموت، وكان عليه أن يشتري كراسات بعدد الأشخاص الذين يقابلهم خلال اليوم، وكان لديه مهلة ثلاثة أيام كي ينقذهم، فكان يشتري في اليوم عشراً أو اثنتي عشرة كراسة، وفي إحدى الأيام اشترى سبعين كراسة بعد أن شاهد عرساً. كان يعطي لحكاياته عناوين غريبة أيضاً، أو عناوين لروايات معروفة كـ«موسم الهجرة إلى الشمال»، و«رصيف الأزهار لم يعد يرد»، و«الطرقات الصاعدة»، و«أضواء آب»... وسواها، حتى إنه ملأ صفحات 5436 كراسة.
في الثامن من شهر أغسطس (آب) من عام 1984 جلس زابور البالغ من العمر أربع عشرة سنة، قبالة جده الحاج حبيب الذي يحتضر وهو يكتب له في كراسته: «الجد شبه جثة هامدة، والكتابة لا تتوقف والجد يردد أنفاسا ضعيفة وصفحات الكراسة كادت تنتهي، كل صفحة تزيد فيه أنفاساً إضافية».
وجاء دور الأب المريض إبراهيم الذي أسرع ابنه عادل الأخ غير الشقيق ليتوسل إلى زبور الذي عانى من ظلم أبيه وإهماله (وهنا الطفل إسماعيل هو الذي ينقذ الأب إبراهيم وليس العكس في القصة التوراتية: إبراهيم هم أن يضحي بابنه ثم أنقذه الملاك بكبش)... ليقع في حيرة تغذيها عمته التي احتضنته بعد موت أمه وهجر أبيه، لأنها تريد أن تنتقم، أسلوب آخر في توظيف عقدة أوديب في قتل الأب، أو عدم الرغبة بإحيائه، فالكتابة وإن أحيت فهي أيضاً تميت.
زبور أو المزامير رواية سيرة شبه ذاتية متخيلة، تخلط المقدس بالمتخيل، ونلمس فيها حنيناً للغة المستعمر وإضفاء صبغة قدسية عليها أعلى من المقدس الديني، ما دام زبور نجح في إطالة إعمار سكان القرية بالكتابة بهذه اللغة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟