«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (4): سينما لبنانية تثير الإعجاب والنقد‬

زياد الدويري وقت التصوير
زياد الدويري وقت التصوير
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (4): سينما لبنانية تثير الإعجاب والنقد‬

زياد الدويري وقت التصوير
زياد الدويري وقت التصوير

عندما اختار المخرج الراحل مارون بغدادي اللجوء إلى بلد آخر غير لبنان الحرب في الثمانينات، انتقل للعيش والعمل في فرنسا وحقق أفلامه اللاحقة كلها هناك (مثل «دانتون» و«الرجل المحجب» و«حروب صغيرة»). بذلك تبنّـى المدرسة الأوروبية في الإخراج وأقام صرحاً من الأعمال لم يتوقف إلا بموته في سن مبكرة إثر حادثة وقعت له في بيروت.
المخرج زياد الدويري، الذي نشاهد له على شاشة مهرجان ڤينيسيا الحالي «القضية 23»، ترك لبنان، بعد فيلمه الناجح «بيروت الغربية» (1989) إلى الولايات المتحدة. دخلها مصوراً ثم مديرا للتصوير إلى أن استطاع إنجاز فيلمه «ليلى تقول» سنة 2004، أي قبل ثماني سنوات من عودته إلى العناوين الكبيرة عندما قام بتصوير «الهجوم» في فلسطين المحتلة وإسرائيل.
السينما التي تبناها زياد الدويري لم تكن بطبيعة الحال فرنسية، بل أميركية وهي ما يقدمه في فيلميه الأخيرين المذكورين: «الهجوم» و«القضية 23». والبحث الذي بدأه في «الهجوم» حول هوية إنسان فلسطيني يعيش داخل إسرائيل، مستمر وإن انتقل إلى لبنان للبحث عن هويتين مفقودتين عوض واحدة: هوية اللبناني في الوضع الاستثنائي القائم والدائم في وطنه، وهوية الفلسطيني الذي ولد في أحد مخيمات لبنان ونشأ فيها، ولا يزال بلا هوية ذات انتماء وطني.
- كلاهما ضحية وكل منهما ينفي عن الآخر أنه ضحية
في «القضية 23»، هناك ياسر الفلسطيني (كمال الباشا) وهو معيّـن من قبل البلدية لمعاينة احتياجات شارع يقع في أحد الأحياء المسيحية من صيانة وأعمال وإزالة مخالفات. طوني (عادل كرم) يسكن الطابق الأول من البناية وحين يسمع لهجة ياسر الفلسطينية يتعمد دلق الماء عليه وعلى رئيسه اللبناني اللذين كانا يعاينان مزراباً مكسوراً لشرفة طوني. يطلب اللبناني من طوني السماح لهما بخلع المزراب المكسور وتركيب مزراب جديد كامل. يرفض. يباشران العمل على أي حال؛ لأن ذلك من مهامهما. لكن طوني يعود بمطرقة ويهوي على المزراب الجديد ويكسره، ما يقابله ياسر بشتيمة.
طوني يطلب اعتذاراً عن الكلمة. ياسر يجدها كبيرة عليه. لكن طوني مشبّـع بالأفكار التي تشربها من «حكيم» حزب «القوات اللبنانية» ومن خطابات بشير الجميل الذي كان يردد أن على كل الفلسطينيين الرحيل من لبنان «ليبحثوا عن وطن آخر» كما نسمعه يقول. ليس أن الأحداث تدور في زمن الحرب الأهلية، بل بعدها (أيام الهواتف الجوالة الحديثة).
الأمور تتطوّر عندما يهاجم طوني ياسر بعدما رضي الثاني بالاعتذار. يقول له: «يا ريت شارون محاكم عن بكرة أبيكم». عند هذه الكلمة يصوّب له ياسر لكمة قوية في المعدة تكسر لطوني ضلعين. تدخل القضية المحكمة ويأمر القاضي بإطلاق سراح ياسر لأن الاعتداء الذي وقع كان وليد اللحظة. طوني يستأنف. محكمة أخرى يتم نصبها ومعظم الفيلم بعد ذلك يدور في قاعتها.
كل هذا والعلاقة بين طوني وزوجته الحامل تتوتر. هي ترى أنه لو لم يشتم الفلسطيني لما حدث ما حدث. ثم تتوتر أكثر عندما يدخل طوني المستشفى مرّة ثانية، هذه المرة بعدما جر آلة ثقيلة رغم إصابته السابقة فزادت حالته سوءاً.
إذ يكمل الفيلم متابعة القضية في المحكمة يحيطها بما تحيط الأفلام الأميركية المواضيع المعالجة درامياً به. هذا هو أحد التأثيرين المستمدين من تجربة العمل الهوليوودية، وهي تتعلق بالكتابة وتنفيذ المكتوب. ففي أحد المشاهد يستقبل رئيس الجمهورية اللبناني الاثنين في مكتبه ويحاول إنهاء الأمر بالحسنى. طوني يرفض. لا يرفض فقط، بل يرفع صوته على صوت رئيس الجمهورية ويحتد أمامه لأنه يرفض أن يُـعامل «الغريب» بامتياز ويُـعامل هو كما لو أنه من الدرجة الثانية. في الأفلام الأميركية، مثل هذا الموقف قد يمر، لكن في فيلم لبناني هو اقتباس لا يمكن تطبيقه من دون عواقب. ولا هو محتمل.
التأثير الآخر كامن في المنهج المتبع للمونتاج. اللقطات المتوالية ليست الوحيدة التي تدل على هذا التأثير، بل صياغة الفيلم بأجمله. هذا فيلم يسرد قصّـة أكثر مما يحلل وضعا. على ذلك، لا ريب في صدق ما يذهب إليه. اللبناني المسيحي الذي يجد نفسه مهدداً في وطنه، والفلسطيني المسلم الذي يعتبرها إهانة كبرى أن يواجه بعنصرية واضحة. يتنقل المخرج بين العائلتين قليلاً. يظهر اختلاف الرؤى بين أفراد العائلة كما بين الخصمين. ويزيد المخرج، في اقتباس آخر لأفلام أميركية (مثل Class Action سنة 1991) نكتشف أن محامي الدفاع عن طوني (كميل سلامة) هو والد محامية الدفاع عن ياسر (دياماد بو عبود). هذا يجعل الفيلم أكثر سخونة، لكن ربما أقل واقعية مما يجب.
كل ذلك يؤدي إلى فتح ملفات سياسية وإلقاء نظرة على بعض التاريخ: الفلسطينيون الذين هاجروا وطنهم وأصبحوا لاجئين في أوطان سواهم. ثم المسيحيون الذين تعرضوا للقتل في الدامور وتم تهجيرهم من أراضيهم وممتلكاتهم. إنه تاريخ لا ينتهي ولا يبدأ، بل يستمر. الفلسطينيون ضحايا والمسيحيون ضحايا والعدالة العالمية مفقودة.
يحسن الدويري تقديم شخصياته جميعاً، خصوصاً شخصيتيه الأساسيّـتين. طوني الذي طلب الاعتذار، لكنه انطلق من مفاهيم حزبية منغلقة، وياسر الذي عمد إلى العنف، مستفيداً من استعداد الدولة للأخذ بعين الاعتبار مشاكل الفلسطينيين غير المحلولة.
يستعين الدويري بمدير تصويره في فيلم «الهجوم» توماسو فيوريللي الذي يستخدم أسلوباً طيعاً: الكاميرا ثابتة غالباً حين يطلب المشهد ذلك، ومتحركة كما لو كانت كاميرا إخبارية (ريبورتاجية) في مشاهد أخرى، كما مشهد الخناقة الكبيرة بين أنصار ياسر وأنصار طوني خارج المحكمة.
- «الشهيد»... يبحث في الأضداد
«الشهيد» هو فيلم لبناني آخر معروض في قسم رسمي إنما خارج المسابقة الأولى اسمها «بيانل كوليدج». قسم خاص بالأعمال الشبابية الأولى. المخرج هو مازن خالد الذي اختار نصاً يربط المجتمع الحاضر وحدوده المغلقة بطلب الحرية التي تتراءى كالأفق وتبقى بعيدة.
المجتمع هو أزقة في بيروت، حيث يعيش بطل الفيلم الشاب حسّـان (حمزة مقداد) والحرية يرمز إليها البحر. الكبت الاقتصادي والمعيشي والجنسي والاجتماعي يكمن في تلك الحارات المتداخلة، والحرية تكمن في هذا البحر الواسع، لكن كلهم يمثلون بيروت. نقطة انطلاق رائعة لفيلم يبحث في الأضداد.
يبدأ «الشهيد» بكاميرا تجول فوق جسد حسّـان العاري. نراه جالساً بلا حراك ثم تبحر الكاميرا فوق جسده قبل أن يستيقظ من النوم على صوت والديه يطلبان منه النهوض للبحث عن عمل. والده يريد أن يسعى له عند أبو مصطفى. لكن حسّـان، الذي يدافع عن سبب تركه عمله الأخير بالقول إنه كان مهيناً، يخبره بأنه سيبحث عن العمل بنفسه. ثم يقول لوالدته إنه سيبدأ البحث غداً.
أما اليوم (والفيلم يقع في نهار واحد) فسيقضيه على البحر برفقة الشباب. أحدهم محمد هو أكثر إعجاباً وحباً بحسّـان. وهناك مشهد يجلسان فيه على إحدى صخور البحر يبث فيه حسان بعض متاعبه ويرى أن حاملي السلاح (من دون ذكرهم) أفضل من حالتهما لأنهم على الأقل لديهم ما يقومون به، أما هو، يضيف «لا شيء».
بعد قليل ينهض حسان من مكانه ويصعد الشارع المطل على البحر ليقفز إليه من علو كبير. مهما كان الدافع، فإن النتيجة أن القفز من ذلك الارتفاع قضى عليه. يتم انتشال جثته من قبل أصدقائه والآخرين المتواجدين.
ثلث الساعة الأخيرة تقع في البيت مجدداً وتصوّر مراسم الحزن والألم العاصف بوالديه خصوصاً بوالدته. هنا، وإلى جانب البكاء والندب يورد الفيلم ثلاث مشاهد غنائية. يكاد ذلك أن يطيح بما سبق من حيث إنه التفاتة صوب خط مختلف. صحيح أن الأغاني ليست استعراضات من نوع «الميوزيكال» لكنها تتدخل في نص لم يبدأ على هذا النحو. هي، من حسناتها القليلة، إنها مصوّرة كما لو كانت أداء مسرحياً (النساء بملابس الحداد السوداء على خلفية سوداء أيضاً).
يلي ذلك خمس دقائق لمشهد غسل الميت الذي يقوم به أصدقاؤه. الأغاني ومشهد الغسل يثيران لدى المشاهد الأجنبي (كل من في القاعة باستثناء هذا الناقد) إعجاباً كبيراً بفيلم يوفر مطالعة الطقوس في مثل هذه الحالات.
إلقاء الممثلين في أكثر من مشهد هو عثرة في غير محلها، لكن المخرج يضم المشاهد إلى لبنة الفيلم القائمة على معالجة فنية في مكانها الصحيح معظم الوقت.
ما يبدو أمراً مستغرباً أن يُـعامَـل حسان شهيداً. مفهوم الشهادة تغير هذه الأيام بتعدد وكثرة استخدام الكلمة، وهذا معروف. لكن هل يشمل من مات غرقاً وبظروف لا علاقة لها بالشهادة؟ حسب الفيلم، نعم. المخرج يسأل ويجيب ضمناً «أليس الغارقون في البحر شهداء حقيقيين كونهم مدفوعين من قِـبل المجتمع للحافة؟».
هذا غير مقنع والعلاقة واهية، وليس لها معنى كبير على نحو بصري، بل تبدو تبريراً للعنوان. رغم ذلك يسجل الفيلم نقاطاً عالية على صعيد بصرياته ومعالجته الكلية لحكايته التي تتحرك على وقع من الإيحاءات أكثر مما تريد سرد حكاية ما.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».