«المصداقية» و«وسائل التواصل الاجتماعي» تتسيدان مناقشات اليوم الثاني لمنتدى الإعلام العربي

الشيخ محمد بن راشد يتوج 15 إعلاميا بجوائز الصحافة العربية

الشيخ محمد بن راشد يتوسط الفائزين بجائزة الصحافة العربية أمس  (المكتب الإعلامي لحكومة دبي)
الشيخ محمد بن راشد يتوسط الفائزين بجائزة الصحافة العربية أمس (المكتب الإعلامي لحكومة دبي)
TT

«المصداقية» و«وسائل التواصل الاجتماعي» تتسيدان مناقشات اليوم الثاني لمنتدى الإعلام العربي

الشيخ محمد بن راشد يتوسط الفائزين بجائزة الصحافة العربية أمس  (المكتب الإعلامي لحكومة دبي)
الشيخ محمد بن راشد يتوسط الفائزين بجائزة الصحافة العربية أمس (المكتب الإعلامي لحكومة دبي)

توج 15 إعلاميا عربيا بـ«جائزة الصحافة العربية» في دورتها الثالثة عشرة، التي اختتمت أعمالها أمس، حيث تنافسوا ضمن 4532 عملا تقدم بها صحافيون من مختلف أقطار الدول العربية، بارتفاع 9.3 في المائة عن العام الماضي، حيث جرى إعلان أسماء الفائزين خلال حفل «جائزة الصحافة العربية»، بحضور الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، على هامش منتدى الإعلام العربي الذي اختتم أعماله يوم أمس.
وكرم الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الفائزين بجائزة كاتب العمود الصحافي، التي حصدها الكاتب المصري الساخر أحمد رجب عن مجمل أعماله ومقالاته التي نشرها، وأعلنت جائزة الصحافة العربية عن الشخصية الإعلامية لهذا العام، والتي منحت لإبراهيم العابد، مدير عام المجلس الوطني للإعلام، ومدير وكالة أنباء الإمارات، نظير جهوده وإسهاماته في تطوير الإعلام الإماراتي.
وتسلم الصحافيون الفائزون جوائزهم من أعضاء مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية، وذلك عن 13 قطاعا في الصحافة العربية المكتوبة والإلكترونية.
وقد فاز عن فئة الصحافة السياسية الصحافي المصري عمرو بيومي من صحيفة «الإمارات اليوم»، أما فئة الصحافة الاستقصائية ففازت بها الصحافية المصرية إيمان الوراقي من صحيفة «اليوم السابع»، وعن فئة الصحافة الاقتصادية فاز مصطفى عبد العظيم من صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، أما فئة الصحافة التخصصية ففازت مجلة «لغة العصر» من مصر المتخصصة في مجال التقنية والتكنولوجيا، أما عن فئة الحوار التخصصي ففاز الصحافي المصري ياسر رزق من صحيفة «المصري اليوم».
وتوج شريف صالح من جريدة «النهار» الكويتية بجائزة الصحافة الثقافية، وفاز مسعد عبد الوهاب من صحيفة «الخليج» الإماراتية عن فئة الصحافة الرياضية، أما عن فئة الصحافة الإنسانية ففاز أحمد مدياني من مجلة «مغرب اليوم» المغربية.
وفي فئة الصحافة الشبابية فاز كل من سامي المودني من صحيفة «المساء» المغربية، وعزيز الحوار من صحيفة «الأخبار» المغربية، ومحمد أحداد من صحيفة «المساء» المغربية. وفي فئة الصورة الصحافية فاز عمار عوض من وكالة «رويترز»، ومن فئة الرسم الكاريكاتيري فاز عامر الزعبي من صحيفة «البيان» الإماراتية.
وكان منتدى الإعلام العربي قد اختتم أعماله يوم أمس في مدينة دبي، من خلال عدد من الجلسات تناولت مستقبل الإعلام والتحديات التي تواجه الصناعة الإعلامية.
وكان منتدى الإعلام العربي قد اختتم أعماله يوم أمس وسط حضور واسع من الإعلاميين العرب، طرح من خلالها محاور متعددة تندرج تحت شعار الدورة الثالثة عشرة «مستقبل الإعلام يبدأ اليوم»، في الوقت الذي أكد فيه أغلب المشاركين أن الإعلام يشهد في الوقت الحالي تغيرات غير مسبوقة تصور شكل المستقبل.
وركز أغلب المشاركين في المنتدى على تأثير الإعلام في الصراعات الحاصلة في المنطقة، إضافة إلى تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة تلك المرتبطة بتصنيف الأشخاص، في حين تناول المنتدى شكل الإعلام الجديد وما سيكون عليه خلال الفترة المقبلة.
من جهته كشف الشيخ وليد بن إبراهيم آل إبراهيم رئيس مجلس إدارة مجموعة قنوات «إم بي سي» أن المجموعة تتجه في المستقبل القريب إلى افتتاح محطات محلية للدول العربية أسوة بمحطة «إم بي سي مصر»، مؤكدا أنه لا توجد نية حاليا للتوجه إلى المجتمع الغربي أو تقديم قنوات باللغة الإنجليزية.
وفي الجلسة الحوارية الرئيسة لليوم الثاني ضمن فعاليات منتدى الإعلام العربي، بحضور الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، أكد آل إبراهيم أن فكرة وجود قناة تلفزيونية تبث للعالم العربي بأكمله بدأت بالتقلص، مشيرا إلى أن الانتشار والتوسع يعتمد على الطرح المحلي والإقليمي، فالمنافسة بين القنوات الفضائية والقنوات المحلية أكثر، وأضاف: «مستقبلا يمكن أن تظهر قنوات محلية مثل (إم بي سي الكويت)، أو (إم بي سي العراق) وحتى (إم بي سي المغرب) تختص بالشأن المحلي لكل دولة».
وفي سياق حديثه في الجلسة الحوارية التي أدارها الدكتور عادل الطريفي رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، أوضح آل إبراهيم أن المرحلة الحالية تشهد تغيرات كبرى في المشهد الإعلامي حيث اختلفت الكثير من الموازين واختلت، خصوصا بعد الاضطرابات التي شهدتها المنطقة، وأحداث ما يعرف اليوم باسم «الربيع العربي».
ويشير آل إبراهيم إلى البدايات الأولى التي خلقت فكرة إنشاء قناة «إم بي سي» أثناء دراسته في أميركا، يقول: «خلال اختلاطي بالطلبة الأميركيين، أو الآخرين من جنسيات أخرى، وجدت أنهم لا يعرفون المعلومات الأساسية البديهية عن السعودية ولا عن شعبها أو ثقافتها، بطبيعة الحال ذلك قبل أن تتوفر وسائل الاتصال الحديثة والإنترنت».
وحول قرار انتقال المجموعة من لندن إلى دبي عام 2002، قال الوليد إن هذا القرار كان قرارا مصيريا ومهما بالنسبة للمجموعة، وله دور فاعل في نقلتها الناجحة: «فلا وجه للمقارنة بين دبي ولندن».
وفي معرض رده على أسئلة الدكتور الطريفي أبدى آل إبراهيم اهتماما ملحوظا بالشباب السعودي بوجه خاص والشباب الخليجي والعربي بوجه عام، حيث أكد أن الشباب يملكون طاقات جبارة وعلى الجهات المعنية وصناع القرار في الدول العربية توجيه الشباب ودعمهم وشد أزرهم وتخصيص بعثات دراسية لهم.
إلى ذلك وفي إطار فعاليات اليوم الثاني عقدت جلسة تحت عنوان «الإعلام العربي.. سؤال المصداقية»، حيث سلطت الضوء على واحدة من أهم القضايا التي يعانيها الإعلام العربي منذ ظهور ما يسمى بالربيع العربي، ألا وهي قضية مصداقية وسائل الإعلام، التي كانت ولا تزال المؤشر الرئيس على الالتزام بقواعد المهنة وأخلاقها، وبين واقع متحيز من بعض وسائل الإعلام العربية والمأمول لمهنة يفترض قيامها بالأساس على الموضوعية في الطرح والمعالجة والتناول.
وشارك في الحوار باسم الطويسي، عميد معهد الإعلام الأردني والكاتب بصحيفة «المدينة» السعودية سعود كاتب، إلى جانب ناديا البلبيسي مراسلة قناة «العربية» في واشنطن، والدكتورة نجوى كامل أستاذة الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وأدارت النقاش الإعلامية فدى باسيل من قناة «بي بي سي» العربية.
وناقش المتحدثون عددا من المحاور أهمها اهتزاز مصداقية وسائل إعلام شهيرة بسبب انحيازها المعلن لأحد أطراف الصراع على السلطة في دول ما يسمى بالربيع العربي، وهل أثر هذا الانحياز في مكانتها وانتشارها؟ وتطرقت إلى التزام وسائل الإعلام بقواعد المهنة وأخلاقياتها في الدول التي تعيش مخاض تحولات ضخمة وصراعات مريرة على السلطة.
وفي كلمتها، قالت فدى باسيل إن المصداقية هاجس العلاقة بين وسائل الإعلام والمتلقين، وإن الإعلام يعد الناس بالحرفية والنزاهة والموضوعية والثقافة والحياد، فيما تعود الناس على تلقي الأخبار من مصادر الإعلام المنتظر أن تتمتع بالمصداقية والمهنية، لكن أمر المصداقية أصبح على المحك وسقط الإعلام في فخ إغراءات التوجيه، وفقد دوره المتوازن الباحث عن الحقيقية.
وفي تعريفه للمصداقية في الإعلام، رأى باسيل الطويسي أن مفهومها نسبي يعتمد على تفسير المتخصصين والممتهنين له، لكنها في النهاية خلاصة التوازن، والدقة، والحرفية، والحياد، مشيرا إلى أن الإعلام العالمي والعربي بشكل خاص يعيش حاليا أزمة أخلاقية تتعلق بالصدق والمهنية، لكن ذلك قد يفسره حالة عدم الاستقرار التي تعم بعض الدول التي تعيش مخاض التحولات السياسية والصراع على السلطة.
وأشار سعود الكاتب إلى أن غياب المصداقية لسنوات أدى إلى تعود الجمهور على غيابها، وأصبحت البرامج والقنوات الأكثر شعبية هي المفتقدة لقواعد المهنية والمصداقية والدقة في نقل المحتوى ومعالجته للجمهور، مضيفا أن سقف الحرية في بلداننا العربية ارتفع، لكن ذلك لم يواكبه ارتفاع لسقف المصداقية وإكساب الناس المعرفة.
ونوه الكاتب بأن المعايير المهنية الصحافية معروفة للجميع، ومع ذلك يشهد الإعلام العربي فترة خطيرة لم يشهد مثيلها منذ نشأة الصحافة والتلفزيون في المنطقة العربية، عنوانها انحطاط الأخلاق المهنية وغياب الموضوعية والهجوم والتلاعب بالمقدرات والأوطان، مسلطا الضوء على انزلاق الإعلاميين والمثقفين للتحدث بما يريده الشارع وليس ما يحتاجه، بحجة «الجمهور عايز كدة»، وهو ما أدى إلى تردي المحتوى وتحيزه في الكثير من الأحداث والتغطيات.
إلى ذلك عقدت جلسة بعنوان «التحريض الإعلامي وفتن بلا حدود»، وناقشت حالة التحريض التي تسيطر على المشهد الإعلامي خلال الأعوام القليلة الماضية.
وشارك في الجلسة علي بن تميم، رئيس تحرير موقع «24 الإخباري»، وعمار بكار المؤسس والرئيس التنفيذي لمجموعة «نعم» للإعلام الرقمي، ومصطفى الآغا إعلامي قناة «إم بي سي»، ووسيم يوسف متخصص الشؤون الدينية في قناة «الدار»، وأدارت اللقاء الإعلامية ليليان داود من قناة «أون تي في».
وتناول المتحدثون ما شهده العقد الماضي من موجات متتابعة من المد الأصولي المتشدد عبر القنوات والمنصات الإعلامية بشكل غير مسبوق في الكثير من البلدان العربي، مما جعل الإعلام يقف في قفص الاتهام مسؤولا، أو على الأقل مشاركا في صياغة هذا المشهد المتعصب.
ورأى عمار بكار أن أسبابا كثيرة تقف خلف حالة التنافر السائدة حاليا، وقد بدأت هذه الظاهرة في المنتديات التي ظهرت منذ فترة طويلة قبل وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ كشفت هذه المنتديات عورات الإعلام، حيث سيطر مجموعة من محترفي الصراخ الإلكتروني على المشهد الإعلامي، وازداد الطين بلة مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي؛ إذ ارتفعت وتيرة التطرف وكثر ظهور أصحاب الآراء الحادة.
وأشار بكار إلى أن اهتمام بعض الأشخاص بازدياد أعداد متابعيهم يدفعهم إلى الإكثار من العبارات والجمل الحادة التي تلقى قبولا بين أوساط الشباب غير مباليين بما قد تخلفه تلك العبارات أو الرسائل القصيرة من آثار سلبية.
من جهته اعتقد علي بن تميم أن فكرة التوجيه قد تتعارض مع مبدأ حرية التعبير، بل يجب العمل على توحيد المفاهيم لتجنب حالة الحيرة التي أصابت المتلقي العربي، كما يجب وضع تشريعات تمنع استغلال منابر المساجد للترويج للأفكار المتطرفة.
الإعلامي مصطفى الآغا يؤكد أن الإعلام ابن البيئة التي ينمو فيها وليس مجرد فكرة مطلقة، وأن ميثاق الشرف الإعلامي لن يؤدي إلى تخفيف حدة الصراعات، بل على العكس يجب تكريس مبدأ المساءلة القانونية لمن يسيء ويحرض وينشر الفتنة.
ويرى وسيم يوسف أن الإعلام مسؤول عن انتشار الفتنة، حيث وفر منبرا لدعاة التشدد، مما ساهم بشكل كبير وفعال في زيادة أعداد المتابعين لهؤلاء الأشخاص، ويجب في الوقت الراهن عدم تركيز الضوء على طائفة بعينها وترك الآخرين مثلما يحدث الآن، بل يجب مشاهدة الموقف بشكل واسع حتى لا نسمح بوجود هذه الجماعات في الظل.
وكان جون دانيسزيسكي نائب رئيس تحرير وكالة «أسوشييتد برس» ومدير التحرير المسؤول عن الأخبار العالمية في الوكالة، تحدث ضمن جلسة أدارها الإعلامي فيصل عباس رئيس تحرير «موقع العربية نت» باللغة الإنجليزية، التي تركزت على الواقع الإعلامي الإخباري في المنطقة في ظل التطورات التي ألمت بالكثير من البلدان العربية.
وأكد دانيسزيسكي أن وسائل التواصل الاجتماعي وفرت فضاء رحبا للصحافة التقليدية، حيث أصبح تداول ونشر الأخبار أسهل وأسرع من ذي قبل، كما شهد المحتوى الإعلامي زخما كبيرا بسبب وفرة المعلومات والأفكار التي يجري تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، ومع ذلك ينبغي توخي الحذر عند التعامل مع المواد الإعلامية التي تنشر عبر هذه المواقع.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)