عروض الأزياء تحلق إلى الفضاء

في شهر فبراير (شباط) الماضي وعندما اختار المصمم كارل لاغرفيلد ديكوراً مستقبلياً لتشكيلته لخريف 2017 وشتاء 2018، كانت الإشارة واضحة، وهي أن السفر إلى كواكب أخرى سيكون من الوجهات المهمة هذا الموسم. لم يقتصر الأمر بالنسبة له على تنصيب صاروخ ضخم وسط «لوغران باليه» تم إطلاقه في آخر العرض، وشمل إكسسوارات تستوحي خطوطها من ملابس ركاب الفضاء وأزياء بألوان معدنية تتباين بين الماسي والرصاصي تغطي العارضات من الرأس إلى أخمص القدمين أحياناً.
هذا التوجه إلى المستقبل تابعناه في عروض أخرى كثيرة، فيما يبدو كأنه مؤامرة حاكها المصممون فيما بينهم لإغوائنا. ظهر مثلاً في عروض كل من «باكو رابان»، و«سان لوران»، وجي. دبيلو أندرسون، و«بالنسياجا» وكريستوفر كاين. هذا الأخير مثلاً مزج المعدني بخيوط من الصوف تحسباً لشتاء بارد. حتى خط الـ«هوت كوتير» لم يسلم من هذه الموجة. ففي عرض آريس فان هيربن المعروفة بأسلوبها الاستكشافي والجريء، ظهرت العارضات كأنهن كائنات من كوكب آخر في فساتين مصنوعة من الصلب المقطع بالليزر لتأخذ شكل دانتيل. هذا عدا عن الأكتاف المُقببة كأنها دروع. مصمم دار «باكو رابان» جوليان دوسينو يرى أن المسألة طبيعية. فالتفكير في المستقبل يدخل في صميم عمل كل مصمم، كونه يبدأ في تصميم تشكيلاته قبل عام من عرضها. هذا بحد ذاته «فعل مستقبلي» يستبق به المصممون ما ستكون عليه الموضة. من جهتها، ترى محلات «براون» أن الألوان المعدنية لمسة مُرحب بها. فهي تُدخل السعادة على النفس كما أنها هروب من واقع تشوبه كثير من الاضطرابات. وقد لمست المحلات إقبالاً ليس على الألوان المعدنية والبراقة، بل أيضاً على التصاميم المبتكرة لا سيما في مناسبات السهرة والمساء عندما يكون التفرد هو المطلوب.
اللافت أن هناك فرقاً ملموساً في طريقة تناول هذه التيمة بين الماضي والحاضر. في السابق كان المصممون يركزون على الأقمشة أولاً وأخيراً، باستعمال الـ«بي في سي» أو رقائق معدنية، وربما النيوبرين والألمونيوم إلى جانب تقنيات ثلاثية الأبعاد، أما الآن فهم يأخذون طريقاً قد تكون أسهل وأضمن بالمقارنة، بتركيزهم على التقنيات والألوان أولاً ثم بعض التفاصيل والإكسسوارات. السبب يعود إلى حاجتهم إلى تسويق هذه التصاميم وليس مجرد استعراض قدراتهم وخيالهم من خلالها. دار «باركو رابان» التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأسلوب المستقبلي منذ الستينات من القرن الماضي، قدمت مجموعة من الأزياء استعملت في بعضها سلاسل بدل الخيوط لحياكتها. أما المصمم جي. دبليو أدرسون مصمم دار «لويفي» الإسبانية فركز على الأكمام التي تبدو كأنها أجنحة مستعدة للإقلاع، بينما قدم ديمنا فازاليا، مصمم دار «بالنسياغا» تنورة مصنوعة من مواد تُستخدم عادة في السيارات.
لحسن الحظ أن أسلوب الـ«سبور» كان عنصراً قوياً تمازج مع هذا التوجه ليخفف من تعقيدات التصاميم ومنحها خفة وانطلاقاً في الوقت ذاته. بالنسبة للبعض الآخر، من أمثال أليساندرو ميشال مصمم دار «غوتشي» وأنطونيو فاكاريللو مصمم «سان لوران» فقد خففا من الجرعة المستقبلية بربط ابتكاراتهما بالماضي. فأجواء عروضهما تأخذنا إلى «ديسكوهات» السبعينات والثمانينات أكثر مما تأخذنا إلى المريخ أو القمر باستثناء ألوانها وبريقها. أليساندرو ميشال أضاف أيضاً جرعة طرافة عليها بكتابته رسائل مثل «الغد أصبح في هذه اللحظة أمساً» و«ماذا سنعمل بكل هذا المستقبل» على بعض القطع. من جهته، قدم أنطونيو فاكاريللو نحو 100 قطعة، فيما يمكن اعتباره من أطول العروض. قسمه إلى قسمين، القسم الأول شمل قطعاً يعرف أنها ستروق لزبونات الدار من الشابات تحديداً. أما القسم الثاني فجاء أكثر جُرأة وبعد أن اعتقد الكل أن العرض انتهى، لتطل علينا العارضات من جديد في أزياء تبرق وتلمع من الرأس إلى أخمص القدمين في بعض الإطلالات. معظمها كان مناسباً للسهرة والمساء وحفلات الكوكتيل وواضح أنها مستقاة من موضة الثمانينات من القرن الماضي، لكن بالنظر إلى طولها وتصاميمها وبريقها فإن إمكانية دخولها مناسبات النهار مفتوحة على الآخر، بمجرد تنسيقها مع ألوان أخرى. كما أن خطوطها وتفاصيلها المستقبلية أنقذتها من الإغراق في الحنين إلى الماضي.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الموضة ليست وليدة الساعة، إذ ظهرت في الستينات على يد باكو رابان وأندريه كوريج وغيرهما، وتزامنت آنذاك مع بداية سباق غزو الفضاء بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي الذي دام تقريباً من عام 1957 إلى 1975.
حالياً يرد البعض أسباب العودة إليها إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة. فكتب التاريخ تشير إلى أن الهروب إلى المستقبل يزيد عندما تكون هذه الأوضاع غير مستقرة، بدليل أن «فرانكشتاين» التي يمكن اعتبارها أول رواية من الخيال المستقبلي لكاتبتها ماري شيلي كتبت في عام 1818 وكانت بمثابة إسقاط الثورة الفرنسية على أحداث كانت تعيشها أوروبا في تلك الفترة.
وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي إبان الحرب العالمية الأولى، كتب أيتش. جي ويلز عدة كتب تتناول استكشاف الفضاء. فعلى ما يبدو أن الاضطرابات تجعل الناس يُفكرون بالمستقبل أكثر من ذي قبل في محاولة للهروب من الحاضر. ولا يقتصر الأمر هنا على الموضة بل أيضاً على الأدب والسينما، وهو ما تؤكده أفلام صدرت أخيراً، نذكر منها «ذي وولكينغ ديد» و«بلايد رانر 2049» و«حرب النجوم»، إلى جانب أفلام مماثلة يتم العمل على تصويرها حالياً، وستصدر في الخريف المقبل.
ثم لا ننسى أن التكنولوجيا غيرت كثيراً من المفاهيم، بما فيها ثقافة الموضة. فالثورة الرقمية أصبحت لغة الجيل الجديد، وبالتالي بات على الكل تعلمها وإتقانها لمواكبة تسارع إيقاع العصر. بل أصبح من الضروري استباق المستقبل بنسج قصص من الخيال يمكن تسويقها على شكل أزياء وإكسسوارات. كل ما علينا القيام به هو إدخالها إلى خزاناتنا واستعمالها بالطريقة التي يحلو لكل واحد منا تأويلها بها. بعض هؤلاء المصممين يطرحونها بشكل سريالي، لا سيما في الإكسسوارات كما هو الحال بالنسبة لعرض «شانيل» أو بشكل بسيط من خلال قطع صغيرة، قد تكون مجرد كنزة أو قميص أو تنورة. فالمستقبل قد يكون واعداً أو ملاذاً، لكن الهروب إليه لا يجب أن يأتي على حساب الحاضر وما يتطلبه من تسويق هذه المنتجات.