الهوية الثقافية والعمرانية لمكة والمدينة

قضية تتكرر في معظم المدن النامية خصوصاً في منطقة الخليج العربي

صورة للمسجد الحرام في مكة المكرمة نهاية القرن التاسع عشر (تصوير: سنوك هورخرونبية - 1888)
صورة للمسجد الحرام في مكة المكرمة نهاية القرن التاسع عشر (تصوير: سنوك هورخرونبية - 1888)
TT

الهوية الثقافية والعمرانية لمكة والمدينة

صورة للمسجد الحرام في مكة المكرمة نهاية القرن التاسع عشر (تصوير: سنوك هورخرونبية - 1888)
صورة للمسجد الحرام في مكة المكرمة نهاية القرن التاسع عشر (تصوير: سنوك هورخرونبية - 1888)

ألقى عصر الطفرة النفطية، وما بعده، بظلاله على النمو العمراني لمكة المكرمة والمدينة المنورة منذ السبعينات. ومع تسارع التنمية والتحديث، برز تحد آخر، وهو اندثار الهوية الثقافية لهذه المدن المقدسة، خصوصاً أن المؤشرات المستقبلية تدل على الزيادة الحتمية لسكان وزوار هذه المدن، مع كل ما يحمله ذلك من تحديات اقتصادية، وضغط على النسيج العمراني التاريخي، الذي يمكن أن يلعب دوراً اقتصادياً مهماً في مرحلة ما بعد النفط.
أخذ التوسع العمراني السريع أثناء الطفرة النفطية في طريقه، في غضون بضع سنوات، معظم النسيج التاريخي، خصوصاً في أواسط المدن. هذا التطور المادي تحرك بوتيرة أسرع بكثير من عمليات التطور الاجتماعي والثقافي الموازية، مما أدى إلى اندثار معظم التراث العمراني، في غفلة عن أهميته، وهذا أحد الأعراض الجانبية للتنمية، التي كان يمكن تجنبها بوضع سياسات حمائية مناسبة.
لو وسعنا دائرة البحث، لوجدنا أن هذه القضية تتكرر في معظم المدن النامية، خصوصاً في منطقة الخليج العربي، حيث لم يكن هناك سياسات أو مبادرات لحفظ التراث، تتوازى مع التنمية المتسارعة، إلا في بعض الحالات الاستثنائية، وتعاملت أغلب المخططات العمرانية مع المعالم التراثية كمواقع قابلة للإزالة، وحل محلها نسيج عمراني مستحدث، وفي بعض الأحيان مستنسخ من معالم فقدت، ولم يتم التنبه لها إلا بعد فوات الأوان.
- المدينة المنورة
لم يتجاوز حجم المدينة المنورة القديمة، بعد إحاطتها بسور في القرون الأولى الإسلامية، محيط المنطقة المركزية الحالية. هذا النموذج العمراني التقليدي، الذي يتصف بالتماسك والنمو المتدرج، يقف على مسافة بعيدة جداً من النموذج العمراني المتسارع في الوقت الحاضر؛ لم تعد المدينة المنورة تلك الواحة الصغيرة التي تقبع داخل سور من العصور القديمة، أصبحت مدينة كبرى؛ بشبكات طرقها الحديثة، وأبراجها، وتزايد أعداد سكانها وزوارها بالملايين سنوياً. ليس الاختلاف فقط في الهيكل العمراني الفيزيائي الذي فرضته عجلة التطور، بل تعدى الأمر ذلك إلى تبدل روح المكان الأصلية التي صمدت لقرون كثيرة، ثم أصبحت الآن تنطق بلسان مختلف، وتختزل الماضي في زوايا ذاكرتها إلى درجة النسيان.
هنا، ينفصل قلب المدينة وينزوي لوحده بين شبكات الطرق السريعة مثل الجزيرة المعزولة، وتنقطع صلته بأطرافها التي أصبحت مدناً أخرى تمتد وتذهب بعيداً ملاحقة شبكات الطرق والمخططات العقارية في كل اتجاه، وكأنها ترحل في فضاءٍ لا نهاية له. هذا «التسيب العمراني» هو الداء الذي أصاب المدن الحديثة، فأخذ يباعد أجزاء المدينة الواحدة عن بعضها، ويمزق نسيجها العمراني، ويستهلك بنيتها الأساسية في مدد قياسية، ويضعف قدرتها على مواجهة الطوارئ وحوادث المستقبل.
ودائماً ما يكون أول ضحايا هذا العراك العمراني الطرف الأضعف والأخفت صوتاً، ألا وهو الإرث العمراني، الذي يندرس مثل الرماد أمام جحافل الاستثمار والتطوير العقاري، التي لا تحفظ اسماً ولا تُبقي رسماً. وفُقدت في هذا الخضم تلك الشواهد التاريخية، بكل ثرائها البصري المتنوع، وذلك القرب المعنوي والمكاني من الإنسان والطبيعة، التي حلت محلها الكتل الصماء وقسوة الأسفلت والأرضيات الأسمنتية. ليس الإرث المادي فقط الذي فقدناه، بل تلاشى خلفه أيضاً الإرث الإنساني. فمع تهافت الجهات التجارية لاقتناص الفرص الاستثمارية في وسط المدينة، يخرج السكان منه تدريجياً، ثم تضمحل ذاكرة المكان جيلاً بعد جيل، حتى تصبح مثل الومضات الخافته في أذهان الأجيال التي عايشته والتصقت به، وتذهب شذرات الذكريات هذه أدراج الرياح، كلما ذهبت شواهدها وشهودها، ولا يبق منها إلا نزعاتٌ من حنين وحسرة على أماكن لم نرها، وأسماء لم نعد نعرفها.
عند النظر إلى عمران المدينة المنورة، ومحاولة استقراء بنيتها التاريخية الأصلية، تظهر كثير من المفارقات: أولها انفصام الرسم التاريخي للمدينة عن هيكلها العمراني الحالي، الذي مد كما يمد البساط الجديد فوق القديم. تاريخياً، كان موقع المسجد النبوي يميل إلى الجهة الشرقية، ثم تليه إلى الغرب سوق المدينة (أو ما عرف لاحقاً بسوق المناخة)، التي كانت تتوسط النسيج العمراني للمدينة، الذي يمتد غرباً بشكل محوري، كلما دعت الحاجة. ولكن النمط التخطيطي الحالي ألغى الصيغة المحورية، بوضع المسجد النبوي وساحاته في مركز شبكة الطرق الدائرية، وهو ما كثف حركة المرور والمشاة باتجاه المركز، باعتبار المسجد النبوي نقطة جاذبة، مما يسبب الازدحام المتواصل، الذي يتحول إلى أزمات خانقة في أوقات الذروة.
كان من الممكن المحافظة على المحور الذي ربط المسجد النبوي من الشرق مع سوق المناخة في الوسط، ومن ثم محطة سكة حديد الحجاز، التي وُضعت في أقصى نقطة غربية من هذا المحور. فبدلاً من حصر الحركة البشرية والمرورية في دائرة تضيق كلما اقتربنا من المركز، يخفف الشكل المحوري من اكتظاظ الحركة، بحيث تتوزع على طول المحور، كلما دعت الحاجة، ليستوعبها النسيج العمراني، وتخف وطأة التزاحم.
- مكة المكرمة
شهدت أعداد الحجاج السنوية قفزة لافتة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى وصلت إلى 3 ملايين حاج، كما حصل في عام 2012، بعد أن كانت تقارب المائة ألف فقط في بداية خمسينات القرن الماضي، ثم تصاعدت إلى أن وصل العدد إلى ما يقارب مليون حاج بحلول منتصف السبعينات الميلادية.
حالياً، تقف مكة المكرمة أمام تحديات تؤثر في نسيجها العمراني تأثيراً مباشراً، وأهمها الزيادة السكانية، ومحدودية المكان، حيث تستقبل موجة سنوية من ملايين الحجاج والمعتمرين في فترات محدودة، بالإضافة إلى السكان المحليين الذين تزايدت أعدادهم خلال العقدين الماضيين، لتصل إلى أكثر من مليون ونصف المليون نسمة، حسب إحصاء عام 2010. كما أن هناك شريحة سكانية يصعب حصرها، وهم المقيمون بصورة غير نظامية، خصوصاً ممن أتى للعمرة أو الحج ولم يغادر بعدها. ومن المقرر مستقبلاً، حسب خطة التحول الوطني 2020، زيادة أعداد المعتمرين إلى 15 مليون معتمر سنوياً، مقارنة بالرقم الحالي الذي يتراوح بين 6 و8 ملايين معتمر سنوياً.
وفي مقابل هذه الأعداد المتزايدة من الحجاج والسكان والمقيمين، يبرز تحدٍ آخر، هو صعوبة التضاريس الجغرافية.
في الوقت الحاضر، اختلفت صورة مكة المكرمة تماماً، بعد تضائل معظم المعالم العمرانية والطبيعية ذات القيمة التاريخية في مواجهة غير متكافئة مع طوفان التطوير العقاري الذي تناثرت مشاريعه هنا وهناك عبر الأودية والتضاريس الجبلية، فيما يشبه «الأرخبيل العمراني». هذا التباين الواسع بين هوية المكان التاريخية والنمط العمراني المنتشر حالياً يلقي بمسؤولية عظيمة على كاهل كل الأطراف المعنية، من مستخدمين ومخططين وملاك وجهات تنظيمية، فيما تتخذه من خطوات مستقبلية. وهنا أيضاً تقع مسؤولية مشتركة على دول المصدر، في مراعاة الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة في موسم الحج والعمرة، إن أردنا السير بخطى ذات جدوى في حفظ ما بقي من التراث الإنساني والطبيعي لمكة المكرمة للأجيال المقبلة، ومنعه من الاندثار الكامل تحت وطأة الاستخدام المفرط.
وتدل كل المؤشرات على أن تدفق الحجاج والمعتمرين والزوار سيزيد في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهو ما سيؤدي إلى المزيد من تآكل النسيج العمراني التراثي، في ظل الاستخدام المفرط، إن لم تتخذ التدابير والسياسات اللازمة لتنظيمه.
أصبحت المناطق المركزية في مكة المكرمة والمدينة المنورة من أغلى الأسواق العقارية في المنطقة، مما يستوجب كبح جماح هذا الاتجاه مستقبليا.
هذا التزاحم التجاري على أعتاب البقاع المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة يثير كثيراً من التساؤلات، فهي مناطق في غاية الحساسية الروحية والاجتماعية، وكل حرم، سواء في مكة أو المدينة، له مركز وحدود معروفة. وعند تحليل الكثافة العمرانية في الحرمين، نجد أنها أكثر ما تكون في المناطق الملاصقة مباشرة لمركز الحرم، سواء في مكة أو المدينة، مما زاد من الاستقطاب الشديد بين مركز المدينة وأطرافها. وكان من الأنجع - ربما مستقبلاً - تخفيف الكثافة العمرانية حول مركز الحرم، وتوزيع الاستخدامات بشكل متوازن على الأطراف، ومن ثم الاستعانه بأنظمة النقل العام والمكوكي لوصل حدود الحرم بمركزه.
ومع تسارع عملية التنمية في المدينتين المقدستين، تبرز أهمية وضع سياسات للمحافظة على الهوية العمرانية والثقافية فيهما، خصوصاً أن خطط التحول الوطني 2020، والرؤية الوطنية 2030، تحمل في طياتها تصورات طموحة لزيادة الطاقة الاستيعابية في مكة والمدينة، وفتح المجال لاستضافة أعداد أكبر من الحجاج والمعتمرين. وفي الوقت الحاضر، أصبحت قيمة المكان الثقافية من محركات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لذلك فإن دفع هذه العملية التنموية للأمام لا يتأتى إلا بالمحافظة على الشواهد المادية والمعنوية، من أجل تنمية متوازنة ومستدامة في الحاضر والمستقبل.


مقالات ذات صلة

السعودية تودّع آخر طلائع الحجاج عبر مطار المدينة المنورة

الخليج 7700 رحلة جوية عبر 6 مطارات نقلت حجاج الخارج إلى السعودية لأداء فريضة الحج (واس)

السعودية تودّع آخر طلائع الحجاج عبر مطار المدينة المنورة

غادر أراضي السعودية، الأحد، آخر فوج من حجاج العام الهجري المنصرم 1445هـ، على «الخطوط السعودية» من مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي في المدينة المنورة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد صورة للطرفين عقب توقيع الاتفاقية (مجموعة السعودية)

«مجموعة السعودية» توقّع صفقة لشراء 100 طائرة كهربائية

وقّعت «مجموعة السعودية» مع شركة «ليليوم» الألمانية، المتخصصة في صناعة «التاكسي الطائر»، صفقة لشراء 100 مركبة طائرة كهربائية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الثوب الأغلى في العالم بحلته الجديدة يكسو الكعبة المشرفة في المسجد الحرام بمكة المكرمة (هيئة العناية بشؤون الحرمين)

«الكعبة المشرفة» تتزين بالثوب الأنفس في العالم بحلته الجديدة

ارتدت الكعبة المشرفة ثوبها الجديد، الأحد، جرياً على العادة السنوية من كل عام هجري على يد 159 صانعاً وحرفياً سعودياً مدربين ومؤهلين علمياً وعملياً.

إبراهيم القرشي (جدة)
الخليج 
«اعتدال» و«تلغرام» يتعاونان منذ عام 2022 على الوقاية ومكافحة الإرهاب والتطرف العنيف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» و«تلغرام» يزيلان خلال الحج مليوني محتوى «متطرف»

تمكّن «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف» (اعتدال)، ومنصة «تلغرام» خلال موسم الحج للعام الحالي، من إزالة أكثر من مليونَي محتوى متطرف، ورصد الجانبان ازدياداً.

غازي الحارثي (الرياض)
الخليج الأمير محمد بن سلمان لدى ترؤسه جلسة مجلس الوزراء في جدة (واس)

ولي العهد السعودي يقدّر الجهود والأعمال المميزة خلال موسم الحج

أعرب الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، الثلاثاء، عن تقديره لما بُذل من جهود مباركة وأعمال مميزة خلال موسم الحج لهذا العام.

«الشرق الأوسط» (جدة)

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
TT

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)

كشف المستشار تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية، الأربعاء، عن أعضاء لجنة «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، والتي تهدف إلى إثراء صناعة السينما بالمنطقة، ودعم المواهب الإبداعية في كتابة الرواية من جميع الجنسيات والأعمار.
وتَشكَّلت لجنة الجائزة من أعضاء يملكون خبرات واسعة في مجالات الأدب، والكتابة السينمائية، والإنتاج والإخراج السينمائي، حيث جاءت برئاسة الأديب والروائي السعودي الدكتور سعد البازعي، والروائي والمترجم والسيناريست السعودي عبد الله بن بخيت نائباً له.

وتضم اللجنة في عضويتها كلاً من الكاتب والروائي السعودي عبده خال، والروائي الكويتي سعود السنعوسي، والروائي المصري أحمد مراد، والروائية السعودية الدكتورة بدرية البشر، والكاتب والسيناريست السعودي مفرج المجفل، والكاتب والسيناريست المصري صلاح الجهيني، والناقد السينمائي المصري طارق الشناوي، والسيناريست المصري شريف نجيب، والخبير عدنان كيال مستشار مجلس إدارة هيئة الترفيه، وكاتبة السيناريو المصرية مريم نعوم، والمخرج المصري محمد خضير، والمنتج السينمائي المصري أحمد بدوي، والمخرج المصري خيري بشارة، والمنتج اللبناني صادق الصباح، والمخرج السينمائي المصري مروان حامد، والمخرج والمنتج السينمائي السعودي عبد الإله القرشي، والكاتب والسيناريست المسرحي السعودي ياسر مدخلي، والكاتب والروائي المصري تامر إبراهيم.

وتركز الجائزة على الروايات الأكثر جماهيرية وقابلية لتحويلها إلى أعمال سينمائية، مقسمة على مجموعة مسارات؛ أبرزها مسار «الجوائز الكبرى»، حيث ستُحوَّل الروايتان الفائزتان بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين، ويُمْنح صاحب المركز الأول مبلغ 100 ألف دولار، والثاني 50 ألف دولار، والثالث 30 ألف دولار.

ويشمل مسار «الرواية» فئات عدة، هي أفضل روايات «تشويق وإثارة» و«كوميدية» و«غموض وجريمة»، و«فانتازيا» و«رعب» و«تاريخية»، و«رومانسية» و«واقعية»، حيث يحصل المركز الأول على مبلغ 25 ألف دولار عن كل فئة بإجمالي 200 ألف دولار لكل الفئات.
وسيحوّل مسار «أفضل سيناريو مقدم من عمل أدبي» العملين الفائزين بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين سينمائيين مع مبلغ 100 ألف دولار للأول، و50 ألف دولار للثاني، و30 ألف دولار للثالث.
وتتضمن المسابقة جوائز إضافية أخرى، حيث سيحصل أفضل عمل روائي مترجم على جائزة قدرها 100 ألف دولار، وأفضل ناشر عربي 50 ألف دولار، بينما يُمنح الفائز «جائزة الجمهور» مبلغ 30 ألف دولار، وذلك بالتصويت عبر المنصة الإلكترونية المخصصة.