نفي «الاختلاف» عند جماعات التطرف العنيف

من «داعش» إلى «القاعدة»

يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
TT

نفي «الاختلاف» عند جماعات التطرف العنيف

يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)

إنقسم الخوارج لأكثر من عشرين فرقة، أكل بعضها بعضاً، وأخرجت كل فرقة مغالية من يزايد عليها أكثر من غلوائها وصار تعبير «غلاة الغلاة» بشيرا بنهاية الغلاة، لكن آذان الغلو لا تسمعه أو تستمع لنذيره عليهم. كان الانقسام والتشظي والخلاف الحاد والواسع أوضح في خطابات جماعات التطرف، والتطرف العنيف من سواه، وكان سبابهم فيما بينهم أقدح وأفظع من انتقادات مغايريهم وآخريهم من التيارات المدنية أو النقدية دائما. إن «معقولية التنوع» ومبدئية الاجتهاد وفريضته شرط رئيس لرشادة الاختلاف وإمكانات التوافق والتكيف والتحالف، ولكن معقولية «التغلب والدمج والتوحيد القسري» تأبى وعيا - ولا وعيا - إمكانات الاختلاف وممكناته وتنفيه، ليواجه التكفير الديني أو الوطني والسياسي عند بزوغه وولادته.

ربما يصح تفسيرا لحالة الاختلاف ومنهجية التكفير المكينة في خطابات التطرف العنيف، أن الآيديولوجيات المصمتة والأنساق الفكرية المغلقة تشبه القنابل الانشطارية التي تنفجر ذاتيا، بصراع مكوناتها مع الوقت سريعا، وحسب درجة وحرارة الانغلاق والتعصب يكون العنف البيني والخارجي، وتبدو إدارة الاختلاف والتوافق بينها شبه مستحيلة في أغلب الأحيان.
بناءً على هذه القاعدة، يمكن تفهم الانقسامات والإنشطارات الواسعة داخل تيارات وتنظيمات اليسار والقوميين عربيا وعالميا، وصعوبة «التجمع والتوافق» فيما بينها، منذ بدايات نشأتها وحتى الآن، لكن ظاهرة الانقسام والتشظي تتضح وتتأكد أكثر في ظاهرة «التطرف العنيف» وجماعاته الراهنة من القاعدة وفروعها إلى «داعش» وولاياتها، وفي إدارة الاختلافات داخل كل منها، التي وصلت للتكفير المتبادل بين الرفقاء دائما، سواء في إدارة الخلافات داخل التنظيم الواحد، أو بينه وبين غيره من التنظيمات.
وهكذا تثمر الشجرة الخبيثة فروعا تقتلها وتأكلها، وتستمد شرعيتها من قتلها وتشويهها، فيما يشبه «قتل الأب» هذه الأسطورة الفرويدية صحيحة تماما في قراءة صراعات الإسلاميين واختلافاتهم، حيث يكون احتكار الشرعية وأحاديتها سمت كل جماعة في وجه مخالفيها وآخريها، وبخاصة الأقربون منها والأشباه بها المنافسون لها في تصور الشرعية وجاذبية الجماهير والتجنيد.
كما احتكرت جماعة الإخوان ردحا طويلا من الزمن ريادة وقيادة الحركات المتطرفة الأخرى، ومعها الأمة، طريقا لدعواها في أستاذية العالم، لم ير فيها الجهاديون المصريون إلا تناقضا وخيانة وحصادا مرا، كما كتب أيمن الظواهري في طبعته الأولى من كتابه «الحصاد المر: سبعون عاما من تاريخ الإخوان»، الذي التقى فيه ووافق واستلهم ما كتبه المؤرخ والسياسي اليساري الدكتور رفعت السعيد الذي رحل عن عالمنا قبل أيام في سلسلته عن التاريخ المضاد لـ«الإخوان» ومنهجية ما سماه «التأسلم» الذي بدأته هذه الجماعة معتمدا على مصادرها ووثائقها قبل أن يعتمد على رأيه أو رؤيته فيها التي اشتدت واستمرت مع الوقت حتى وفاته.
بالمقابل، اعتبرت «القاعدة» جماعة «الإخوان» وا»لسرورية» و«حزب التحرير» وغيرها خيانة، واكتظ باب «الفرق» في موقع أبي محمد المقدسي بكتابات كثيرة ضدهم، وصفهم فيها أمثال أبي قتادة الفلسطيني بمرجئة العصر، وقاديانية التشدد، ووصفهم أبو بكر ناجي صاحب «إدارة التوحش» في كتابه السابق عليه «الخونة» بالخيانة والعمالة، ومعهم كثيرون محسوبون على التيارات الإسلاموية.
وبعيدا عن الجدل السياسي والمدني السائر، وبعيدا عن ذرائعية الإخوان وتعدد خطاباتهم، يبدو أنه استقرت في خطاب التطرف وتمثلاته الراهنة الصورة السلبية للانتماء لـ«الإخوان» والنسبة إليهم، وتعني وترادف الكثير من السوءات الأخلاقية في سلوك الإسلاميين.
مثالا على ذلك، ففي الخطاب الداعشي المعاصر، يبدو الوصف بـ«الإخونج»، أشد وقعا وأعظم إهانة على العنصر المتطرف كالظواهري والقاعدة من وصفه بأي وصف آخر، رغم محاولات جماعة الإخوان الدائمة توظيف حالة التطرف العنيف وفوضاه وعملياتها لصالحها، ورغم أنها تعد أم حركات الإسلام السياسي، التي خرج سواها من عباءتها، أو تأثرا بأفكارها أو تجربتها.
ونؤكد أن هذا الوصف لا يحمل لدى المتطرفين دلالة ريادة أو اعتدال أو مرونة، بل يعني عندهم انحراف المنهج، وخيانة الأهداف والتزام التقية، وعدم الإخلاص للمبادئ والالتفاف عليها، فهو سبة وتهمة كبيرة يتداولها الأصوليون وعناصر التطرف العنيف في عالمهم الخاص وجدالاتهم التي ينتفي فيها أي تأثير لـ«الإخوان»، الذين يعانون فقرا نظريا وشرعيا واضحا، أو المتعاطفون معهم، وإن حاولوا توظيفه دائما لصالحهم والارتباط بعلاقات قوية مع بعض تنظيماته.
كذلك، يصف الدواعش القاعدة الآن بـ«قاعدة المخازي»، ويصفون الظواهري بأوصاف لم يصفه بها من قبل أحد من منتقديه أو معارضيه، سواء من الإسلاميين أو من غيرهم، تجاوزوا بها الإهانات السابقة من قبيل أنه «رجل فقد ظله» أو أن القاعدة «أبناء الرافضة» التي كان يرددها أمثال كبير شرعيي «داعش» تركي البنعلي البحريني الذي سحبت جنسيته، في سجالاته النشطة بين عامي 2014 و2015 قبل اختفائه، حيث ارتفعت وعلت نبرة الاتهام صراحة لمستويات غير مسبوقة، فهو الآن - حسب أحد كتاب «داعش» يدعى «أبو البراء الأنصاري» - يوصف الظواهري ب«الضال والضلالة والعمالة».
وفي رسالة قصيرة للأنصاري المذكور رداً على أحد منتقدي «داعش» والمنتمين السابقين لها، يسمى أبو حسام الأموي، ورد ذكر أيمن الظواهري ثلاث مرات، سبق اسمه فيها وصف الضال والضلالة، وعقب أسمه في المرة الثالثة بدعاء عليه - لا حفظه الله - رفضا للدعاء له.
وكما استمر أبو بصير الطرسوسي ينتقد الدواعش، وسبق لوصفهم بالخوارج عن سواه، وتبعه أبو قتادة الفلسطيني وزاد في إهانتهم فوصفهم بـ«البغدادية» وحكم في وجوههم بأنهم «كلاب أهل النار» في رسالة معروفة، رد عليها منظرهم تركي البنعلي في رسالته «الإفادة في الردة على أبي قتادة»، وكتب كذلك آخرون ضد وصفه لهم.
كما اتجه أبو محمد المقدسي اتجاه أبي قتادة في نقد «داعش»، ثم توسط قليلا، بعد اغتيال الشهيد معاذ الكساسبة، كما رد عليه آخرون، واتسعت الشقة بين الشيوخ والأتباع، واشتعلت الحرب الدعائية والدعاية المضادة بين الرفقاء؛ ولأنه لا مكان لخلاف كثيرا ما تحول وصف الخصم واتضح من مقام ووصف «الإمام والأمير المجاهد» لوصف «الكافر» والخائن والعميل وغيرها، في مشهد يجسد «متتابعة الغلو»، وأن الغلاة ينتجون وتتوالد من أفكارهم العنيفة أفكار أكثر تطرفا تزايد عليهم وتتهمهم بأكثر مما اتهموا به آخريهم، وهو ما نسميه «متتابعة الغلو» الناتجة من متاهة «الحاكمية» التي أسس لها الراحل سيد قطب وسلفنها وأعطاها بعدها السلفي سروريون، وخرج عنهم منظرو وشيوخ ما عرف «بالسلفية الجهادية»، رغم أن أبرز منظري التيار الجهادي وأسبقهم كتابة عبد القادر بن عبد العزيز يعتبر هذا اللفظ «بدعة» لم ترد ولم يسبق لها أي من كتب السلفية، ولم ترد لفظة «الحاكمية» مرة واحدة في كتابه «الجامع في طلب العلم الشريف» والثماني مجلدات التي ضمها.
وسنحاول فيما يلي العرض لحالة «التيار الحازمي» والتكفير داخل «داعش»، مما يعبر عن الاختلافات الحادة والقاطعة، ومنطق التكفير والقتل المعنوي والمادي في إدارة الاختلاف، الذي تمارسه «داعش» داخلها كما تمارسه ضد آخريها من القاعدة إلى غيرها؛ استدلالا على صحة هذه القاعدة الفكرية والمنهجية في متتابعة الغلو، وأن الغلواء والتعصب نار متقدة يأكل بعضها بعضا.
لم يكن أغرب خبر على السامعين من حملة وتكفير ما عرف بالتيار الحازمي داخل «داعش» لأكبر شرعيي التنظيم على الراحل تركي البنعلي الذي كان أبرز وأشد المدافعين عن «داعش» وخلافتها، وأول من كتب داعيا لـ«مد الأيادي لبيعة البغدادي» كما عنون رسالته.
كتب أساتذته وشيوخه السابقون، أمثال الأردني أبو محمد المقدسي، والمغربي أبو عمر الحدوشي في السابق محملين مسؤولية التعصب والغلواء على البنعلي، وأن لديه ميلا للخارجية والغلو، ولكن أخرج غلو البنعلي غلوا أكبر منه مثّله التيار الحازمي المذكور بزعامة التونسي أبو جعفر الحطاب الذي حكم أبو بكر البغدادي بقتله فيما بعد، بعدما استفحلت المشكلة ودبت الخلافات بين التيار الحازمي وسائر الداعشيين، بمن فيهم البغدادي الذي هدده الحطاب بالاستتابة وإلا القتل. واجتمع البغدادي سنة 2015 مع المقربين له من العراقيين والسوريين، وعرضوا على زعيم التيار وعناصره الاستتابة وإلا حكم بقتلهم، وكان الأخير، ولكن أحدث قتل (أبو جعفر محمود بن الحسين الحطاب) انقساما واضحا في صفوف الدواعش، وهم مجموعات يتبنون – بزعمهم – المسائل العلمية والمنهجية رغم جهلهم، حتى أنهم أطلقوا تحذيرا وتهديدا للبغدادي إن لم يتب ويتراجع فسيتم تكفيره والحكم عليه بالردة! ويتسمون بالتنطع والتعصب في أبسط المسائل التي لم يتأهلوا لها، ويكفرون على أبسط الأسباب بعضهم بعضا. وحسب حملة «السكينة» لتعزيز الوسطية في السعودية التي تابعت مداخلات وردود زعيم التيار الحازمي المقتول سنة 2015 ومشاركاته على الشبكة العنكبوتية قبل انضمامه إلى «داعش» وبعدها، والتي يتبين فيها أن أطروحاته كانت غاية في الغلو وجرأة في إطلاق التكفير مما رغب البغدادي وتنظيم داعش في استقطابه وتعيينه قاضيا مباشرة فور قدومه، لكنه انقلب عليهم وانقلبوا عليه وآلت الأمور إلى قتله. وقد أحدث مقتل الحطاب زعيم التيار الحازمي المذكور الكثير من البلبلة حينها بين عناصر «داعش»، وذكر مجموعة منهم ممن يشتغلون في كتيبة الإنترنت «تستدعوننا من بلداننا حتى تقتلونا، ونتكبد المهالك ونترك أهلنا وأعمالنا، ثم تتم تصفيتنا».


مقالات ذات صلة

تركيا: تحقيق ضد زعيم المعارضة لانتقاده اعتقال رئيس بلدية في إسطنبول

شؤون إقليمية زعيم المعارضة التركية رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال (من حسابه في «إكس»)

تركيا: تحقيق ضد زعيم المعارضة لانتقاده اعتقال رئيس بلدية في إسطنبول

فتح مكتب المدعي العام لمدينة إسطنبول تحقيقاً ضد زعيم المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال يتهمه بـ«إهانة موظف عمومي علناً بسبب أداء واجبه».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية المقاتلة الأميركية «إف - 16 بلوك 70» (موقع شركة لوكهيد مارتن)

تركيا تقلص صفقة «إف - 16» مع أميركا وتتحدث عن تطور يخص «إف - 35»

قرَّرت تركيا تقليص صفقة شراء مقاتلات «إف - 16» الأميركية في الوقت الذي أعلنت فيه أن أميركا أعادت تقييم موقفها من حصولها على مقاتلات «إف - 35» الشبحية

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».