نفي «الاختلاف» عند جماعات التطرف العنيف

من «داعش» إلى «القاعدة»

يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
TT

نفي «الاختلاف» عند جماعات التطرف العنيف

يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)

إنقسم الخوارج لأكثر من عشرين فرقة، أكل بعضها بعضاً، وأخرجت كل فرقة مغالية من يزايد عليها أكثر من غلوائها وصار تعبير «غلاة الغلاة» بشيرا بنهاية الغلاة، لكن آذان الغلو لا تسمعه أو تستمع لنذيره عليهم. كان الانقسام والتشظي والخلاف الحاد والواسع أوضح في خطابات جماعات التطرف، والتطرف العنيف من سواه، وكان سبابهم فيما بينهم أقدح وأفظع من انتقادات مغايريهم وآخريهم من التيارات المدنية أو النقدية دائما. إن «معقولية التنوع» ومبدئية الاجتهاد وفريضته شرط رئيس لرشادة الاختلاف وإمكانات التوافق والتكيف والتحالف، ولكن معقولية «التغلب والدمج والتوحيد القسري» تأبى وعيا - ولا وعيا - إمكانات الاختلاف وممكناته وتنفيه، ليواجه التكفير الديني أو الوطني والسياسي عند بزوغه وولادته.

ربما يصح تفسيرا لحالة الاختلاف ومنهجية التكفير المكينة في خطابات التطرف العنيف، أن الآيديولوجيات المصمتة والأنساق الفكرية المغلقة تشبه القنابل الانشطارية التي تنفجر ذاتيا، بصراع مكوناتها مع الوقت سريعا، وحسب درجة وحرارة الانغلاق والتعصب يكون العنف البيني والخارجي، وتبدو إدارة الاختلاف والتوافق بينها شبه مستحيلة في أغلب الأحيان.
بناءً على هذه القاعدة، يمكن تفهم الانقسامات والإنشطارات الواسعة داخل تيارات وتنظيمات اليسار والقوميين عربيا وعالميا، وصعوبة «التجمع والتوافق» فيما بينها، منذ بدايات نشأتها وحتى الآن، لكن ظاهرة الانقسام والتشظي تتضح وتتأكد أكثر في ظاهرة «التطرف العنيف» وجماعاته الراهنة من القاعدة وفروعها إلى «داعش» وولاياتها، وفي إدارة الاختلافات داخل كل منها، التي وصلت للتكفير المتبادل بين الرفقاء دائما، سواء في إدارة الخلافات داخل التنظيم الواحد، أو بينه وبين غيره من التنظيمات.
وهكذا تثمر الشجرة الخبيثة فروعا تقتلها وتأكلها، وتستمد شرعيتها من قتلها وتشويهها، فيما يشبه «قتل الأب» هذه الأسطورة الفرويدية صحيحة تماما في قراءة صراعات الإسلاميين واختلافاتهم، حيث يكون احتكار الشرعية وأحاديتها سمت كل جماعة في وجه مخالفيها وآخريها، وبخاصة الأقربون منها والأشباه بها المنافسون لها في تصور الشرعية وجاذبية الجماهير والتجنيد.
كما احتكرت جماعة الإخوان ردحا طويلا من الزمن ريادة وقيادة الحركات المتطرفة الأخرى، ومعها الأمة، طريقا لدعواها في أستاذية العالم، لم ير فيها الجهاديون المصريون إلا تناقضا وخيانة وحصادا مرا، كما كتب أيمن الظواهري في طبعته الأولى من كتابه «الحصاد المر: سبعون عاما من تاريخ الإخوان»، الذي التقى فيه ووافق واستلهم ما كتبه المؤرخ والسياسي اليساري الدكتور رفعت السعيد الذي رحل عن عالمنا قبل أيام في سلسلته عن التاريخ المضاد لـ«الإخوان» ومنهجية ما سماه «التأسلم» الذي بدأته هذه الجماعة معتمدا على مصادرها ووثائقها قبل أن يعتمد على رأيه أو رؤيته فيها التي اشتدت واستمرت مع الوقت حتى وفاته.
بالمقابل، اعتبرت «القاعدة» جماعة «الإخوان» وا»لسرورية» و«حزب التحرير» وغيرها خيانة، واكتظ باب «الفرق» في موقع أبي محمد المقدسي بكتابات كثيرة ضدهم، وصفهم فيها أمثال أبي قتادة الفلسطيني بمرجئة العصر، وقاديانية التشدد، ووصفهم أبو بكر ناجي صاحب «إدارة التوحش» في كتابه السابق عليه «الخونة» بالخيانة والعمالة، ومعهم كثيرون محسوبون على التيارات الإسلاموية.
وبعيدا عن الجدل السياسي والمدني السائر، وبعيدا عن ذرائعية الإخوان وتعدد خطاباتهم، يبدو أنه استقرت في خطاب التطرف وتمثلاته الراهنة الصورة السلبية للانتماء لـ«الإخوان» والنسبة إليهم، وتعني وترادف الكثير من السوءات الأخلاقية في سلوك الإسلاميين.
مثالا على ذلك، ففي الخطاب الداعشي المعاصر، يبدو الوصف بـ«الإخونج»، أشد وقعا وأعظم إهانة على العنصر المتطرف كالظواهري والقاعدة من وصفه بأي وصف آخر، رغم محاولات جماعة الإخوان الدائمة توظيف حالة التطرف العنيف وفوضاه وعملياتها لصالحها، ورغم أنها تعد أم حركات الإسلام السياسي، التي خرج سواها من عباءتها، أو تأثرا بأفكارها أو تجربتها.
ونؤكد أن هذا الوصف لا يحمل لدى المتطرفين دلالة ريادة أو اعتدال أو مرونة، بل يعني عندهم انحراف المنهج، وخيانة الأهداف والتزام التقية، وعدم الإخلاص للمبادئ والالتفاف عليها، فهو سبة وتهمة كبيرة يتداولها الأصوليون وعناصر التطرف العنيف في عالمهم الخاص وجدالاتهم التي ينتفي فيها أي تأثير لـ«الإخوان»، الذين يعانون فقرا نظريا وشرعيا واضحا، أو المتعاطفون معهم، وإن حاولوا توظيفه دائما لصالحهم والارتباط بعلاقات قوية مع بعض تنظيماته.
كذلك، يصف الدواعش القاعدة الآن بـ«قاعدة المخازي»، ويصفون الظواهري بأوصاف لم يصفه بها من قبل أحد من منتقديه أو معارضيه، سواء من الإسلاميين أو من غيرهم، تجاوزوا بها الإهانات السابقة من قبيل أنه «رجل فقد ظله» أو أن القاعدة «أبناء الرافضة» التي كان يرددها أمثال كبير شرعيي «داعش» تركي البنعلي البحريني الذي سحبت جنسيته، في سجالاته النشطة بين عامي 2014 و2015 قبل اختفائه، حيث ارتفعت وعلت نبرة الاتهام صراحة لمستويات غير مسبوقة، فهو الآن - حسب أحد كتاب «داعش» يدعى «أبو البراء الأنصاري» - يوصف الظواهري ب«الضال والضلالة والعمالة».
وفي رسالة قصيرة للأنصاري المذكور رداً على أحد منتقدي «داعش» والمنتمين السابقين لها، يسمى أبو حسام الأموي، ورد ذكر أيمن الظواهري ثلاث مرات، سبق اسمه فيها وصف الضال والضلالة، وعقب أسمه في المرة الثالثة بدعاء عليه - لا حفظه الله - رفضا للدعاء له.
وكما استمر أبو بصير الطرسوسي ينتقد الدواعش، وسبق لوصفهم بالخوارج عن سواه، وتبعه أبو قتادة الفلسطيني وزاد في إهانتهم فوصفهم بـ«البغدادية» وحكم في وجوههم بأنهم «كلاب أهل النار» في رسالة معروفة، رد عليها منظرهم تركي البنعلي في رسالته «الإفادة في الردة على أبي قتادة»، وكتب كذلك آخرون ضد وصفه لهم.
كما اتجه أبو محمد المقدسي اتجاه أبي قتادة في نقد «داعش»، ثم توسط قليلا، بعد اغتيال الشهيد معاذ الكساسبة، كما رد عليه آخرون، واتسعت الشقة بين الشيوخ والأتباع، واشتعلت الحرب الدعائية والدعاية المضادة بين الرفقاء؛ ولأنه لا مكان لخلاف كثيرا ما تحول وصف الخصم واتضح من مقام ووصف «الإمام والأمير المجاهد» لوصف «الكافر» والخائن والعميل وغيرها، في مشهد يجسد «متتابعة الغلو»، وأن الغلاة ينتجون وتتوالد من أفكارهم العنيفة أفكار أكثر تطرفا تزايد عليهم وتتهمهم بأكثر مما اتهموا به آخريهم، وهو ما نسميه «متتابعة الغلو» الناتجة من متاهة «الحاكمية» التي أسس لها الراحل سيد قطب وسلفنها وأعطاها بعدها السلفي سروريون، وخرج عنهم منظرو وشيوخ ما عرف «بالسلفية الجهادية»، رغم أن أبرز منظري التيار الجهادي وأسبقهم كتابة عبد القادر بن عبد العزيز يعتبر هذا اللفظ «بدعة» لم ترد ولم يسبق لها أي من كتب السلفية، ولم ترد لفظة «الحاكمية» مرة واحدة في كتابه «الجامع في طلب العلم الشريف» والثماني مجلدات التي ضمها.
وسنحاول فيما يلي العرض لحالة «التيار الحازمي» والتكفير داخل «داعش»، مما يعبر عن الاختلافات الحادة والقاطعة، ومنطق التكفير والقتل المعنوي والمادي في إدارة الاختلاف، الذي تمارسه «داعش» داخلها كما تمارسه ضد آخريها من القاعدة إلى غيرها؛ استدلالا على صحة هذه القاعدة الفكرية والمنهجية في متتابعة الغلو، وأن الغلواء والتعصب نار متقدة يأكل بعضها بعضا.
لم يكن أغرب خبر على السامعين من حملة وتكفير ما عرف بالتيار الحازمي داخل «داعش» لأكبر شرعيي التنظيم على الراحل تركي البنعلي الذي كان أبرز وأشد المدافعين عن «داعش» وخلافتها، وأول من كتب داعيا لـ«مد الأيادي لبيعة البغدادي» كما عنون رسالته.
كتب أساتذته وشيوخه السابقون، أمثال الأردني أبو محمد المقدسي، والمغربي أبو عمر الحدوشي في السابق محملين مسؤولية التعصب والغلواء على البنعلي، وأن لديه ميلا للخارجية والغلو، ولكن أخرج غلو البنعلي غلوا أكبر منه مثّله التيار الحازمي المذكور بزعامة التونسي أبو جعفر الحطاب الذي حكم أبو بكر البغدادي بقتله فيما بعد، بعدما استفحلت المشكلة ودبت الخلافات بين التيار الحازمي وسائر الداعشيين، بمن فيهم البغدادي الذي هدده الحطاب بالاستتابة وإلا القتل. واجتمع البغدادي سنة 2015 مع المقربين له من العراقيين والسوريين، وعرضوا على زعيم التيار وعناصره الاستتابة وإلا حكم بقتلهم، وكان الأخير، ولكن أحدث قتل (أبو جعفر محمود بن الحسين الحطاب) انقساما واضحا في صفوف الدواعش، وهم مجموعات يتبنون – بزعمهم – المسائل العلمية والمنهجية رغم جهلهم، حتى أنهم أطلقوا تحذيرا وتهديدا للبغدادي إن لم يتب ويتراجع فسيتم تكفيره والحكم عليه بالردة! ويتسمون بالتنطع والتعصب في أبسط المسائل التي لم يتأهلوا لها، ويكفرون على أبسط الأسباب بعضهم بعضا. وحسب حملة «السكينة» لتعزيز الوسطية في السعودية التي تابعت مداخلات وردود زعيم التيار الحازمي المقتول سنة 2015 ومشاركاته على الشبكة العنكبوتية قبل انضمامه إلى «داعش» وبعدها، والتي يتبين فيها أن أطروحاته كانت غاية في الغلو وجرأة في إطلاق التكفير مما رغب البغدادي وتنظيم داعش في استقطابه وتعيينه قاضيا مباشرة فور قدومه، لكنه انقلب عليهم وانقلبوا عليه وآلت الأمور إلى قتله. وقد أحدث مقتل الحطاب زعيم التيار الحازمي المذكور الكثير من البلبلة حينها بين عناصر «داعش»، وذكر مجموعة منهم ممن يشتغلون في كتيبة الإنترنت «تستدعوننا من بلداننا حتى تقتلونا، ونتكبد المهالك ونترك أهلنا وأعمالنا، ثم تتم تصفيتنا».


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.