نفي «الاختلاف» عند جماعات التطرف العنيف

من «داعش» إلى «القاعدة»

يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
TT

نفي «الاختلاف» عند جماعات التطرف العنيف

يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)

إنقسم الخوارج لأكثر من عشرين فرقة، أكل بعضها بعضاً، وأخرجت كل فرقة مغالية من يزايد عليها أكثر من غلوائها وصار تعبير «غلاة الغلاة» بشيرا بنهاية الغلاة، لكن آذان الغلو لا تسمعه أو تستمع لنذيره عليهم. كان الانقسام والتشظي والخلاف الحاد والواسع أوضح في خطابات جماعات التطرف، والتطرف العنيف من سواه، وكان سبابهم فيما بينهم أقدح وأفظع من انتقادات مغايريهم وآخريهم من التيارات المدنية أو النقدية دائما. إن «معقولية التنوع» ومبدئية الاجتهاد وفريضته شرط رئيس لرشادة الاختلاف وإمكانات التوافق والتكيف والتحالف، ولكن معقولية «التغلب والدمج والتوحيد القسري» تأبى وعيا - ولا وعيا - إمكانات الاختلاف وممكناته وتنفيه، ليواجه التكفير الديني أو الوطني والسياسي عند بزوغه وولادته.

ربما يصح تفسيرا لحالة الاختلاف ومنهجية التكفير المكينة في خطابات التطرف العنيف، أن الآيديولوجيات المصمتة والأنساق الفكرية المغلقة تشبه القنابل الانشطارية التي تنفجر ذاتيا، بصراع مكوناتها مع الوقت سريعا، وحسب درجة وحرارة الانغلاق والتعصب يكون العنف البيني والخارجي، وتبدو إدارة الاختلاف والتوافق بينها شبه مستحيلة في أغلب الأحيان.
بناءً على هذه القاعدة، يمكن تفهم الانقسامات والإنشطارات الواسعة داخل تيارات وتنظيمات اليسار والقوميين عربيا وعالميا، وصعوبة «التجمع والتوافق» فيما بينها، منذ بدايات نشأتها وحتى الآن، لكن ظاهرة الانقسام والتشظي تتضح وتتأكد أكثر في ظاهرة «التطرف العنيف» وجماعاته الراهنة من القاعدة وفروعها إلى «داعش» وولاياتها، وفي إدارة الاختلافات داخل كل منها، التي وصلت للتكفير المتبادل بين الرفقاء دائما، سواء في إدارة الخلافات داخل التنظيم الواحد، أو بينه وبين غيره من التنظيمات.
وهكذا تثمر الشجرة الخبيثة فروعا تقتلها وتأكلها، وتستمد شرعيتها من قتلها وتشويهها، فيما يشبه «قتل الأب» هذه الأسطورة الفرويدية صحيحة تماما في قراءة صراعات الإسلاميين واختلافاتهم، حيث يكون احتكار الشرعية وأحاديتها سمت كل جماعة في وجه مخالفيها وآخريها، وبخاصة الأقربون منها والأشباه بها المنافسون لها في تصور الشرعية وجاذبية الجماهير والتجنيد.
كما احتكرت جماعة الإخوان ردحا طويلا من الزمن ريادة وقيادة الحركات المتطرفة الأخرى، ومعها الأمة، طريقا لدعواها في أستاذية العالم، لم ير فيها الجهاديون المصريون إلا تناقضا وخيانة وحصادا مرا، كما كتب أيمن الظواهري في طبعته الأولى من كتابه «الحصاد المر: سبعون عاما من تاريخ الإخوان»، الذي التقى فيه ووافق واستلهم ما كتبه المؤرخ والسياسي اليساري الدكتور رفعت السعيد الذي رحل عن عالمنا قبل أيام في سلسلته عن التاريخ المضاد لـ«الإخوان» ومنهجية ما سماه «التأسلم» الذي بدأته هذه الجماعة معتمدا على مصادرها ووثائقها قبل أن يعتمد على رأيه أو رؤيته فيها التي اشتدت واستمرت مع الوقت حتى وفاته.
بالمقابل، اعتبرت «القاعدة» جماعة «الإخوان» وا»لسرورية» و«حزب التحرير» وغيرها خيانة، واكتظ باب «الفرق» في موقع أبي محمد المقدسي بكتابات كثيرة ضدهم، وصفهم فيها أمثال أبي قتادة الفلسطيني بمرجئة العصر، وقاديانية التشدد، ووصفهم أبو بكر ناجي صاحب «إدارة التوحش» في كتابه السابق عليه «الخونة» بالخيانة والعمالة، ومعهم كثيرون محسوبون على التيارات الإسلاموية.
وبعيدا عن الجدل السياسي والمدني السائر، وبعيدا عن ذرائعية الإخوان وتعدد خطاباتهم، يبدو أنه استقرت في خطاب التطرف وتمثلاته الراهنة الصورة السلبية للانتماء لـ«الإخوان» والنسبة إليهم، وتعني وترادف الكثير من السوءات الأخلاقية في سلوك الإسلاميين.
مثالا على ذلك، ففي الخطاب الداعشي المعاصر، يبدو الوصف بـ«الإخونج»، أشد وقعا وأعظم إهانة على العنصر المتطرف كالظواهري والقاعدة من وصفه بأي وصف آخر، رغم محاولات جماعة الإخوان الدائمة توظيف حالة التطرف العنيف وفوضاه وعملياتها لصالحها، ورغم أنها تعد أم حركات الإسلام السياسي، التي خرج سواها من عباءتها، أو تأثرا بأفكارها أو تجربتها.
ونؤكد أن هذا الوصف لا يحمل لدى المتطرفين دلالة ريادة أو اعتدال أو مرونة، بل يعني عندهم انحراف المنهج، وخيانة الأهداف والتزام التقية، وعدم الإخلاص للمبادئ والالتفاف عليها، فهو سبة وتهمة كبيرة يتداولها الأصوليون وعناصر التطرف العنيف في عالمهم الخاص وجدالاتهم التي ينتفي فيها أي تأثير لـ«الإخوان»، الذين يعانون فقرا نظريا وشرعيا واضحا، أو المتعاطفون معهم، وإن حاولوا توظيفه دائما لصالحهم والارتباط بعلاقات قوية مع بعض تنظيماته.
كذلك، يصف الدواعش القاعدة الآن بـ«قاعدة المخازي»، ويصفون الظواهري بأوصاف لم يصفه بها من قبل أحد من منتقديه أو معارضيه، سواء من الإسلاميين أو من غيرهم، تجاوزوا بها الإهانات السابقة من قبيل أنه «رجل فقد ظله» أو أن القاعدة «أبناء الرافضة» التي كان يرددها أمثال كبير شرعيي «داعش» تركي البنعلي البحريني الذي سحبت جنسيته، في سجالاته النشطة بين عامي 2014 و2015 قبل اختفائه، حيث ارتفعت وعلت نبرة الاتهام صراحة لمستويات غير مسبوقة، فهو الآن - حسب أحد كتاب «داعش» يدعى «أبو البراء الأنصاري» - يوصف الظواهري ب«الضال والضلالة والعمالة».
وفي رسالة قصيرة للأنصاري المذكور رداً على أحد منتقدي «داعش» والمنتمين السابقين لها، يسمى أبو حسام الأموي، ورد ذكر أيمن الظواهري ثلاث مرات، سبق اسمه فيها وصف الضال والضلالة، وعقب أسمه في المرة الثالثة بدعاء عليه - لا حفظه الله - رفضا للدعاء له.
وكما استمر أبو بصير الطرسوسي ينتقد الدواعش، وسبق لوصفهم بالخوارج عن سواه، وتبعه أبو قتادة الفلسطيني وزاد في إهانتهم فوصفهم بـ«البغدادية» وحكم في وجوههم بأنهم «كلاب أهل النار» في رسالة معروفة، رد عليها منظرهم تركي البنعلي في رسالته «الإفادة في الردة على أبي قتادة»، وكتب كذلك آخرون ضد وصفه لهم.
كما اتجه أبو محمد المقدسي اتجاه أبي قتادة في نقد «داعش»، ثم توسط قليلا، بعد اغتيال الشهيد معاذ الكساسبة، كما رد عليه آخرون، واتسعت الشقة بين الشيوخ والأتباع، واشتعلت الحرب الدعائية والدعاية المضادة بين الرفقاء؛ ولأنه لا مكان لخلاف كثيرا ما تحول وصف الخصم واتضح من مقام ووصف «الإمام والأمير المجاهد» لوصف «الكافر» والخائن والعميل وغيرها، في مشهد يجسد «متتابعة الغلو»، وأن الغلاة ينتجون وتتوالد من أفكارهم العنيفة أفكار أكثر تطرفا تزايد عليهم وتتهمهم بأكثر مما اتهموا به آخريهم، وهو ما نسميه «متتابعة الغلو» الناتجة من متاهة «الحاكمية» التي أسس لها الراحل سيد قطب وسلفنها وأعطاها بعدها السلفي سروريون، وخرج عنهم منظرو وشيوخ ما عرف «بالسلفية الجهادية»، رغم أن أبرز منظري التيار الجهادي وأسبقهم كتابة عبد القادر بن عبد العزيز يعتبر هذا اللفظ «بدعة» لم ترد ولم يسبق لها أي من كتب السلفية، ولم ترد لفظة «الحاكمية» مرة واحدة في كتابه «الجامع في طلب العلم الشريف» والثماني مجلدات التي ضمها.
وسنحاول فيما يلي العرض لحالة «التيار الحازمي» والتكفير داخل «داعش»، مما يعبر عن الاختلافات الحادة والقاطعة، ومنطق التكفير والقتل المعنوي والمادي في إدارة الاختلاف، الذي تمارسه «داعش» داخلها كما تمارسه ضد آخريها من القاعدة إلى غيرها؛ استدلالا على صحة هذه القاعدة الفكرية والمنهجية في متتابعة الغلو، وأن الغلواء والتعصب نار متقدة يأكل بعضها بعضا.
لم يكن أغرب خبر على السامعين من حملة وتكفير ما عرف بالتيار الحازمي داخل «داعش» لأكبر شرعيي التنظيم على الراحل تركي البنعلي الذي كان أبرز وأشد المدافعين عن «داعش» وخلافتها، وأول من كتب داعيا لـ«مد الأيادي لبيعة البغدادي» كما عنون رسالته.
كتب أساتذته وشيوخه السابقون، أمثال الأردني أبو محمد المقدسي، والمغربي أبو عمر الحدوشي في السابق محملين مسؤولية التعصب والغلواء على البنعلي، وأن لديه ميلا للخارجية والغلو، ولكن أخرج غلو البنعلي غلوا أكبر منه مثّله التيار الحازمي المذكور بزعامة التونسي أبو جعفر الحطاب الذي حكم أبو بكر البغدادي بقتله فيما بعد، بعدما استفحلت المشكلة ودبت الخلافات بين التيار الحازمي وسائر الداعشيين، بمن فيهم البغدادي الذي هدده الحطاب بالاستتابة وإلا القتل. واجتمع البغدادي سنة 2015 مع المقربين له من العراقيين والسوريين، وعرضوا على زعيم التيار وعناصره الاستتابة وإلا حكم بقتلهم، وكان الأخير، ولكن أحدث قتل (أبو جعفر محمود بن الحسين الحطاب) انقساما واضحا في صفوف الدواعش، وهم مجموعات يتبنون – بزعمهم – المسائل العلمية والمنهجية رغم جهلهم، حتى أنهم أطلقوا تحذيرا وتهديدا للبغدادي إن لم يتب ويتراجع فسيتم تكفيره والحكم عليه بالردة! ويتسمون بالتنطع والتعصب في أبسط المسائل التي لم يتأهلوا لها، ويكفرون على أبسط الأسباب بعضهم بعضا. وحسب حملة «السكينة» لتعزيز الوسطية في السعودية التي تابعت مداخلات وردود زعيم التيار الحازمي المقتول سنة 2015 ومشاركاته على الشبكة العنكبوتية قبل انضمامه إلى «داعش» وبعدها، والتي يتبين فيها أن أطروحاته كانت غاية في الغلو وجرأة في إطلاق التكفير مما رغب البغدادي وتنظيم داعش في استقطابه وتعيينه قاضيا مباشرة فور قدومه، لكنه انقلب عليهم وانقلبوا عليه وآلت الأمور إلى قتله. وقد أحدث مقتل الحطاب زعيم التيار الحازمي المذكور الكثير من البلبلة حينها بين عناصر «داعش»، وذكر مجموعة منهم ممن يشتغلون في كتيبة الإنترنت «تستدعوننا من بلداننا حتى تقتلونا، ونتكبد المهالك ونترك أهلنا وأعمالنا، ثم تتم تصفيتنا».


مقالات ذات صلة

تركيا: تحقيق ضد زعيم المعارضة لانتقاده اعتقال رئيس بلدية في إسطنبول

شؤون إقليمية زعيم المعارضة التركية رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال (من حسابه في «إكس»)

تركيا: تحقيق ضد زعيم المعارضة لانتقاده اعتقال رئيس بلدية في إسطنبول

فتح مكتب المدعي العام لمدينة إسطنبول تحقيقاً ضد زعيم المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال يتهمه بـ«إهانة موظف عمومي علناً بسبب أداء واجبه».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية المقاتلة الأميركية «إف - 16 بلوك 70» (موقع شركة لوكهيد مارتن)

تركيا تقلص صفقة «إف - 16» مع أميركا وتتحدث عن تطور يخص «إف - 35»

قرَّرت تركيا تقليص صفقة شراء مقاتلات «إف - 16» الأميركية في الوقت الذي أعلنت فيه أن أميركا أعادت تقييم موقفها من حصولها على مقاتلات «إف - 35» الشبحية

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».