نفي «الاختلاف» عند جماعات التطرف العنيف

من «داعش» إلى «القاعدة»

يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
TT

نفي «الاختلاف» عند جماعات التطرف العنيف

يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)
يصف الدواعش القاعدة بـ« قاعدة المخازي» ويصفون الظواهري «رجل فقد ظله» («الشرق الأوسط»)

إنقسم الخوارج لأكثر من عشرين فرقة، أكل بعضها بعضاً، وأخرجت كل فرقة مغالية من يزايد عليها أكثر من غلوائها وصار تعبير «غلاة الغلاة» بشيرا بنهاية الغلاة، لكن آذان الغلو لا تسمعه أو تستمع لنذيره عليهم. كان الانقسام والتشظي والخلاف الحاد والواسع أوضح في خطابات جماعات التطرف، والتطرف العنيف من سواه، وكان سبابهم فيما بينهم أقدح وأفظع من انتقادات مغايريهم وآخريهم من التيارات المدنية أو النقدية دائما. إن «معقولية التنوع» ومبدئية الاجتهاد وفريضته شرط رئيس لرشادة الاختلاف وإمكانات التوافق والتكيف والتحالف، ولكن معقولية «التغلب والدمج والتوحيد القسري» تأبى وعيا - ولا وعيا - إمكانات الاختلاف وممكناته وتنفيه، ليواجه التكفير الديني أو الوطني والسياسي عند بزوغه وولادته.

ربما يصح تفسيرا لحالة الاختلاف ومنهجية التكفير المكينة في خطابات التطرف العنيف، أن الآيديولوجيات المصمتة والأنساق الفكرية المغلقة تشبه القنابل الانشطارية التي تنفجر ذاتيا، بصراع مكوناتها مع الوقت سريعا، وحسب درجة وحرارة الانغلاق والتعصب يكون العنف البيني والخارجي، وتبدو إدارة الاختلاف والتوافق بينها شبه مستحيلة في أغلب الأحيان.
بناءً على هذه القاعدة، يمكن تفهم الانقسامات والإنشطارات الواسعة داخل تيارات وتنظيمات اليسار والقوميين عربيا وعالميا، وصعوبة «التجمع والتوافق» فيما بينها، منذ بدايات نشأتها وحتى الآن، لكن ظاهرة الانقسام والتشظي تتضح وتتأكد أكثر في ظاهرة «التطرف العنيف» وجماعاته الراهنة من القاعدة وفروعها إلى «داعش» وولاياتها، وفي إدارة الاختلافات داخل كل منها، التي وصلت للتكفير المتبادل بين الرفقاء دائما، سواء في إدارة الخلافات داخل التنظيم الواحد، أو بينه وبين غيره من التنظيمات.
وهكذا تثمر الشجرة الخبيثة فروعا تقتلها وتأكلها، وتستمد شرعيتها من قتلها وتشويهها، فيما يشبه «قتل الأب» هذه الأسطورة الفرويدية صحيحة تماما في قراءة صراعات الإسلاميين واختلافاتهم، حيث يكون احتكار الشرعية وأحاديتها سمت كل جماعة في وجه مخالفيها وآخريها، وبخاصة الأقربون منها والأشباه بها المنافسون لها في تصور الشرعية وجاذبية الجماهير والتجنيد.
كما احتكرت جماعة الإخوان ردحا طويلا من الزمن ريادة وقيادة الحركات المتطرفة الأخرى، ومعها الأمة، طريقا لدعواها في أستاذية العالم، لم ير فيها الجهاديون المصريون إلا تناقضا وخيانة وحصادا مرا، كما كتب أيمن الظواهري في طبعته الأولى من كتابه «الحصاد المر: سبعون عاما من تاريخ الإخوان»، الذي التقى فيه ووافق واستلهم ما كتبه المؤرخ والسياسي اليساري الدكتور رفعت السعيد الذي رحل عن عالمنا قبل أيام في سلسلته عن التاريخ المضاد لـ«الإخوان» ومنهجية ما سماه «التأسلم» الذي بدأته هذه الجماعة معتمدا على مصادرها ووثائقها قبل أن يعتمد على رأيه أو رؤيته فيها التي اشتدت واستمرت مع الوقت حتى وفاته.
بالمقابل، اعتبرت «القاعدة» جماعة «الإخوان» وا»لسرورية» و«حزب التحرير» وغيرها خيانة، واكتظ باب «الفرق» في موقع أبي محمد المقدسي بكتابات كثيرة ضدهم، وصفهم فيها أمثال أبي قتادة الفلسطيني بمرجئة العصر، وقاديانية التشدد، ووصفهم أبو بكر ناجي صاحب «إدارة التوحش» في كتابه السابق عليه «الخونة» بالخيانة والعمالة، ومعهم كثيرون محسوبون على التيارات الإسلاموية.
وبعيدا عن الجدل السياسي والمدني السائر، وبعيدا عن ذرائعية الإخوان وتعدد خطاباتهم، يبدو أنه استقرت في خطاب التطرف وتمثلاته الراهنة الصورة السلبية للانتماء لـ«الإخوان» والنسبة إليهم، وتعني وترادف الكثير من السوءات الأخلاقية في سلوك الإسلاميين.
مثالا على ذلك، ففي الخطاب الداعشي المعاصر، يبدو الوصف بـ«الإخونج»، أشد وقعا وأعظم إهانة على العنصر المتطرف كالظواهري والقاعدة من وصفه بأي وصف آخر، رغم محاولات جماعة الإخوان الدائمة توظيف حالة التطرف العنيف وفوضاه وعملياتها لصالحها، ورغم أنها تعد أم حركات الإسلام السياسي، التي خرج سواها من عباءتها، أو تأثرا بأفكارها أو تجربتها.
ونؤكد أن هذا الوصف لا يحمل لدى المتطرفين دلالة ريادة أو اعتدال أو مرونة، بل يعني عندهم انحراف المنهج، وخيانة الأهداف والتزام التقية، وعدم الإخلاص للمبادئ والالتفاف عليها، فهو سبة وتهمة كبيرة يتداولها الأصوليون وعناصر التطرف العنيف في عالمهم الخاص وجدالاتهم التي ينتفي فيها أي تأثير لـ«الإخوان»، الذين يعانون فقرا نظريا وشرعيا واضحا، أو المتعاطفون معهم، وإن حاولوا توظيفه دائما لصالحهم والارتباط بعلاقات قوية مع بعض تنظيماته.
كذلك، يصف الدواعش القاعدة الآن بـ«قاعدة المخازي»، ويصفون الظواهري بأوصاف لم يصفه بها من قبل أحد من منتقديه أو معارضيه، سواء من الإسلاميين أو من غيرهم، تجاوزوا بها الإهانات السابقة من قبيل أنه «رجل فقد ظله» أو أن القاعدة «أبناء الرافضة» التي كان يرددها أمثال كبير شرعيي «داعش» تركي البنعلي البحريني الذي سحبت جنسيته، في سجالاته النشطة بين عامي 2014 و2015 قبل اختفائه، حيث ارتفعت وعلت نبرة الاتهام صراحة لمستويات غير مسبوقة، فهو الآن - حسب أحد كتاب «داعش» يدعى «أبو البراء الأنصاري» - يوصف الظواهري ب«الضال والضلالة والعمالة».
وفي رسالة قصيرة للأنصاري المذكور رداً على أحد منتقدي «داعش» والمنتمين السابقين لها، يسمى أبو حسام الأموي، ورد ذكر أيمن الظواهري ثلاث مرات، سبق اسمه فيها وصف الضال والضلالة، وعقب أسمه في المرة الثالثة بدعاء عليه - لا حفظه الله - رفضا للدعاء له.
وكما استمر أبو بصير الطرسوسي ينتقد الدواعش، وسبق لوصفهم بالخوارج عن سواه، وتبعه أبو قتادة الفلسطيني وزاد في إهانتهم فوصفهم بـ«البغدادية» وحكم في وجوههم بأنهم «كلاب أهل النار» في رسالة معروفة، رد عليها منظرهم تركي البنعلي في رسالته «الإفادة في الردة على أبي قتادة»، وكتب كذلك آخرون ضد وصفه لهم.
كما اتجه أبو محمد المقدسي اتجاه أبي قتادة في نقد «داعش»، ثم توسط قليلا، بعد اغتيال الشهيد معاذ الكساسبة، كما رد عليه آخرون، واتسعت الشقة بين الشيوخ والأتباع، واشتعلت الحرب الدعائية والدعاية المضادة بين الرفقاء؛ ولأنه لا مكان لخلاف كثيرا ما تحول وصف الخصم واتضح من مقام ووصف «الإمام والأمير المجاهد» لوصف «الكافر» والخائن والعميل وغيرها، في مشهد يجسد «متتابعة الغلو»، وأن الغلاة ينتجون وتتوالد من أفكارهم العنيفة أفكار أكثر تطرفا تزايد عليهم وتتهمهم بأكثر مما اتهموا به آخريهم، وهو ما نسميه «متتابعة الغلو» الناتجة من متاهة «الحاكمية» التي أسس لها الراحل سيد قطب وسلفنها وأعطاها بعدها السلفي سروريون، وخرج عنهم منظرو وشيوخ ما عرف «بالسلفية الجهادية»، رغم أن أبرز منظري التيار الجهادي وأسبقهم كتابة عبد القادر بن عبد العزيز يعتبر هذا اللفظ «بدعة» لم ترد ولم يسبق لها أي من كتب السلفية، ولم ترد لفظة «الحاكمية» مرة واحدة في كتابه «الجامع في طلب العلم الشريف» والثماني مجلدات التي ضمها.
وسنحاول فيما يلي العرض لحالة «التيار الحازمي» والتكفير داخل «داعش»، مما يعبر عن الاختلافات الحادة والقاطعة، ومنطق التكفير والقتل المعنوي والمادي في إدارة الاختلاف، الذي تمارسه «داعش» داخلها كما تمارسه ضد آخريها من القاعدة إلى غيرها؛ استدلالا على صحة هذه القاعدة الفكرية والمنهجية في متتابعة الغلو، وأن الغلواء والتعصب نار متقدة يأكل بعضها بعضا.
لم يكن أغرب خبر على السامعين من حملة وتكفير ما عرف بالتيار الحازمي داخل «داعش» لأكبر شرعيي التنظيم على الراحل تركي البنعلي الذي كان أبرز وأشد المدافعين عن «داعش» وخلافتها، وأول من كتب داعيا لـ«مد الأيادي لبيعة البغدادي» كما عنون رسالته.
كتب أساتذته وشيوخه السابقون، أمثال الأردني أبو محمد المقدسي، والمغربي أبو عمر الحدوشي في السابق محملين مسؤولية التعصب والغلواء على البنعلي، وأن لديه ميلا للخارجية والغلو، ولكن أخرج غلو البنعلي غلوا أكبر منه مثّله التيار الحازمي المذكور بزعامة التونسي أبو جعفر الحطاب الذي حكم أبو بكر البغدادي بقتله فيما بعد، بعدما استفحلت المشكلة ودبت الخلافات بين التيار الحازمي وسائر الداعشيين، بمن فيهم البغدادي الذي هدده الحطاب بالاستتابة وإلا القتل. واجتمع البغدادي سنة 2015 مع المقربين له من العراقيين والسوريين، وعرضوا على زعيم التيار وعناصره الاستتابة وإلا حكم بقتلهم، وكان الأخير، ولكن أحدث قتل (أبو جعفر محمود بن الحسين الحطاب) انقساما واضحا في صفوف الدواعش، وهم مجموعات يتبنون – بزعمهم – المسائل العلمية والمنهجية رغم جهلهم، حتى أنهم أطلقوا تحذيرا وتهديدا للبغدادي إن لم يتب ويتراجع فسيتم تكفيره والحكم عليه بالردة! ويتسمون بالتنطع والتعصب في أبسط المسائل التي لم يتأهلوا لها، ويكفرون على أبسط الأسباب بعضهم بعضا. وحسب حملة «السكينة» لتعزيز الوسطية في السعودية التي تابعت مداخلات وردود زعيم التيار الحازمي المقتول سنة 2015 ومشاركاته على الشبكة العنكبوتية قبل انضمامه إلى «داعش» وبعدها، والتي يتبين فيها أن أطروحاته كانت غاية في الغلو وجرأة في إطلاق التكفير مما رغب البغدادي وتنظيم داعش في استقطابه وتعيينه قاضيا مباشرة فور قدومه، لكنه انقلب عليهم وانقلبوا عليه وآلت الأمور إلى قتله. وقد أحدث مقتل الحطاب زعيم التيار الحازمي المذكور الكثير من البلبلة حينها بين عناصر «داعش»، وذكر مجموعة منهم ممن يشتغلون في كتيبة الإنترنت «تستدعوننا من بلداننا حتى تقتلونا، ونتكبد المهالك ونترك أهلنا وأعمالنا، ثم تتم تصفيتنا».


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.