نادرا ما يكون من السهل التغلب على التحديات القوية التي يواجهها المشاهير في بريطانيا، ولا تنجو إلا قلة قليلة من هؤلاء المشاهير من اللوم والانتقادات، في حين ينجح عدد أقل في تجنب الاستسلام لمرارة تلك الانتقادات أو الحساسية المفرطة التي لا يعرفها سوى أولئك الذين تتصدر أخبار حياتهم الشخصية صدر صفحات الجرائد والمجلات.
وثمة استثناء لذلك، وهو القائد السابق للمنتخب الإنجليزي غاري لينيكر، الذي عاد الأسبوع الماضي لتقديم موسمه الثامن عشر من برنامجه «مباراة اليوم» أو «ماتش أوف ذا داي». ورغم أن لينيكر يقدم هذا البرنامج منذ سنوات طويلة، فلا يزال يحتفظ بحماسه الشديد وكأنه صبي صغير يسعى للبقاء دائما وأبدا في دائرة الضوء، حتى وإن كان ذلك عن طريقة السخرية اللاذعة، ولا يزال يحظى بحب شريحة كبيرة من الشعب البريطاني.
وخلال الشهر الماضي، وجد لينيكر نفسه محور حالة من الجدل الشديد عندما كشفت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن رواتب كبار موظفيها، حيث جاء لينيكر في المركز الثاني في قائمة الأعلى أجرا براتب سنوي بلغ 1.8 مليون جنيه إسترليني. وفي هذه الأيام الصعبة التي تشهد تجميدا لأجور البعض وفرض حالة من التقشف، يمكن لهذا الرقم الكبير أن يثير شعورا بالحسد، لا يمكن تفرقته في حقيقة الأمر عن شعور آخرين بالعداء الشديد للاعب السابق. لكن لينيكر قام بمناورة مميزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عندما كتب تغريدة على موقع «تويتر» يقول فيها: «الكشف عن رواتب العاملين في بي بي سي يثير شعورا بالغضب الشديد. أعني أنه كيف يحصل كريس إيفانز على راتب أعلى مني!».
وفي خطوة ذكية، تحدث لينيكر بشيء من السخرية عن حالة الجدل المثارة حول الرواتب المرتفعة ورفع من شأنه ومقداره وأقحم كريس إيفانز في الأمر. وفي الحقيقة، فإن الذكاء الذي أظهره لينيكر في تعامله مع هذا الأمر لا يختلف كثيرا عن مهاراته في كرة القدم عندما كان يسجل الأهداف بطريقة رائعة من داخل منطقة الست ياردات حتى وهو يسقط وفي حالة عدم اتزان.
وكان الهدف من ذلك هو أن يظهر لينيكر بمظهر اللاعب الذي ربما لا يتمتع بمهارة فائقة أو نادرة، لكنه دائما حاسم أمام مرمى الفرق المنافسة. وعلاوة على ذلك، لم يحصل لينيكر على أي بطاقة صفراء خلال مسيرته الطويلة في عالم كرة القدم على مدار 16 عاما. وكان دائما ما يقلل المنافسون من خطورته بسبب عدم شراسته وتعامله مع الآخرين بقوة، وهو ما كان يجعله أكثر خطورة مما يتوقع الآخرون. وهذه هي الصفات التي ساعدت لينيكر على أن يكون ضمن قائمة مقدمي البرامج الأعلى أجرا في بي بي سي. وفي حين يركز منتقدوه على التعبيرات التي يستخدمها وعلى تلاعبه بالكلمات، يعتمد لينيكر على فن الخداع في القيام بدوره كمذيع تلفزيوني بارع.
وقد تعلم لينيكر من معلمه الكبير في هذه الأمر، وهو ديس لينام، الذي كان يقدم برنامج «مباراة اليوم» عندما بدأ لينكر تحليل المباريات على استحياء عام 1995. وفي ذلك الوقت، وبعد أن كان لينيكر قد اعتزل كرة القدم للتو، ظهر في هذا البرنامج كشخص أخرق يبدو غير حريص على أن يحظى بحب الجمهور. لكن لينكر درس جيدا الجاذبية التي كان يتمتع بها لينام وكيف كان يجعل الآخرين يشعرون تجاهه بالراحة والطمأنينة، وليس فقط الجمهور الذي يشاهد البرنامج من المنزل. وقال لينيكر في وقت لاحق: «كنت أطرح الكثير من الأسئلة عن الأشياء الصغيرة التي كان يقوم بها، وتعلمت بعض الفروق الدقيقة».
وحتى كلاعب، كان لينيكر يضع لينام نصب عينيه. وفي كأس العالم 1990 الذي كان يحصل خلاله على ملاحظات خاصة عن كيفية قيام الصحافيين بعملهم، وصفه بعض زملائه بأنه «ديس لينام الصغير». وبعد أربع سنوات من «الوصاية»، حل لينيكر محل لينام في تقديم البرنامج، وبالتحديد عام 1999. وهناك الآن جيل من المشاهدين الذين رأوا لينيكر كلاعب في صفوف المنتخب الإنجليزي الذي يعد هدافه التاريخي في مسابقات كأس العالم، وفي الكثير من الأندية الكبرى مثل برشلونة وتوتنهام هوتسبير. لكن نجاح لينيكر الكبير في البرنامج التلفزيوني الذي يقدمه مساء السبت من كل أسبوع قد يطغى على تاريخه كلاعب كبير في عالم كرة القدم، لأسباب كثيرة من بينها أنه يهتم بحالة الجدل السياسي المطروحة على الساحة، على خلاف غيره من الرياضيين الذين يتجنبون الانخراط في السياسة بصورة تلقائية.
وبالنسبة لأتباعه على موقع «تويتر» (الذين يبلغ عددهم الآن نحو 6.4 مليون شخص)، كان لينيكر مناصرا قويا لبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي، كما أدان نتيجة الاستفتاء وخروج بريطانيا من الاتحاد، وكان واضحا للغاية عندما دافع عن اللاجئين وطالب بألا يكونوا كبش فداء، كما انتقد نايجل فاراج، زعيم حزب استقلال بريطانيا، بقوة.
وعن دفاعه عن اللاجئين وفي محاولة منه لاستيعاب ردود الفعل السلبية التي بدأت عشية إخلاء مخيم «كاليه» الفرنسي للمهاجرين، استخدم لينيكر، منبر برنامجه «مباراة اليوم» عبر قناة «بي بي سي»، للتعبير عن تضامنه مع القادمين إلى الأراضي البريطانية، في حركة عدّها كثيرون لفتة إنسانية من شخص دأب على مناصرة اللاجئين وقضايا إنسانية محقة، فيما تلقاها آخرون بعدائية وبدعوة صريحة لطرده من القناة.
صحيفة فرنسية شرحت الأسباب التي دفعت النقاد في الصحافة البريطانية إلى تكثيف الهجوم على لينيكر، وقالت إن الأخير كان قد كتب تغريدة على موقع «تويتر» تتعلّق بالأولاد المهاجرين الذين وصلوا من المخيم العشوائي في شمال فرنسا، وجاء فيها: «لا أفهم أبدا تلك المواقف العنصرية التي لا رحمة فيها إزاء هؤلاء الصبية. ماذا يحدث في بلدنا؟». وأضافت: «لم تكد تنتشر صور الصبية المهاجرين حتى بدأت المواقع البريطانية في تكذيب عمر هؤلاء، رافضة اعتبارهم أطفالاً، بل ذهب بعض الصحافيين إلى التأكيد على أنّ أعمار هؤلاء تتجاوز الثامنة عشرة. ولم تقتصر تلك الأصوات العنصرية على الصحف، فقد عبّر أحد النواب عن حزب المحافظين عن رفضه استقبال هؤلاء المهاجرين، واعتبرهم «ليسوا أطفالاً، علينا أن نقيس طول أسنانهم لنتأكد من ذلك».
كعادتها تصدّرت صحيفة «الصن» دفاع لينيكر عن المهاجرين، واستغلّت تغريدة لينيكر ومواقفه الأخيرة، لتوجّه دعوة واضحة لقناة «بي بي سي» تطلب فيها طرد لينيكر، واصفة إياه بـ«المهرّج اليساري»، ما استوجب ردّاً هادئاً من لينيكر، فقال: «اليوم أنا أتعرّض لهجوم بسبب تضامني مع مهاجرين خرجوا مرغمين من بلادهم. هل لكم أن تتخيلوا أنفسكم للحظة واحدة مكان هؤلاء حيث لا مأوى ولا عمل لكم ؟».
وكما لم يتأثر لينكر باستفزازات لاعبين سابقين مثل فيني جونز الممثل حاليا عندما كان لا يزال يلعب كرة القدم، فإنه ليس من نوعية الشخصيات التي تخاف من انتقادات الصحف، ولم يغلق حسابه على موقع «تويتر» تجنبا لتلك الانتقادات. وعلى الرغم من أن وجهات نظره حول كل شيء تقريبا، بدءا من عجرفة الاتحاد البريطاني للغولف وصولا إلى الفساد «المؤسف» للاتحاد الدولي لكرة القدم، تبدو صحيحة، فإن لينيكر لا يتعامل مع العالم أو حتى مع نفسه على محمل الجد.
وتبدو السخرية التي يتحدث بها لينيكر وكأنها تعترف بعدم المساواة والسخافات الموجودة في الحياة الآن، والتي تتمثل إحداها بطبيعة الحال في حصول لاعب كرة قدم سابق على 1.8 مليون جنيه إسترليني سنويا لمجرد أنه يتناول أبرز الأحداث الرياضية ويحلل بعض المباريات مع لاعبين سابقين! ولم يتطوع لينيكر لكي يخفض أجره من تلقاء نفسه، ولذا ظهر كرجل يحب إثارة الجدل ويدرك تماما أبعاد ما يحدث، عندما أكد على «دعمه التام والكامل» لمقدمات البرامج في بي بي سي اللاتي يتقاضين أجرا أقل منه بكثير.
لكنه يعلم جيدا أن كتابة التغريدات على موقع «تويتر» لن تؤدي إلى تغيير الفوارق الاجتماعية أو الشعور بأنه يحظى بامتيازات أكثر من الآخرين. وقال لينيكر العام الماضي: «أعرف أنني في فقاعة صغيرة. أنتم تتحدثون الآن عن الصفوة، أليس كذلك؟ أنا لا أعرف ماذا يعني ذلك، فهل تقولون ذلك لأنكم تقومون بكل شيء بطريقة صحيحة في الحياة؟» وفي الحقيقة، يقوم لينيكر بكل شيء على ما يرام ويحصل على مقابل مادي مرتفع للغاية يعوضه عن عدم لعبه للكرة في الوقت الحالي بالأسعار الجنونية للاعبين ودخلهم السنوي الذي يجعلهم لا يحتاجون للعمل مرة أخرى بعد اعتزالهم كرة القدم. ويقال إن دخله السنوي يصل إلى 30 مليون جنيه إسترليني.
ولو كان ذلك لا يكفيه فيرى البعض من قبيل السخرية أنه في حالة بدنية تؤهله للعودة للعب مرة أخرى، وربما الانضمام للمنتخب الإنجليزي إذا استدعى الأمر! وقبل عام من الآن، استعرض لينيكر رشاقته عندما تعهد بتقديم برنامجه وهو لا يرتدي سوى السروال في حال فوز فريقه القديم ليستر سيتي بالدوري الإنجليزي الممتاز، وهو ما حدث بالفعل. ومرة أخرى، ما كان يمكن أن يكون محرجا أو سخيفا للبعض، قام به لينكر بمنتهى الثقة في النفس بالطريقة نفسها التي كان ينفذ بها ركلات الجزاء بكل هدوء في أصعب المواقف.
وربما يكون الجانب الوحيد من حياة لينكر الذي يبدو متناقضا مع شخصيته هو زواجه (الثاني) من دانييلي بوكس، وهي عارضة ملابس داخلية تصغره بـ18 عاما، التي تبدو كفتاة لعوب لا تناسب شخصية لينيكر المولع بالمزاح. وكانا لينيكر وبوكس قد انفصلا العام الماضي، على ما يبدو لأن لينكر، وهو أب لأربعة أولاد من زوجته الأولى، شعر بأنه أكبر من أن يصبح أبا لطفل جديد. لكنه ظل يحتفظ بصداقة قوية مع بوكس وتشير تقارير إلى أنه عرض عليها أن تعيش معه في منزله بعدما أعلنت عن حملها من شريكها الجديد في وقت سابق من هذا العام.
أما الكلمة التي تتبادر إلى الذهن لوصف هذا الرجل الذي ينتمي لأسرة من الطبقة العاملة من ليستر، والذي قال التقرير النهائي من مدرسته: «يجب أن يكرس وقتا أقل للرياضة إذا كان يريد أن يكون ناجحا»، فهي أنه شخص «مستنير».
وعلى عكس الكثير من لاعبي كرة القدم، الذين دخلوا في شرنقة وعزلة ولم يهتموا سوى بالأندية ووكلاء اللاعبين وفشلوا في معرفة ما يدور بالعالم الخارجي، لم يكتف لينيكر بما يدور في كرة القدم لكنه يهتم بما يحدث في العالم ككل.
وكان لينيكر أحد اللاعبين القلائل في كرة القدم الإنجليزية الذين لعبوا خارج إنجلترا في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما كان يُنظر إلى أوروبا على أنها تلك الأراضي الموجودة في الخرائط القديمة التي يقال عنها: «هنا يكون التنين». ولعب لينكر لبرشلونة الإسباني وغمر نفسه في الثقافة المحلية وسرعان ما تعلم اللغة الإسبانية. وكان لديه الرغبة نفسها في تجربة الأشياء الجديدة، وهو ما أخذه إلى مكان بعيد عن كرة القدم. ولم يكن لديه الرغبة في أن يصبح مديرا فنيا، مثل الكثير من اللاعبين السابقين الآخرين. وربما كان أهم شيء بالنسبة للينيكر، كما قال هو ذات مرة، هو أنه لم يعان من «القلق» الذي ينتاب الآخرين. إنه حقا يبدو متوازنا ومنفتحا على الحياة ويسعى دائما للقيام بعمل جيد. وفي الحقيقة، يساعد هذا المزيج من الصفات على النجاح، لكن بعد أكثر من 20 عاما من العمل في التلفزيون، يبدو ما حققه لينيكر وكأنه شيء إعجازي.
غاري لينيكر... مذيع رياضي يعشق إثارة الجدل ويسخر حتى من نفسه
نجم إنجلترا السابق خلق شعوراً بالغيرة والحسد بين كثيرين عندما كشفت «بي بي سي» راتبه الخرافي

غاري لينيكر... مذيع رياضي يعشق إثارة الجدل ويسخر حتى من نفسه

لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة