الممثلون الرجال يقاومون زحف سنوات الحياة

كشف حساب موسم صيف يكاد ينتهي

«الجميلة والوحش» الفيلم الأعلى نجاحاً هذا الصيف - توم كروز وأنابيلا ووليس في «المومياء» - لقطة من «الملك آرثر: أسطورة السيف» لم ينجز ما وعد به
«الجميلة والوحش» الفيلم الأعلى نجاحاً هذا الصيف - توم كروز وأنابيلا ووليس في «المومياء» - لقطة من «الملك آرثر: أسطورة السيف» لم ينجز ما وعد به
TT

الممثلون الرجال يقاومون زحف سنوات الحياة

«الجميلة والوحش» الفيلم الأعلى نجاحاً هذا الصيف - توم كروز وأنابيلا ووليس في «المومياء» - لقطة من «الملك آرثر: أسطورة السيف» لم ينجز ما وعد به
«الجميلة والوحش» الفيلم الأعلى نجاحاً هذا الصيف - توم كروز وأنابيلا ووليس في «المومياء» - لقطة من «الملك آرثر: أسطورة السيف» لم ينجز ما وعد به

إذا ما كانت الصورة غير واضحة تماماً بالنسبة للمراقبين والمشاهدين، فهي غامضة تماماً بالنسبة لاستوديوهات هوليوود حالياً.
الذي حدث هو أنّ الصيف جاء ويكاد الآن يمضي من دون أن تحقق معظم الأفلام الكبيرة التي حشدت له الإيرادات الموعودة.
هل هو سوء تخطيط؟ توفير كمي أكثر من المطلوب؟ أم أنّ الجمهور اكتفى من تلك الحكايات التي تقع ما بين الأرض والفضاء وتقدم شخصيات ليس فيها ما يُصدّق بعد ما تم غمسها ببحر من المؤثرات البصرية؟
الأفلام التي تثير هذه الأسئلة كثيرة وكلها مكلفة. لدينا، على سبيل المثال، «المومياء». نقلة إلى الأمس بدمجه بالحاضر حول تلك اللعنة التي تحط على كل من يكشف تلك المومياء الأنثى وشرورها التي يحاول توم كروز التغلب عليه إنقاذاً للبشرية كلها. اللعنة ذاتها أصابت الفيلم الذي أنتجته «يونيفرسال» إذ اكتفى بـ80 مليون دولار في السوق الأميركية وهو الذي تكلف 125 مليوناً. لولا الأسواق الخارجية التي لبّته بنحو 300 مليون دولار لاعتبر الفيلم كارثة.
التقاط نفس
فيلم آخر سقط في هذا الصيف مدوياً هو «الملك آرثر: أسطورة السيف» الذي كلّف وورنر 175 مليون دولار وأنجز 115 مليون دولار حول العالم. هنا صليل السيوف وصهيل الجياد والمعارك المنفّذة على الكومبيوتر بأناس مُبتدعون لم ينقذ الأسطورة الشهيرة للملك آرثر وسعيه لاستحواذ ذلك السيف المغروز في الصخر الذي لا يستطيع إخراجه سواه. الكثافة في استخدام ما يعرف بـCGI (كمبيوتر جنيراتد إيماجيري) شكّلت حاجزاً دون اللقاء مع أبرز ما في تلك الأسطورة من قيمة: المواقف البطولية القادرة على صون تلك الأحداث الأسطورية.
طبعاً لا ينحصر رفض المشاهدين للأفلام بالأفلام التي غازلت حكايات الماضي، بل امتد ليشمل أي فيلم تعدت فيه نسبة المؤثرات البصرية المذكورة الحاجة إليها. المثال الأكبر على ذلك ما حدث لفيلم لوك بيسون «فاليريان ومدينة الألف كوكب» الذي كلّف هذا المنتج - المخرج الفرنسي 177 مليون دولار وأنجز حتى الآن 114 مليون دولار علما بأن أحلام بيسون كانت محاكاة أي إنتاج هوليوود بتقديم فيلم خيالي - فانتازي مليء بالأحداث المستقبلية المشحونة دائماً بالمغامرات. النتيجة كانت أكثر من 5 آلاف استخدام للحيل الغرافيكية وسقوط مدوٍ آخر في صالات السينما الأميركية وغير الأميركية على حد سواء.
إنّه كما لو أنّ الجمهور يريد أن تعطيه هوليوود فرصة لالتقاط أنفاسه، وهو بالتأكيد بات يفضل الانتقاء بعناية على مجرد الإقبال على كل ما هو معروض كما في الأعوام الماضية ما يبرهن على أنّ هوليوود، كعادتها، استثمرت هجمة الجمهور على الأفلام السابقة من النوع الخيالي - العلمي المدموج بالأسطورة والممتزج بالمواقف القتالية والمصنوعة مخاطرها على الكمبيوتر، لإغراق السوق بكل هذا العدد متمنية في كل مرّة أن لا يخطئ الفيلم هدفه.
وفي غمار سقوط الأفلام المذكورة وفوقها «ترانسفورمرز: الفارس الأخير» و«بايووتش» (باراماونت) و«أليان: كوفينانت» (فوكس) و«البرج الداكن» و«ذ إيموجي موڤي» (صوني) و«قراصنة الكاريبي» و«كارز 3» (ديزني) فإنّ هذا الفشل يفتح الباب على موضوع ما إذا كان ممثلو هذه الأفلام يستحقون المكافآت الكبيرة المصروفة عليهم: جوني ديب، وتوم كروز، وروبرت داوني جونيور وسواهم، يتقاضون ما يوازي 20 في المائة من الميزانية (عن طريق الأجر المباشر وطريق النسبة على الدولار الأول).
«المومياء» هو الخسارة الكبيرة الأولى للممثل توم كروز منذ سنوات، وذلك ليس بالنظر إلى إيراداته، بل بمقارنتها بميزانية كل فيلم من أفلامه. فعلى سبيل المثال، لم ينجز «فالكيري»، سنة 2008 سوى 83 مليون دولار، لكن تكلفته لم تزد بدورها عن ذلك المبلغ. فيلمه اللاحق «فارس ويوم» تكلف 117 مليون دولار، لكنّه جلب ضعف ذلك من الإيرادات العالمية. «المومياء» كان من تلك التي شكلت تحدياً للممثل الباحث عن سلسلة جديدة يقوم بها لجانب «المهمّة: مستحيلة» التي ما زالت السلسلة الأكثر شهرة وإيراداً بالنسبة إليه.
سنوات الحياة
جوني ديب ليس في وضع أفضل على الإطلاق. كل الأفلام التي خاض بطولتها خلال السنوات العشر الأخيرة لم تفلح في تثبيت مكانته خارج سلسلة «فرسان الكاريبي» بما فيها الإخفاق الأكبر الذي وقع قبل عامين لفيلم «ذا لون رانجر» الذي تكلف 215 مليون دولار وفوقها نحو 100 مليون دولار لتسويقه وترويجه لكنه اكتفى، بعد ثلاثة أسابيع، بإيراد قدره 250 مليون دولار من بينها 89 مليون دولار في الولايات المتحدة وكندا.
حتى «فرسان الكاريبي» في جزئه الخامس هذا العام ترنح قليلاً مقلدا ترنح جوني ديب في أدائه شخصية القرصان المذكور. ووضع ول سميث وروبرت داوني جونيور وبن أفلك وهيو جاكمان ومارك وولبرغ وسواهم ممن أدوا بطولات أفلام خيال علمية أو أفلام «أكشن» ليست أفضل بكثير.
التجارب التي حاول عبرها جوني ديب وول سميث وروبرت داوني جونيور تمثيل أدوار إنسانية لم تحقق نجاحاً يجعل أياً من هؤلاء راغباً في ترك الأنواع الجماهيرية التي تبرر له قبض عشرة ملايين و15 مليون و20 مليون دولار عن الفيلم الواحد.
البعض في الواقع لم يجد ما يستطيع استيعابه وخشي الفشل وابتعد تماماً كما الحال مع الكوميدي جيم كاري والممثلة كاميرون داياز. ساندرا بولوك لم تعد تظهر كثيراً بعد موجة من الأفلام المتتابعة انتهت قبل ثلاث سنوات.
في سياق هذا الوضع، تتسلل حقيقة أنّ هوليوود ما زالت تعتمد على ممثلين تجاوزوا سنوات الشباب لأداء أدوار الشباب. ممثلون باتت أعمارهم تتراوح ما بين الخمسين والستين من العمر بينما شخصيات القوّة والمغامرة التي يمثلونها هي ما بين الثلاثين والأربعين سنة من العمر أو نحوها.
هذا دائماً ما حدث في كل سينما شعبية (هندية، مصرية، أميركية، فرنسية، إلخ…) لأن التركيبة الجاهزة للنجاح في مسلسل سينمائي ما تعتمد، في أحد أبرز أركانها، على الممثل الذي يدخل هذه الأدوار وهو لا يزال مناسباً ولا يغادرها إلّا من بعد أن أصبح على مشارف الكهولة. شون كونيري، على سبيل المثال، دخل سلسلة «جيمس بوند»، سنة 1962، وهو في الثانية والثلاثين من عمره وغادرها، سنة 1983، وقد أصبح في الثالثة والخمسين.
لكن غيره، وفي المرحلة الحالية، لا يستطيع أن يتوقف.
روبرت داني جونيور في الثانية والخمسين من عمره، جوني دب بلغ، في يونيو (حزيران) الماضي الرابعة والخمسين من العمر. توم كروز أصبح في الخامسة والخمسين. ليام نيسون، بطل سلسلة Taken أصبح في الخامسة والستين من العمر. التحدي الماثل أمام هؤلاء وسواهم هو أن عليهم أن يظهروا على الشاشة بالقوّة واللياقة البدنية التي كانوا عليها قبل خمسة عشر سنة أو عشرين سنة سابقة.
توم كروز كان يفاخر حتى حين قريب، بأنه يقوم بكل مشاهد المخاطر بنفسه (هو من تدلى بنفسه من برج خليفة في دبي في الجزء قبل الماضي من «المهمة: مستحيلة»)، لكنه في «المومياء» تخلى عن الكثير من تلك المشاهد وأضر بنفسه خلال تصوير ما تبقى منها.
الكثير من شروط هذه اللياقة يتطلب تمارين يومية بحيث إذا ما كشف الممثل عن جسده بداً مقنعاً: عضلات قوية، صدر متين، رشاقة قوام إلخ…
البعض الآخر، كما حال بن أفلك (44 سنة)، وجد لزاماً عليه بناء عضلات وأكتاف ولياقات بدنية في سن ما بعد الشباب لكي يفوز بالدور المعروض عليه. في حالة بن أفلك، فإن القيام بتأدية شخصية باتمان في الفيلم الجديد «باتمان ضد سوبرمان» كان مهمّاً لدرجة أنه دخل إعادة تأهيل بدني شملت إضافة في الوزن (من 89 كيلو إلى 109 كيلو) ورفع أثقال. صحيح أن البدلة السوداء تقوم بواجبها في منح الممثل شكل الرجل المقنع في واحد من تلك الشخصيات الخيالية، مثل سوبرمان وباتمان وآيرون مان، إلا أن العضلات الحقيقية ضرورية خصوصاً عندما ينزع هذا السوبر هيرو بدلته ليظهر في شخصيته الواقعية.
الأعلى نجاحاً
في المقابل، هناك الممثلون الآتون من الرياضة وكمال الأجسام. هؤلاء لا يحتاجون لبناء أبدان قوية لأنّهم تمتعوا بها منذ سنوات ما قبل دخولهم منطقة الأدوار البطولية، لذلك لم يكن عليهم سوى مواصلة التمارين عوض البدء بها من الأساس.
أحد هؤلاء طبعاً آرنولد شوارتزنيغر الذي كان بطلاً في كمال الأجسام ودواين جونسون الذي مارس (آذار) المصارعة. سلفستر ستالون هو أيضاً من ذلك الجيل الذي أدرك أنّ عليه أن يكسب الجمهور بتقديم نفسه على نحو مقنع وذلك من أيام «روكي» في الثمانينات.
لكن حتى هؤلاء، وفوقهم ستيفن سيغال وكيانو ريفز وفن ديزل، باتوا الآن في السن الذي يحتم إيجاد مخرج ما لجنون الكمال الجسماني أو الاعتكاف إلى الأدوار التي لا تتطلب جهوداً بدنية، كما يفعل شوارنزنيغر حالياً.
بعض هؤلاء، كما كيانو ريفز وتوم كروز، بات يخفف من عدد المشاهد التي تتطلب تمثيل المخاطر لكي ينجو من فخ اللامصداقية. ستيفن سيغال بات، على سبيل المثال، لا يقاتل بالخفة ذاتها، وفي أفلامه الأخيرة أخذ يكتفي بتوجيه الضربات عوض ما اشتهر به من المشاركة كليا في القتال.
من ناحيته، فإن ريفز في سلسلة «ماتريكس» كان هو الممثل المقبل - المدبر في سينما الأكشن. اليوم صار لزاما تزويده ببدلاء إذا ما لعب فيلماً يتطلب جهداً بدنياً مميزاً.
كل ذلك يمر في فلتر المعاينة عندما تتهاوى أفلام مكلفة من بطولة ممثلين مشهود لهم بالنجاحات السابقة. والحال أن مراجعة النسبة الناجحة من أفلام الصيف لا تكفي للتأكيد بأن أفلام القوّة والخيال (علمياً أو كأساطير فانتازية) باتت الضمان الأفضل لموسم صيف ناجح.
أحد أهم مزايا الأفلام التي حققت نجاحاً لا بأس به في هذا الموسم كانت تلك التي تمنح المرأة وجوداً بالغ الأهمية في لعبة التشويق والمخاطرة. في شهر مايو (أيار) من هذا العام خرج فيلمان من هذا النوع أولهما بعنوان «حتى الخرفان لها أسنان» (Even Lambs Have Teeth) لكنه لم ينجز أي قدر من النجاح. الثاني Lady Blood Fight بطولة آمي جونستون وهو بدوره لم يكن أكثر من جس نبض. لكن «حراس المجرة، 2» حفل بمشاهد المرأة المقاتلة. في الحقيقة نظرة على الملصق تكفي للإيعاز بأن الشركة المنتجة «ديزني ومارڤل ستديوز» أدركت أن المرأة عليها أن تقود أو، على الأقل، المشاركة فعلياً في البطولة فتم تصميم ملصق يضعها في الصدارة ووراءها شريكها الرجل. في الفيلم تبدي زو سالدانا قدرات قتال مماثلة كتلك التي يوفرها شريكها كريس برات.
والإيراد هنا كان رغيداً: 862 مليون دولار مقابل 200 مليون دولار كميزانية. بذلك هو ثاني النجاحات الكبرى المسجلة بين أفلام الصيف هذه السنة وحتى الآن. إذ يأتي بعد الفيلم الكرتوني «حقارتي 3» (Despicable Me 3) الذي تم عرضه في يونيو وخطف 920 مليون و689 ألف دولار عالمياً.
قبل نهاية شهر مايو خرج «قراصنة الكاريبي 5» إلى العروض وحقق نجاحاً وضعه في المركز السادس إذ بلغت إيراداته العالمية 785.‬559.‬302 دولار وهذا مباشرة بعد «ووندر وومان»، الذي ينتمي إلى البطولات النسائية، الذي جذب 792 مليون دولار وأنجز الرقم الخامس.
في المركز الثاني «القدر والغضب» (The Fate and the Furious) مع فان ديزل في البطولة بمليار و237 مليون و444 ألف دولار، أما المنصة العليا فمن نصيب الفيلم الفانتازي «الجميلة والوحش» الذي جمع مليار و260 ألفاً و122 دولار.
لم ينته الصيف بعد لكن عروض النصف الثاني من هذا الشهر لا تتضمن أفلام «سوبر هيرو» ولا أعمالاً بالغة التكلفة لكي يتم بناء جدار من الأوهام عليها. آخر ما كان في بال هوليوود في هذا المجال («البرج الداكن») سقط بضراوة والأمل في بعض النجاحات الأكثر تواضعاً من حيث الميزانية والمختلفة في نوعها على غرار النجاح الذي ينجزه حالياً «دنكيرك».
هذا إلى جانب أن سينما الرسوم المتحركة لديها عملان أو ثلاثة لإطلاقها أحدها «باليرينا» (وهو إنتاج فرنسي ناطق بالإنجليزية كحال أفلام كرتونية فرنسية أخرى حديثة) و«باتمان وهارلي كوين» وكلاهما سينافسان بعضهما البعض في اليوم الأخير من هذا الشهر.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)