«الشيخ جاكسون» يصالح الدين على الدنيا في «الجونة»!

الفن يواجه الإرهاب والتطرف

«الشيخ جاكسون» يصالح الدين على الدنيا في «الجونة»!
TT

«الشيخ جاكسون» يصالح الدين على الدنيا في «الجونة»!

«الشيخ جاكسون» يصالح الدين على الدنيا في «الجونة»!

العالم كله صار لديه هاجس اسمه «داعش»، بين حين وآخر تحتل الصدارة في «الميديا» جريمة طائشة مجنونة، يرتكبونها لترويع الآمنين.
ولا تتوقف الأفلام والمسلسلات عن النزول إلى الميدان وفضح هذا التنظيم الدموي، وآخر الأعمال مسلسل «الدولة» البريطاني، فأين نحن من هذا كله؟ لا تزال حصيلتنا الدرامية ضئيلة، لا تتناسب مع المخاطر التي نرصدها. قدمنا في رمضان الماضي من خلال قناة «إم بي سي» مسلسل «غرابيب سود»، الذي شارك فيه مبدعون من كثير من الدول العربية، من السعودية ومصر وسوريا ولبنان وغيرها، ولكن البعض هاجمه بضراوة، بحجة أنه قد يساء تفسيره، باعتباره ينال من الإسلام، رغم أن الرسالة كانت واضحة تماماً، فهو يدين هؤلاء الذين يسيئون للدين الإسلامي الحنيف.
عدد من الأفلام العربية بين حين وآخر، تستوقفها تلك القضية الشائكة، وهي تتناول بعض المفاهيم التي تؤدي لفهم البعض الخاطئ للإسلام. آخر الأفلام التي امتلكت خصوصية في التعبير وابتعدت عن المباشرة، حيث غلفتها المشاعر العاطفية والروح الاجتماعية في التناول، فيلم «الشيخ جاكسون» للمخرج عمرو سلامة، حيث يتناول حياة شيخ جامع، يعرض تفاصيل حياته منذ أن كان طفلاً، مروراً بمرحلة المراهقة حتى الرجولة، إلى أن أصبح شيخاً للجامع، ولكن ظل في داخله هذا الصراع بين عشقه للموسيقى ورؤية البعض الرافضة للفن برمته. كان محباً للمطرب العالمي مايكل جاكسون الذي رحل عام 2009، وشكل غيابه نقطة فارقة في وجدان الشيخ الذي كانت تنتابه تهيؤات، وهو يرى مايكل جاكسون في الجامع جاء ليؤدي الصلاة، فيحدث بسبب تلك التهيؤات كثير من المفارقات.
سيعرض الفيلم يوم 22 سبتمبر (أيلول)، في افتتاح مهرجان «الجونة» في أولى دوراته، وهو أحدث مهرجان عربي يضاف للقائمة، حيث يقف وراءه مادياً الأخوان سامح ونجيب (ساويرس) كداعمين له.
وبالطبع ستأتي الفرصة للحديث بالتفصيل أكثر عن الفيلم الذي يعد قفزة سينمائية لبطله أحمد الفيشاوي، قبلها كانت لدينا عشرات من الأفلام، آخرها «مولانا» لمجدي أحمد علي، الذي انطلق في العام الماضي في مهرجان «دبي»، وقبل نحو أسبوعين عرض في مهرجان «وهران» السينمائي في إطار تكريم لصُناعه، ومن المنتظر عرضه مع أفلام أخرى تحت قائمة ندوة عن أفلام التطرف، يقيمها مهرجان الإسكندرية السينمائي، الذي يُعقد في بداية أكتوبر (تشرين الأول) القادم.
تقديم أفلام تتناول تاريخنا وتدافع عن سماحة الدين الإسلامي، هدف ليس وليد السنوات الأخيرة، ولكنه موغل في القدم. لقد كان المخرج السوري الكبير الراحل مصطفى العقاد، بعد أن قدم فيلميه الرائعين «الرسالة» و«عمر المختار»، وذلك في نهاية سبعينات القرن الماضي، كان لديه حلم لا يتوقف عن إعلانه، وهو أن يقدم أفلاماً غير مباشرة عن سماحة الإسلام، يبدأها بفيلم عن حياة البطل «صلاح الدين الأيوبي»، قبل أن يقدم المخرج العالمي ريدلي سكوت فيلمه «مملكة السماء» 2004، واعتقد العقاد أنه من خلال اسمه الكبير سيجد الأبواب تفتح أمامه؛ إلا أنه اكتشف العكس، فكل محاولاته باءت بالفشل، سواء كانت مع حكومات أم أفراد، لم يرحب أحد بالتعاون، طبعا يوسف شاهين كان قد أخرج في الستينات فيلم «الناصر صلاح الدين»، ولكن مصطفى العقاد كان يرى أنه فيلم - بالمقياس الفني والفكري - ساذج جدا، وكثيرا ما كنا نتابع معارك صحافية وإعلامية بينهما، يتراشقان في «الميديا» بسبب هذا الخلاف الجذري على مستوى الرؤية السينمائية، حتى أن العقاد كثيراً ما كان يقول كنوع من التهكم، أن فيلم «اللمبي» الذي لعب بطولته محمد سعد، أروع من «صلاح الدين»، بينما كان يوسف شاهين يقلل كثيراً مما نعتبره إنجازاً عالمياً لمصطفى العقاد. ورحل العقاد عام 2005 على أيدي الإرهاب الديني، الذي فجر فندق «القدس» بالمملكة الأردنية الهاشمية، أثناء وجود العقاد هناك. وكان أول من نعاه وأشاد بقدره هو يوسف شاهين. جاء رحيل مصطفى العقاد كذروة تراجيدية لفنان كان حريصاً على أن يواجه بالكاميرا التطرف والإرهاب، فلاقى حتفه بأيديهم الجبانة.
السينما المصرية كانت سابقة في التنبيه إلى مخاطر التطرف الديني، حتى قبل أن يزداد شراسة، مثلا ستجد أن الفيلم الغنائي الميلودرامي «خالي بالك من زوزو» للمخرج حسن الإمام عام 1972، التقط بداية الخيط، من خلال شخصية الطالب الجامعي المتزمت التي أداها محيي إسماعيل، في بداية ظهوره الفني، حيث أمسك كاتب الفيلم صلاح جاهين تلك الشخصية التي كانت تعبر عن رفض للمرأة والرغبة في إقصائها ومنعها من ممارسة كافة الأنشطة، ولا يعترف أبداً بقدرتها على التفوق ولا بحقها في المساواة، مدعياً أن هذه هي تعاليم الإسلام. كانت سعاد حسني هي الفتاة المثالية المتفوقة دراسياً، بينما أمها «عالمة» أقصد طبعاً راقصة من شارع «محمد على»، الذي كان مشهوراً وقتها بأنه شارع الفن والموسيقي والرقص. والفيلم كان يؤيد حقها في أن تتعلم، وأن تحصل على المركز الأول، بينما الطالب المتزمت يريد إيقاف كل الأنشطة الفنية، ونزع لقب الطالبة المثالية الذي توجت به، وفي نهاية الفيلم يعترف بخطئه. طبعا لم نكن قد وصلنا بعد لاستخدام العنف في فرض تلك الآراء.
بعد أشهر قلائل أيضاً، جاء فيلم مهم سقط من تاريخ السينما المصرية، وأعني به «غرباء» للمخرج سعد عرفة. الفيلم لعبت أيضاً بالصدفة بطولته سعاد حسني، والبطلة تعاني من تزمت أخيها الذي أدى دوره شكري سرحان، وكأن الفيلم يعزف على جراح هذه الأيام، حيث يشير إلى بداية تغلغل هذا الفكر، لأسباب سياسية كان الدافع وراءها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، الذي أراد أن يلاعب اليسار، فأطلق العنان لتيار «الإخوان»، وفي النهاية دفع الثمن واغتالوه.
في الثمانينات زادت مساحات العنف الذي مارسته الجماعات المسلحة، وكانوا يحاربون ممارسة الفن باعتباره عدوهم اللدود، ومنعوا بالجنازير فرقة من الهواة كانت ستعرض إحدى مسرحياتها، في إحدي قرى أسيوط، ويومها وثق الحدث المخرج أحمد يحيي في فيلم تسجيلي، مواكباً سفر عادل إمام إلى هناك، وعرض مسرحيته «الواد سيد الشغال»، متحدياً أصحاب الفكر الرجعي.
إلا أن المواجهة الحقيقية جاءت مع هذا التعاون الذي ارتبط بعادل إمام والكاتب وحيد حامد والمخرج شريف عرفة، في أفلام بدأت في مطلع التسعينات بفيلم «اللعب مع الكبار». وتعددت الأفلام: «الإرهاب والكباب»، و«طيور الظلام»، و«المنسي»، وغيرها. كما أن الكاتب لينين الرملي والمخرج نادر جلال قدما لعادل إمام فيلم «الإرهابي».
على الجانب الآخر كانت نادية الجندي حاضرة أيضا بفيلم «الإرهاب»، وتعددت الأفكار والأفلام.
الإنسان أولاً، هذا هو المغزى وتلك هي الحكمة، وعلينا كلما اشتد الظلام أن نعرف أن الحل هو الإنسان.
نعيش في إحباط وأحزان، خريطة مصر يحوطها شريط أسود يقطر دموعاً لا تنضب على شهدائنا المصريين، بين ركام الإحباط يبزغ دائما الأمل في الغد، في أن نواجه فيروس التطرف والإرهاب، وأحد أمضى أسلحة المواجهة هي السينما، ولا يعني ذلك أن نقدم أفلاماً مباشرة على طريقة «مولانا» لمجدي أحمد علي، الذي تناول قضية فساد الخطاب الديني، وهو ما أدى بنا في النهاية إلى الكوارث التي نعيشها. هناك رسالة أبعد للفن، عندما يعلمنا التعاطي مع الجمال الإبداعي. الإرهابي والمتطرف لا يكره فقط الفن، بل يجرمه ويحرمه، والسينما، هي السلاح الأقوى والأكثر شعبية لنعيد التوازن للإنسان.
يُطل على المشهد بقوة تنظيم داعش، صحيح أنه على الأرض يلقى هزائم متعددة، سواء في العراق أو سوريا، كما أنه في مصر، يتم حصاره من خلال رجال القوات المسلحة والشرطة البواسل؛ ولكن لا يزال هذا التنظيم بحاجة إلى معالجات درامية أكثر نضجاً، في فيلم أو مسلسل، للإجابة عن الأسئلة، وأهمها: كيف أصبح له في كثير من دول العالم تلك القدرة على النفاذ للعقول؟ التي رصدها مثلاً المخرج الجزائري رشيد بو شارب في فيلمه «الطريق إلى إسطنبول»، والتونسي رضا الباهي في فيلم «زهرة حلب»، الذي افتتح به مهرجان قرطاج العام الماضي، وشاركت هند صبري بطلة الفيلم في إنتاجه؛ إيماناً منها بالرسالة التي يتبناها الفيلم.
الجزائر طبعا من أكثر الدول العربية التي اكتوت بتلك النيران فيما يعرف بـ«العشرية السوداء»، المقصود بها السنوات العشر التي بدأت نهاية عام 1991، واستمرت حتى مطلع 2002، عندما تمكن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من إنهائها. وشاهدناها في أفلام مثل «رشيدة»، و«دوار النساء»، و«المحنة»، و«التائب»، وغيرها. ومن المغرب من الممكن أن تتوقف عند المخرج نبيل عيوش وفيلمه «يا خيل الله».
السينما لعبت دوراً ولا شك، ولا يزال أمامها الكثير، والدول حتى على المستوى الرسمي، مثل مصر، وافقت على دعم الأفلام التي تتناول تلك القضايا، ويبقى أن تحرص السينما على أن تراهن على الفن، على شرط ألا تتحول إلى فعل توجيهي مباشر.
المعركة طويلة الأمد، مهما شاهدنا من ضربات موجعة يتلقاها «داعش» على أرض الواقع، إلا أن المعركة لا تزال ممتدة. السينما تستطيع عندما تتغلغل في المشاعر وتسكن القلوب والعقول، أن تعلن في النهاية عن انتصارها الحاسم على أرض الواقع، وفي البدء «كانت الكلمة» وكان أيضاً الفن!.

مسلسل «غرابيب سود» نظر إليه البعض باعتباره يسيء للإسلام - مشهد من فيلم «الإرهاب والكباب» - ملصق فيلم «الشيخ جاكسون».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».