فن أميركا اللاتينية ينبض بالحياة في بوينس آيرس

في متحفها أعمال لفريدا كاهلو ودييغو ريفيرا ولمسات ريشة آندي وارهول

متحف بوينس آيرس لفنون أميركا اللاتينية يضم مجموعة من الأعمال الفنية من إبداع أشهر الفنانين في القارة مثل الرسامة المكسيكية الشهيرة فريدا كالو وزوجها دييغو ريفيرا
متحف بوينس آيرس لفنون أميركا اللاتينية يضم مجموعة من الأعمال الفنية من إبداع أشهر الفنانين في القارة مثل الرسامة المكسيكية الشهيرة فريدا كالو وزوجها دييغو ريفيرا
TT

فن أميركا اللاتينية ينبض بالحياة في بوينس آيرس

متحف بوينس آيرس لفنون أميركا اللاتينية يضم مجموعة من الأعمال الفنية من إبداع أشهر الفنانين في القارة مثل الرسامة المكسيكية الشهيرة فريدا كالو وزوجها دييغو ريفيرا
متحف بوينس آيرس لفنون أميركا اللاتينية يضم مجموعة من الأعمال الفنية من إبداع أشهر الفنانين في القارة مثل الرسامة المكسيكية الشهيرة فريدا كالو وزوجها دييغو ريفيرا

مئات الأغاني والروايات تتحدث عن سحر العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، حيث تصف الكلمات تلك المدينة الساحرة التي من السهل للمرء أن يتيه في شوارعها الصغيرة وزواياها الضيقة، التي تحمل مئات القصص والحكايا. تشتهر المدينة بأنها واحدة من أجمل المدن وأكثرها حيوية في أميركا الجنوبية، فعندما تكون في تلك المدينة تشعر بأنك في باريس.
يمكن اعتبار بوينس آيرس العاصمة الثقافية للمنطقة، حيث تقع على ضفاف نهر بليت، ولها تاريخ ثري من الأدب، وتشهد عدداً كبيراً من الأنشطة والفعاليات الثقافية سنوياً، ويوجد بها عشرات المتاحف. بعض تلك المتاحف جميلة وتاريخية ووطنية، لكن يظل متحف بوينس آيرس لفنون أميركا اللاتينية مذهلا بالفعل بطريقة مختلفة ومميزة. ويضم المتحف مجموعة رائعة من الأعمال الفنية من إبداع أشهر الفنانين وأكثرهم تأثيراً في القارة، مثل فريدا كاهلو، الرسامة المكسيكية الشهيرة، وزوجها دييغو ريفيرا، الرسام الجداري الشهير. إلى جانب ذلك، ضمت جنبات هذا المبنى لوحات مهمة بريشة الرسام العبقري آندي وارهول الذي يشتهر بفنه الشعبي.
لهذا السبب ولأسباب أخرى كثيرة؛ يعد هذا المتحف مكاناً خاصاً يمكن من خلاله مشاهدة بعض من أهم وأروع الإبداعات الفنية لأهم الفنانين المشهورين. وقال أوغسطين بيريز، المدير الفني للمتحف، في مقابلة مع صحيفة «الشرق الأوسط»: «تنتمي المجموعة إلى أميركا اللاتينية، والبرنامج من أميركا اللاتينية، لكنه يظل متحفا شاملا، حيث يتم عرض مشروع كبير لا يحمل الطابع الإقليمي مرة أو مرتين سنوياً».
افتُتح المتحف عام 2011 بفضل تبرع من رجل الأعمال الأرجنتيني إدواردو كونستانتيني الذي أهدى المتحف 223 عملا فنيا من مجموعته القيّمة الفريدة. ويضم حالياً نحو 700 قطعة، أكثرها تسلط الضوء على الهوية الثقافية لأميركا اللاتينية. وقد افتُتح في العام نفسه الذي ضربت فيه أزمة سياسية واقتصادية طاحنة الأرجنتين، ومنعت الحكومة وقتها المواطنين من الحصول على أموالهم بتجميد أرصدتهم في المصارف.
يفخر بيريز بالمعارض، التي تُنظم هنا، وبالمعنى الذي تمثله المجموعات الفنية، ويوضح قائلا: «إنه اليوم متحف الفن الذي لديه أفضل مجموعة معروضة للجماهير خاصة من حيث التنوع في أميركا اللاتينية. في هذه اللحظة هناك 14 دولة تُمثّل في القاعات، وتُعرض 170 عملا فنيا. لدينا أعمال فنية منذ عام 1914 وحتى 2010». هذه المبادرة مهمة للغاية لأنها تسلط الضوء على هوية وإبداع الفن اللاتيني وتعد تكريماً له، وكذلك تقدم مراحل جديدة للمبدعين؛ فكل عام يُدعى فنانون جدد لعرض أعمالهم الفنية فيه. وهناك مكان خاص محجوز دائماً للرسامين الأرجنتينيين الناشئين الصاعدين، وكذلك لرسامين من دول أخرى.
لدى المتحف مجموعات مؤقتة ودائمة، منها مجموعة ذات تأثير كبير ومكانة بارزة تحمل اسم «فيربو أميركا»، وتضم 170 لوحة، وصورة فوتغرافية. إنها رحلة تاريخية حول القارة لا يستطيع سوى الفن اصطحابك فيها. كذلك تضم المجموعة بعض الوثائق التاريخية ذات أهمية كبيرة للمنطقة. وفي ذلك يقول أوغسطين بيريز، إن المعرض يقدم طابعا من جنوب الأرجنتين، وموضوعات تعود لحقبة ما بعد الاستعمار، وفهما لأهمية أميركا اللاتينية من البداية وحتى يومنا الحالي. لا يوجد متحف في أميركا اللاتينية يروي فن أميركا اللاتينية على النحو الذي تفعله مجموعة «فيربو أميركا».
هناك أيضاً معرض غير تقليدي عن وضع الفنانات في قصة أميركا اللاتينية. الهدف الأساسي هو توضيح مدى أهمية أعمالهن. كما يشير المدير الفني إلى أن العرض قادر على تغيير وضع أعمال سيدات أميركا اللاتينية.
المتحف مؤسسة خاصة، لكنه يستهدف جذب المواطنين الأرجنتينيين والزائرين إلى بوينس آيرس من خلال معايشة تجارب أخرى مرتبطة بالفن مثل المشاركة في دورات تدريبية قصيرة في الفن متاحة للأطفال والبالغين، وكذلك العمل في مجال السينما والأدب. وفي مجال إنتاج الأفلام حصد العديد من الجوائز في المهرجانات الأوروبية.
بعد زيارة المتحف، يمكنك انتهاز الفرصة والتجول في شوارع بوينس آيرس التي تزخر بالأعمال الفنية، وزيارة المقاهي التي كانت مصدر إلهام للكثيرين، والاسترخاء في واحدة من أكثر المدن ذات الطابع الأوروبي في أميركا اللاتينية، التي لا يكفي زيارتها لمرة واحدة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)