ينطبق على مسرحية «إنتاج محلي» القول المأثور «المكتوب يُقرأ من عنوانه»، فموضوعها الرئيسي هو أزمة الإنتاجات الدرامية المحلية، ومنه تتفرّع مشكلات راهنة ومواقف تستحق التوقف عندها. وكما الأزمات المعيشية والاقتصادية كذلك يحضر ذِكر الحروب المتتابعة وانفجار المرفأ، والأحداث السياسية المؤلمة والمساعدات الخارجية للبنان، وكذلك الانقسامات الفكرية بين فئات المجتمع.
يمكن اعتبار هذا العمل الذي يُعرض على خشبة مسرح «إليزيه» في بيروت، وهو من كتابة مارك قديح وإخراجه، بمنزلة نقد ذاتي، يمارَس في قالب صريح وعبر نص جريء، يضع الإصبع على الجرح ويشير إلى من تسبب به. كذلك تعرّج المسرحية على قضايا الفساد وسرقة المال العام، ومشكلة الكسارات، والمحسوبيات، وغيرها.

قصة العمل هي عن ممثل نجم يعاني من البطالة، فيدور بينه وبين منتج أعماله نقاش حول عودةٍ مشرّفة له إلى الساحة الدرامية. فالممثل مدين للمنتج بمبلغ كبير من المال، والمنتج يحاول إقناعه بتقديم تنازلات ليستعيد نجوميته، مقابل أجرٍ مادي مغرٍ. فالاستفادة من العرض متبادلة، المنتج يسترجع ماله والممثل يستعيد مكانته.
للوهلة الأولى يشعر مشاهد المسرحية بأنه يتابع قصة يوسف الخال الشخصية. فهو مغيّب عن الساحة الدرامية منذ فترة، ويتحدث باستمرار عن رفضه تقديم تنازلات تسيء إلى مشواره. وكذلك تعكس المسرحية رأي الممثل عمّار شلق في الساحة الدرامية والفوضى التي تسودها. وهو ما يذكره بصراحة في إطلالاته الإعلامية المختلفة.
تحكي المسرحية كيف تتحكّم المنصات الرقمية بسوق الدراما، فتهيمن على المحتوى والتسويق، وتنتقد أصحاب شركات الإنتاج اللاهثين وراء الربح السريع. وهو ما حوّل الأعمال الدرامية إلى وجهة تجارية بامتياز.
يجسّد يوسف الخال شخصية الممثل الحرّ (جيري) الذي يأبى الخضوع لممارسات تتعارض مع نزاهته، ويلعب عمّار شلق (سامر) دور المنتج الذي يميل إلى السائد، فتحدث مواجهة بين الاثنين تصوّر ما يجري على أرض الواقع.

فالممثل صاحب المبادئ يفضّل الموت على التنازل، والمنتج لا يأبه لمشوار فنان أبدع وبلغ النجومية. فنراه يمارس عليه الضغوط المالية ليحوّله إلى سلعة فنية تتماشى مع السطحي السائد.
تشكّل المسرحية لمخرجها مارك قديح، عودة إلى الخشبة بعد غياب 20 سنة، بفكرة واقعية تفيض بالوجع والضحك في آن واحد. ومن خلال الرقص والغناء يخفف المخرج من ثقل نقاشات طويلة ومتشعبة، فيزوّد العمل بجرعة تسلية إضافية. وبمشهد فني عنوانه «أول مرة» يتخلّى عمّار شلق للمرة الأولى عن الجدّية والأدوار الدرامية التي سبق أن رأيناه فيها. يرقص على إيقاع أغنية يقدمها الخال بصوته ومن ألحانه، فيصنعان معاً الفرق الذي رغب في إبرازه قديح في عمل العودة هذا.
وتبلغ المسرحية الذروة في الدقائق الأخيرة، متسببةً بصدمة لمشاهدها، من خلال مشهد يعتمد على السرعة في الحركة، مع تحميله رسالة فيها كثير من عزّة النفس رغم تلوثها بالدماء.
رغم انقسام الآراء بين إيجابية وسلبية حول العمل، فإنه مثل صرخة تخرج من أعماق شخص يختنق. كأن المسرح بمنزلة خشبة خلاص، إذ استطاع فريق العمل إيصال معاناة فنانين كثر لفظَتهم الساحة ظلماً، فقطعت الإنتاجات الدرامية الجديدة رؤوسهم دون رحمة، لعدم مجاراتهم أهدافها الاستهلاكية.





