تتناول مسرحية «روزماري» للمخرج شادي الهبر الصراع الأزلي القائم بين العقل والقلب. وبنص حبكة الصحافي إيلي مكرزل، الذي يشكّل أول تجربة له من هذا النوع، نتابع قصة غريبة ومشوقة في آن، بطلتاها هما الممثلتان بياريت قطريب ومايا يمّين.
تعرض المسرحية على خشبة «مونو» في بيروت، وتستغرق نحو ساعة من الوقت. ومنذ اللحظات الأولى للعرض، ينشغل مشاهدها بفكّ مفاتيحها. فقد استخدم المخرج الهبر مجموعة من الأدوات لجذب انتباه متابعيه، وكذلك لتحفيزهم على التحليل والتفكير. وهو ما يدفع الحضور منذ الدقيقة الأولى إلى طرح أسئلة حول مواقف غامضة لا يفهمونها.

تدور القصة حول المرأتين روز (مايا يمّين) وماري (بياريت قطريب)؛ إحداهما تعتمد على الفكر والعقل لتجاوز مشكلاتها، في حين الثانية رومانسية إلى أقصى حدّ، وقلبها هو دليلها.
المرأتان صديقتان مقرّبتان إلى حدّ كبير، حتى إن المشاهد يُخيّل إليه أنهما امرأتان برأس واحدة. وهو ما يحاول المخرج الهبر الإيحاء به من خلال مواقف كثيرة تخوضانها معاً. تفتحان قلبيهما الواحدة للأخرى، وتتبادلان الأحاديث بوضوح ومن دون مراوغة. وفي سياق أحداث المسرحية، تعرِّجان على موضوعات اجتماعية وإنسانية وأخرى عن التنمّر، وتواكبان عصرنة وسائل التواصل الاجتماعي، والنجومية الإعلامية، وانعكاسات الشهرة على أصحابها. ولا تتوانى المرأتان عن البوح بمشاعرهما، وخوض أحاديث وذكريات حول علاقاتهما العاطفية.
بياريت قطريب (ماري) تجسد دور المرأة الرومانسية بامتياز. فهي تتبع قلبها وأحاسيس الحب، وتقدمها على غيرها. ومع قوامها الرفيع، تقدّم عرضاً تختلط فيه الفنون التعبيرية من رقص وتمثيل. ومع الإضاءة التي تعكس طيفها على المسرح، تؤلّف لوحة إيمائية جميلة على وقع موسيقى الفلامنكو الهادئة.

أما مايا يمّين (روز)، فتتقمص دور المرأة القوية ظاهرياً، لكنها لا تلبث أن تفقد صلابتها في مشهد تتحدث فيه عن والدتها الراحلة، فتجذب الحضور بأداء محترف وواقعي. لا سيما أن تأثرها يأتي حقيقياً، فتنهمر الدموع من عينيها، وتنغمس في حالة حزن ولوعة فعليتين على الخشبة، وهو ما دفع الحضور للتصفيق لها طويلاً.
امرأتان متناقضتان تعيشان صراعاً بين العقل والقلب، يركن المخرج شادي الهبر إلى أغنيات لفيروز وهاني شاكر لتلطيف هذا النزاع القائم بينهما.
ولا تغيب عن المسرحية مشاهد عامرة بالكوميديا السوداء، فيضحك الحضور انسجاماً معها رغم رحم المآسي التي تولد منها مرات.
بصمات الحياة المثقلة بكثير من الفشل وقليل من النجاحات، تعتريها وقفات مع الذات. فكما روز، كذلك ماري، تسترجعان شريط حياتهما، تتذكران وتأسفان، وتضحكان مرات أخرى على نفسيهما.
يلاحظ متابع المسرحية مبالغةً في ممارسة الضحك مرات، وإعادات في تكرار كلمة «هبلة» أكثر من مرة. ولكن الجواب على هذا التكرار يكتشفه في نهاية العمل، فالعبرة تكمن في الخواتيم، وهو ما يطبع المسرحية بالإثارة والتشويق.
تُمرِّر المسرحية رسائل مختلفة حول تأثير تربية الأهل على أولادهم، والذكورية الحاضرة في مفهوم الخيبة عند ولادة البنت بدلاً من الصبي، وغياب الأب الذي يتسبَّب بالاضطراب النفسي عند الابنة. تضحيات الأم التي لا تنتهي من أجل إسعاد الأبناء، فتنعكس في الشعور بالأمان عليهم، ولكن الوجع يبقى يتضاعف رغم مرور الوقت الطويل عليه. والوحدة يستمر وهجها وتتصاعد يوماً بعد يوم.

جميعها عوامل اجتماعية اعتقدت المرأتان أنهما تخطَّتا ذيولها، ولكن دون جدوى.
فهما لم تعرفا مشاعر الفرح الحقيقية، ولا حتى تلك المتعلّقة بالحزن. تغُضان النظر عن أحاسيسهما، وتنشغلان بتركيبة شخصيتهما بشكل أكبر. أما الموت، فلم تستطيعا مواجهته كما يجب. إحداهما تفرح لسماع خبر موت قريب، والثانية تعدّ فراق الحبيب موتاً من نوع آخر. ولذلك لا تتوانيان عن الإعلان عن «اليوم العالمي للموتى» وهما تبتسمان.
في النهاية تظهر الحقيقة كما هي بمفاجأة لا يتوقعها المشاهد، وتُسدل الستارة على بطلتي المسرحية لندرك أن الاثنتين تؤلفان «روزماري» واحدة، وأن الإنسان هو عدو نفسه في النهاية.

