في الباحة الخارجية لمتحف سرسق العريق، التقت الأضواء بالنغم، والرخام بأوتار الآلات، في أمسية احتفالية حملت عبق قرن ونصف القرن من المعرفة، والبحث، والإنسان. كان المساء حارّاً على غير عادة الخريف البيروتي، لكنّ الموسيقى جعلته عليلاً، وهي تحتفل بمرور 150 عاماً على تأسيس جامعة الحكمة اللبنانية التي خرَّجت كباراً من أبناء الوطن، من بينهم جبران خليل جبران، والمسرحي المُشاكس ريمون جبارة.

توافد محبّو الموسيقى إلى المتحف الذي تُحاكي هندسته مزيجاً من الطرازَيْن الإيطالي والعثماني، ليستمعوا إلى برنامج متنوّع جمع بين النغمة الغربية ونَفَس الشرق. قاد المايسترو لبنان بعلبكي أوركسترا «سيدة اللويزة»، فحوَّل الحديقة إلى مسرح للانسجام بين الثقافات. في القسم الأجنبي، أطلَّ التينور إيليا فرنسيس مؤدّياً أغنيات شارل أزنافور، فجعل حضوره الخالد يتنقّل بين جدران القصر العتيق. ومع تبدُّل الأضواء على الزجاج الملوّن، غدت الأغنيات محطّات لآلام الذاكرة، وشغف اللقاء. بدا فرنسيس أكثر تحرّراً وعفوية في هذا اللون الغنائي، إذ التقى فيه وجدان الجمهور وخبرته الصوتية، على عكس أدائه في المقاطع الأوبرالية. فبينما فرض الطابع الأوبرالي عليه مسافة من البرودة، بدت أغنيات أزنافور امتداداً طبيعياً لصوته، ومزاجه.
أما اللحظة الطريفة، فكانت حين صعد المسرحي رفعت طربية إلى الخشبة لإلقاء شِعر نشيد الجامعة. بروح مرحة، استعاد أيام دراسته قائلاً إنه طُرد 3 مرات من المدرسة. ضحك الحاضرون، وفي عيونهم مزيج من الوفاء والعرفان للصرح المُحتَفى به الذي تربَّت فيه أجيال من اللبنانيين.

مع بداية الجزء الثاني، أدَّى الكورال «ردّني إلى بلادي» من كلمات سعيد عقل وألحان الأخوين الرحباني. الأغنية نشيد وطني يُحاكي الجرح اللبناني، ويدعوه إلى الشفاء. ومع كلّ مقطوعة قدَّمها الكورال بقيادة بعلبكي، كانت الذاكرة الوطنية تستعيد صورتها في لحن جديد. بلغت الذروة مع «أومن» التي شكّلت «بَرَكة» رمزية للجامعة، والمتحف، وبيروت، وللإنسان الذي لا يفقد إيمانه بالنور.
لم تكن فيروز تُغنّي قدر الإنسان بقدر ما كانت تعلم أنّ في العاصفة خلاصاً، وفي الريح التي تجرح وجهه بذرة شفاء. هذه الأغنية تأتي من عمق التجربة الإنسانية نفسها، ومن ذلك الإصرار على أن يواصل القلب الخفقان رغم ما خسر، ويؤمن، كلّما عصفت الرياح، بأنّ وراءها معنى يستحق الانتظار.
لم يغب زياد الرحباني عن الاحتفال، إذ خصّه بعلبكي بمقطوعة موسيقية، تلاها أداء الكورال أغنية «تلفن عياش». كانت لمسة وفاء لفنان حفر عميقاً في الوجدان اللبناني. وبينما كان مهندسو الصوت يحرصون على نقاء العرض، أشرف إبراهيم سماحة على التنظيم، وتفاصيل أخرى بدقّة بالغة، فمرَّ الحفل بلا شائبة. الهواتف صوَّرت، والأيدي صفَّقت، والموسيقى جمعت مَن تفرّقهم الأذواق.

كان للمكان معنى شخصي عند لبنان بعلبكي، فداخل هذا المتحف تقيم أعمال والده الراحل الشاعر والكاتب والفنان التشكيلي عبد الحميد بعلبكي. بنبرة وجدانية، دعا الجمهور إلى زيارة المعرض، حيث تتواصل الأجيال بالأثر الخالد.
وفي كلمته، قال رئيس الجامعة البروفسور جورج نعمة إنّ الموسيقى «لغة الروح»، كما كتب جبران خليل جبران، وهي التي تُوحّد القلوب قبل الأصوات، وتُعلن أنّ الإصغاء إلى الآخر هو الطريق إلى الجمال الحقيقي. شبَّه الجامعة بأوركسترا كبرى تتّسع لمواهب وثقافات متعدّدة توحّدها غاية واحدة هي خدمة الفكر والحقيقة والإنسان. وأكد أنه في بلد أنهكته الانقسامات، تبقى «الحكمة» مساحة للحوار والتنوّع ترى في الاختلاف غنى لا عائقاً.

استعاد تاريخ الجامعة التي أسَّسها عام 1875 المطران يوسف الدبس، برؤية سبَّاقة تمزج بين الإيمان والثقافة وخدمة الإنسانية. وقال إنّ الاحتفال بيوبيل الـ150 هو تجديد للعهد مع تلك الرسالة العريقة، تحت رعاية وليّ الجامعة المطران بولس عبد الساتر.
اختُتمت الأمسية بتحية تقدير لمتحف سرسق على تعاونه، ولأعضاء الأوركسترا بقيادة بعلبكي الذين نثروا أنغامهم في ليل بيروت مثل زهر على الجدران. ومع انطفاء الأضواء، غادر الحضور وهم على يقين بأنه ما دامت الموسيقى حاضرة فلبنان لا يموت.

