تضع مسرحية «قبل آخر صفحة» على مسرح «بيريت» في بيروت، الأوراق على الطاولة، وتفنّد بمحتواها أدقّ المشاعر الإنسانية والتأثيرات التي تواجهنا في حياتنا. تأخذ مَشاهدها الجمهور يميناً ويساراً، ولكنها في النهاية تضعه في مواجهة مع نفسه. فالروائي «حلمي»، الذي يجسّد دوره رالف معتوق، هو نموذج لإنسان تتقاذفه أحاسيسه، ومهما حاول الهروب منها وغضّ النظر عن حقيقتها، فإنها تُلاحقه مثل طيفه. وبفعل مهنته كاتباً ومؤلّفاً، وهي ما يقتضيه الدور، يبحر في خياله مثل طفل وشاب وصاحب مهمّة، فتختلط الأمور عليه وعلى الحضور. وتأتي بطلة روايته «شكبازوف»، التي تؤدّي دورها الممثلة مي سحاب، لتزيد الأمور تعقيداً، فتُذكّره بحقيقته أحياناً، وتسرق منه براءته أحياناً أخرى. يقف مشلولاً لا يعرف كيف يُنجز روايته، ويتوقّف عند الصفحة ما قبل الأخيرة أمام ورقة بيضاء عاجزاً عن خطّ سطورها. فهوس الشهرة، كشغف المهنة، يوقظان داخله صراعات نفسية يُعانيها.

تحضر المرأة بقوة في العمل، وهو من كتابة جورج درويش، وإخراج مازن سعد الدين. تطلّ بشخصية الأم وكذلك رفيقة الدرب والحبيبة والمُلهمة. ولا تخلو أحداث القصة من تأثير الأنثى عموماً في حياة الرجل. «حلمي» يحتفظ بتردّدات تربية أمه، وقد تعلَّق بها بطريقة مرضيّة، فيبقى يُردّد عباراتها ونصائحها مهما بلغ من العمر. يُبدي احترامه لها ويُجلّ دورها بكونها الأم، لكنها تبقى عبئاً ثقيلاً يُشبه أطنان الحديد الراسية في رأسه. ترافقه عقدة الذنب لأنه لم يحقّق لها أحلامها، إذ أصبح روائياً بدلاً من أن يكون محامياً أو كاتب عدل كما رغبت دائماً. ولا يزال حتى اليوم يُفتّش عن العدالة في الحياة. حتى بعد رحيلها، يبقى تأثيرها سارياً عليه، فتسكن أفكاره وتصرّفاته، وتقف وراء التخبُّط الذي يعيشه مُتأرجحاً بين الذكورة والأنوثة.
أما الأنثى الرفيقة التي تتدخَّل في كلّ شاردة وواردة من حياته، فقصته معها أشبه بمعاناة يتلذَّذ بها. وعندما يحاول إسكاتها والتخلُّص منها على هيئة بطلة في قصته، تصبح حياته أشبه بزنزانة. تكبُر تخيّلاته إلى حدّ الهلوسة والتحرُّر من قضبان سجنه بفعل جنون العظمة.

الإبداع يشكّل عقدة القصة في «قبل آخر صفحة». فأن تُولد منتجاً فنياً ليس بالأمر السهل. ولذلك تأخذنا المسرحية في رحلة إنسانية ومهنية في آن معاً. تتلوّن بأسماء وشخصيات من الواقع، وتمرّ على أحداث الثورة في لبنان ومعاناة اللاجئين السوريين، كما تُقدّم «فلاشات» سياسية مبطّنة تطول الأمم المتحدة. وأحياناً تستخدم أسماء معروفة مثل الإعلامية أنابيلا هلال للإشارة إلى مقاييس الجمال المثالية في نظر الرجل.
معاناة المرأة أيضاً تبرز في المسرحية من خلال التربية القاسية التي تتلقّاها الفتاة في منزل أهلها. فصدمتها بالرجل تكون كبيرة، بعدما تكتشف أنّ الأنثى وُلدت كي يجري التحكُّم بها، بقصد أو من دونه، فيُخنَق صوتها حين ترفعه، ويُلقى بها أرضاً حين تحاول الوقوف.
أما الوحدة فهي العنوان العريض للعمل؛ تُطرح من زوايا مختلفة، وتُعرض نتائجها السلبية على صاحبها. ويفلت منها البطل في النهاية رغم شهرة اعترف بها في خياله، وتباهى بها رغم زيفها. لكنها تبقى في النهاية ملاذه الأفضل، ففيها يشعر بالراحة وبأنه يتحكّم بحياته كما يشاء، ومنها تولد أفكاره الخيالية لإنجاز روايته.
يقدّم رالف معتوق دوراً مركّباً تتمازج فيه الانفعالات والتقلُّبات والتناقضات، فيمشي بينها على رؤوس الأصابع من دون أن يُلامس العادية. ويُجسِّد الشخصية المزاجية المليئة بالعُقد باحتراف وخفّة ظلّ. أما مي سحاب، فكانت الرفيقة المناسبة لروائي يبحث عن محرّك لأفكاره. فهي صاحبة تجربة غنيّة في الدراما والمسرح، وعرفت كيف تستفيد منها في أداء مُتقَن ومتوازن.







