فساتين، صور، تسجيلات، أفلام، وثائقيات، قطع أثاث، شنط، دفاتر، وأشياء أخرى كثيرة، تخص نجماتنا الأثيرات، أرشفها لنا معرض «ديفا: من أم كلثوم إلى داليدا» الذي افتتح مساء الجمعة في «متحف سرسق»، في بيروت.
المعرض نظَّمه «معهد العالم العربي» في باريس، حيث انطلق من هناك إلى أمستردام وعمّان، وحطّ رحاله أخيراً في بيروت، وكانت أصداؤه قد وصلت قبله. لكن المنظمين في لبنان أبوا إلا أن يضيفوا إليه من خزائن المجمعين اللبنانيين، فأضفوا أكثر ما أضفوا إلى الركن المخصص لفيروز وصباح، وأعمال فنية، وفيلم سجله إيلي صعب خصيصاً للمعرض، عن علاقته الشخصية بالفنانات وتأثره بهن، وكيف أن هؤلاء النجمات أسرنه في بداياته الأولى، وألهبن مخيلته، وغذّين خياله، وتركت كل منهن بصمتها في ذاكرته.
خريطة نسائية فنية
يجول الزائر بأرشيف حي اكتسب حيوية خاصة، بفضل السينوغرافيا البديعة، وينتقل مــن قسم أم كلثوم إلى وردة الجزائرية، ومن أسمهان إلى فيروز، ومن ليلى مراد إلى سامية جمال، مروراً بسعاد حسني وصباح، وكذلك داليدا. ويعبر أيضاً المتفرج بكبيرات بارزات مثل روز اليوسف وفاتن حمامة وهدى شعراوي. جميلاتنا الفاتنات اللواتي كانت كل واحدة منهن رائدة في مجالها، وإن أُعطِي حيزٌ أكبر لبعض الأسماء، فثمة محاولة لرسم خريطة نسائية فنية، تقتفي أثر نساء من القرن الماضي، حيث لعبت المرأة دوراً جوهراً من خلال نضالها، وثباتها ومقاومتها، للوصول إلى أماكن كانت حكراً على الرجال. بهذا المعنى فإن المعرض اجتماعي، وسياسي، وأنثروبيولوجي في وقت واحد، يقدم للجمهور العريض صورة عن مجتمع عربي ممتد، لم يكن الرجال فيه وحدهم من يقودون دفته، بل اقتحمته أسماء نسائية، لكل منها قصة تستحق أن تروى.

من المدخل تستقبلك الفاتنات بتوالي صورهن على الجدار. وها هي سعاد حسني بكامل جاذبيتها تلقي عليك التحية، بينما يصدح صوتها المغناج في المعرض بأغنيتها الشهيرة «يا واد يا ثقيل». تعبر بعد ذلك إلى صالون عرضت فيه صور هدى الشعرواي مع زائراتها وشريكاتها في النضال، ومن ثم تجد صور روز اليوسف وأعداد من مطبوعتها الشهيرة التي حملت اسمها، وصور تعيدنا إلى مغامرة تحية كاريوكا التي رقصت وأدهشت، يوم كان هذا الفن معيباً لصاحبته.

وفي القسم المخصص لأم كلثوم، فساتينها المطرزة أحدهما أحيت به حفليها الباريسيين الشهيرين في الأولمبيا عام 1967، وصور لها، ومقاطع تسجيلية. وللفنانة وردة ركن مؤثر، فعلى وقع أغنية «بتونس بيك»، عرضت عباءة بنفسجية مشغولة بالخرز بعناية، وشنطة سفرها، وأقراطها، ونظاراتها، وأوسمتها، وقارورة عطرها، وفروة، وحقيبة خاصة، وآلة عود، وجوازات سفرها، أحدها ديبلوماسي. نقرأ: وردة محمد فتوني، مواليد باريس 22-7-1939.
فيروز جارة القمر
الكثير، الكثير، من الصور المنتقاة بعناية في المعرض، وهي مستلة من أفلام، أو آتية من مجموعات خاصة. في قسم فيروز نجد صورة والدة الأخوين رحباني مع كامل العائلة في إحدى النزهات، كما صور أخرى لـ«جارة القمر» من أرشيف منجد صبري الشريف، ابن مخرج الأعمال الرحبانية، أضيفت إلى النسخة البيروتية من المعرض، كما نوتات موسيقية وكاتولوغات وأفيشات، وأزياء وفيديو نرى فيه فيروز تقوم باستعداداتها لجولتها في أميركا اللاتينية، عام 1961. تسجيل آخر يخص زيارتها للولايات المتحدة الأميركية.
المعرض في نسخته الباريسية كان أرشيف فيروز فيه ضعيفاً، لذلك تمت الإضافات، ومن بينها أزياء ارتدتها في مسرحياتها، بعضها ظهرت به على المسرح في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1973، وهي للمصمم اللبناني الأرمني جان بيير ديليفر الذي ابتكر لها أجمل أزيائها، في مسرحية «قصيدة حب». كما يرى الزائر فستاناً أدت به فيروز، مشاهد في مسرحية «أيام فخر الدين» التي عرضت في بعلبك عام 1966، من تصميم مارسيل ربيز وسامية صعب التي تُعدّ رائدة في تصميم الأزياء اللبنانية.
فساتين النجمات
فساتين النجمات، تحظى بإعجاب كبير من الزوار. من صباح إلى داليدا وهند رستم، ثمة مجموعة ثمينة، حيث تبقى فساتين هند رستم من بين الأكثر لفتاً للنظر. هذه الليدي، تبدو من المعروضات، أنها كانت شديدة الأناقة والرهافة في اختياراتها. إضافة إلى الأردية الرفيعة، يوجد حذاء لها وحقيبة يد ودفتر ملاحظات ونظارة وقبعة وزجاجة عطرها، وكلها مختارة بعناية شديدة من قبل سيدة الإغراء الأولى.

وكي يدرك الزائر المشقة التي مرت بها كل من النجمات لتسلك طريقها إلى الشهرة والاعتراف، ثمة صور للقطات مأخوذة من أفلام، اقترنت بعبارات مثل «أنت مجنونة، أنت مش عارفة فين مصلحتك»، أو صورة للممثلة الشهيرة لبنى عبد العزيز يوجه لها رجل عبارة «عاوزة تكملي درسك وتشتغلي كمان!!!». جملة ذات دلالة، مستلة من فيلم «أنا حرة» المأخوذ عن قصة إحسان عبد القدوس، وسيناريو نجيب محفوظ، أثار ضجة عند صدوره، بسبب تطرقه لموضوع حرية المرأة.
إلى جانب هذا الأرشيف الحي، عرضت أعمال فنية، بعضها أنجز خصيصاً للمعرض مثل تجهيز الكاتبة والفنانة التشكيلية اللبنانية لمياء زيادة، وبحمل عنوان «يا ليل يا عين»، وهو اسم كتاب لها يحمل نفس الاسم، فيه تتبّعت سِيَر عدد من نجمات عربيات بارزات مثل أسمهان، وأم كلثوم، وفيروز، وصباح، وليلى مراد وغيرهن، إلى جانب شعراء وسياسيين، أسهموا في صياغة مشهدية العالم العربي من بدايات القرن العشرين حتى ما بعد هزيمة 1967. أما العمل الفني فهو مستوحى من أجواء الكتاب، حيث تجمع زيادة في واجهة زجاجية كبيرة، رسومات وكتباً ودفاتر وأقلاماً، وصوراً، وسجائر وقناديل، وكل الأدوات التي أحاطتها وهي تنجز الكتاب.
بمختلف الوسائط، بالصورة والفيلم، والأثاث والمقتنيات الشخصية، يحاول معرض «الديفا» أن يعيد إحياء مرحلة، هي لا تزال متوقدة في ذهن أجيال عايشت القرن العشرين، عرفت أفلامه وأغنياته ومطبوعاته وجميلاته، وتجد سعادة وهي تتنقل في المعرض تلتقط الصور مع حاجيات فناناتها المفضلات. أما الشباب فيكتشفون عالماً متكاملاً زاخراً بالطموح والنضال والاجتهاد لنساء مهّدن الطريق لجيل جديد من الفتيات.

برهافة، ورقّة، مع أغنيات وموسيقات تعزز الإحساس بالحلم الذي عبرته كل من الأيقونات الموجودات في المعرض، يجول الزائر، مستمتعاً برحلة عربية بطعم أنثوي أسطوري.
يستمر المعرض في «قصر سرسق»، حتى 11 يناير (كانون الثاني) 2026.



