يُحقق فيلم «معركة بعد أخرى (One Battle After Another)» حالياً إيرادات ممتازة، قياساً بأنه في نهاية الأمر ليس فيلماً تجارياً بالمقصود. إنه عمل فني قابل لأن يكون تجارياً... فيلم فكري يتمتع بقدر كبير من الترفيه. وهو فيلم لبول توماس أندرسن، الذي لم يقدّم فيلماً رديئاً طيلة مسيرته المهنية منذ بدايتها في عام 1997، لكنه مختلف عن كل أعماله السابقة من دون أن يفقد المخرج أصالته.
أنجز في أيامه الثلاثة الأولى نحو 50 مليون دولار عالمياً، والمرجّح أنه سينجز أضعافها ليس فقط لأن الفيلم يحظى ببطولة تجمع بين ليوناردو دكابريو وشون بن وبنيثيو دل تورو فقط، بل لأن ما تُعرف بـ«كلمة الفم (Word of Mouth)» ستنتقل بين المشاهدين الخارجين من الفيلم إلى آخرين لم يقرروا بعد ما إذا كانوا سيحضرونه. هذا أعلى أفلام أندرسن تكلفة (130 مليون دولار) وأكبرها نجاحاً أيضاً.
هذا فيلم يقع مرّة واحدة كل عدّة أعوام. عمل سينمائي بالغ الجودة الفنية من ناحية، والجودة الفكرية من ناحية أخرى. ينتمي إلى تاريخ أميركي، ويدلي بدلوه في ما يحدث اليوم من شؤون سياسية متشعبة محلية وعالمية. يُدين المفهوم الثابت لـ«المؤسسة» حيال مواقفها ممن يناوئها أو يناوئ سياساتها من أيام الأمس البعيد إلى الحاضر، من دون تسمية أسماء. هناك مشهد لرجل شبيه بالرئيس الأميركي الحالي (لون وطريقة تصفيف شعره)، لكن هناك من يذكّر أيضاً بريغن، وآخر يبدو مثل كتاب مفتوح لأي عسكري متعصب.

جذور
الفيلم اقتباس عن رواية توماس بينشون «Vineyard» واستيحاء لوقائع مدفونة تحت رمال التاريخ. المخرج أندرسن لم ينوِ الالتزام بالرواية ولا بالتاريخ، بل ألّف عملاً متحرراً يستمد من الرواية بعض الخيوط ومن الأحداث بعض المواقف.
تدور رواية بينشون حول ثورة مجموعة يسارية من شباب أميركا في الستينات، آلت إلى هزيمة قضاياها في الثمانينات. هذا يجري فصلاً بعد فصل بنصوص استرجاعية (فلاشباك) لتغطي مرحلتين من مراحل الرئاسة الأميركية تلك التي قادها رِتشرد نيكسون والأخرى التي قادها رونالد ريغن.
يُلغي أندرسن تلك المشاهد الاسترجاعية ويستبدل بها خيطاً واحداً قوياً يجمع الماضي (لنحو 3 أرباع الساعة من الفيلم) بالحاضر (ما تبقى من نحو 160 دقيقة) في سلاسة.
لكن الفيلم أكبر ارتباطاً بالوقائع الحقيقية التي حدثت في أواخر الستينات عندما أنشأ طلاب يساريون منظّمة أطلقت على نفسها اسم «وَذر أندرغراوند (Weather Underground)» سعت لمناهضة «السيستم» السياسي الأميركي، واصفة إياه بالفاشية. في مطلع السبعينات بدأت تلك العصبة تنفيذ عمليات تخريبية؛ مما استدعى من «مكتب التحقيقات الأميركي (FBI)» تصنيفها منظمة إرهابية محلية. هذا من بعد أن بدأت تنفيذ عمليات سطو وتفجير لمتاجر، والأهم لمبانٍ حكومية رئيسية (جناح القيادة الجوية في البنتاغون يوم 19 مايو/ أيار، سنة 1972 مثلاً). ذلك النصف الأول من العقد المذكور (السبعينات) كان أكثر سنوات المنظّمة نشاطاً. في العام 1976 تفشّى الانقسام بينها، وفي العام التالي قُبض على عدد من أعضائها. عندما أصدر الرئيس جيمي كارتر قانون العفو بين عامي 1978 و1980، سلم الأعضاء الأحرار أنفسهم للاستفادة من العقوبات المخففة.
ثورات مشابهة
لا يسرد «معركة بعد أُخرى» حكاية منظّمة في هذا الاتجاه. السيناريو الذي كتبه المخرج هو زبدة الأحداث المذكورة، مع استعارات من رواية بينشون، في الوقت الذي يحافظ فيه الفيلم على استقلاله منفصلاً عن كلا المصدرين إلى حد التأليف القائم بذاته.
يستند الفيلم إلى حقيقة أن تلك الفترة (1965 - 1975) كانت شهدت ثورات عدّة لمنظّمات مشابهة من حول العالم؛ من اليابان إلى إيطاليا، ومن فرنسا واليونان إلى البرازيل وتشيلي. هذه أرضية مهمّة لولاها لبدا الفيلم خارج نطاق الواقع ولبهتت أبعاد حكايته وبدت خيالية.

ينطلق الفيلم من تعريفنا ببطليه «بوب (ليوناردو ديكابريو)» و«برفديا (تيانا تايلور)» المنتميين إلى مجموعة اسمها «فرنش75» وهما ينفذان عملية تحرير مهاجرين لاتينيين من أقفاص اعتقال في العراء وُضعوا فيها لحين إعادتهم عبر الحدود. هما في الوقت نفسه عاشقان متحابان ويرزقان بطفلة. بعد عمليات متفرّقة، يُلقي كولونيل انضم إلى تنظيم يميني يتمتع بغطاء رسمي اسمه «ستيڤن لوكجو (شون بن)» القبض على «برفديا» التي تعترف ببعض الأسماء قسراً. بعد 16 سنة ها هي ابنتها «ويللا (تشايس إنفينيتي)» تعيش مع والدها «بوب» بعيداً قدر الإمكان عن الأعين.
رغم ذلك، فإن «ستيڤن» لا يكف عن السعي لإظهار مدى كفاءته بصفته عضواً في ذلك التنظيم الحكومي، ولاحقاً، بعد حين، يصل إلى «ويللا» ويلقي القبض عليها ويوجه البوليس للقبض على «بوب»، لكن هذا، وبمساعدة ثائر آخر (بنيثيو دل تورو)، يهرب من الأسر وينطلق بحثاً عن ابنته. «لوكجو» في ارتياب وخوف من أن تكون «ويللا» ابنته نتيجة اعتدائه على والدتها الأفرو - أميركية، وهذا يشكل عصباً مهمّاً من الحكاية.
ما سبق تلخيص لا يحرق الأحداث لمن لم يُشاهد الفيلم بعد، لكنه يلخصها للدلالة على طبيعة القوى المتناقضة بين هويّة اليسار وهويّة اليمين. كلاهما يعمد للعنف، لكن قلب الفيلم، من خلال توزيع الأحداث والأدوار، مع الفريق الأول، من دون أن يعني ذلك تجسيد انتصار لأحد.
تشويق مدروس
في مشهد نرى «بوب (ديكابريو)» يبدأ بمشاهدة فيلم جيلو بونتيكورڤو «معركة الجزائر» الذي صُنّف مباشرة منذ إطلاقه سنة 1966 أحد أفضل الأفلام السياسية في التاريخ؛ كونه يتناول ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي. هذا المشهد العابر مرتبط بجوهر الفيلم الذي نراه، لكن ولا مرّة خلال عرض «معركة بعد أخرى» هناك أي خطابة. بول توماس أندرسن، الذي حقق تحفاً رائعة، من بينها «خيط وهمي (Phantom Thread)» و«ذَ ماستر» و«سيكون هناك دم (There Will Be Blood)»، يستعرض الأحداث هنا بتركيبة أسلوبية فذّة. ينتقل من حدث لآخر كما لو كان يهدف إلى صنع ترفيه مُطلق (وفي ثلث الساعة الأخير يقترب جداً من ذلك)، لكنه في الوقت نفسه يُبيّن تميّزه عن أقرانه؛ لأن كل لقطة هنا مدروسة ومركّبة بحيث تحيد عن وجهة الترفيه لحساب المضمون أو المضمون لحساب الترفيه.
الفيلم في جُلّه تشويقي ينتقل بسلاسة بين فترتي أحداثه، وبسلاسة مماثلة بين مشاهده. هو يروي حكاية ذات جبهة أحداث عريضة، لكنه يحتسب ألا يروي ما يسرده على نحو تقليدي. تشدنا شخصياته. ليوناردو ديكابريو في صورة جديدة له على الشاشة. فيه شبه من مارلون براندو، وفي مشهد عابر آخر يقوم بحركة تكاد تمر خاطفة تؤكد الصلة عندما يرفع يده اليسرى ليحك وجهه بالطريقة نفسها التي حكّ بها براندو وجهه في مطلع فيلم «العرّاب». بنيثيو دل تورو يُثير الإعجاب ويمنح الفيلم حيوية إضافية ثائراً من نوع واثق ومتحرر. في شخصية الكولونيل يقدّم شون بن تجسيداً لعسكري صارم، والمشهد الذي يعكس فيه خلفيّته المتشددة وقناعاته السياسية عندما تطلبه «الحكومة العميقة» لضمّه إليها يؤديه بإدراك متناهٍ. حاله في ذلك حال كل مشاهده، بما في ذلك المشهد الأخير له (قبل نهاية الفيلم) عندما تقرر القيادة التخلّص منه.
ما هو رائع أيضاً في فيلم أندرسن استخدامه الموسيقى. هذه ناحية لا يلتفت إليها نقاد كثيرون لأسباب تجتمع تحت مظلة التجاهل (أو الجهل). الموسيقى من جوني غرينوود، مؤلف العديد من موسيقى أفلام أندرسن. لاحظها وهي تصدح في مشاهد تشويق، ولاحظها في مشاهد تشويق أخرى وهي لا تتجاوز نطاق الترنيم الخفيف على البيانو ودقات طبلة. كلا الاستخدامين جميل ويثري الفيلم طوال الوقت.
بالإضافة إلى ذلك، يستعين المخرج بـ17 أغنية من الستينات إلى الثمانينات، من بينها أغنيات للوس بانشوس وتوم بَتي وتشك وَس وفرقة «ووك ذَ مون»، وأغنيتان لإيللا فتزجرالد، وكلها موجودة في مشاهد حسّاسة ومهمّة مرتبطة بما يقع على الشاشة.


