مرَّت 20 سنة على اغتيال سمير قصير. 20 عاماً على محاولة إسكات قلم تمرَّد على الخوف وفتح أفقاً للحرّية. غير أنّ الحكاية لم تنتهِ في الثاني من يونيو (حزيران) 2005. تتردَّد أصداؤها في الأزقّة والساحات والوجوه. وحضور الصحافي والمفكر اللبناني لا يزال يتجلَّى في كلّ اعتراض على الكذب ومحوٍ للذاكرة. ولعلَّ معرض «20 عاماً من أجل الحرية... مسيرة لم تكتمل»، الذي استضافه غاليري «آرت أون 56» في الجمّيزة البيروتية، جاء ليؤكد أنّ اغتيال الجسد لم يوقف المسيرة، وأنّ الصورة قادرة على إعادة بناء السردية من تحت الركام.

8 مصوّرين صحافيين من أجيال مختلفة حملوا الكاميرا؛ كلٌّ منهم بطريقته، ليصنعوا أرشيفاً بصرياً يصعب تجاوزه. من خلال عدساتهم، نرى العقدين الأخيرين من تاريخ لبنان: لحظات النضال، انكسارات الناس، بقايا الأمل، الدموع التي سقطت على الأرصفة. صُورهم تتجاوز التوثيق البارد، لتغدو مراثي وبيانات احتجاج وصيحات حبّ في وجه النسيان.
اتّخذ النضال من أجل الحرية في لبنان وجوهاً متعدّدة: هدير الساحات في ربيع 2005 حين ارتفعت الأصوات مُطالبة بالسيادة، مواكب الشموع لأرواح ضحايا الاغتيال السياسي، مسيرات النساء الداعيات إلى المساواة والحق في الحضانة، المظاهرات ضدّ الفساد والإفقار والوصاية الطائفية. ثم كانت لحظة الخراب الأكبر، مع دمار بيروت بعد انفجار المرفأ، ومع حرائق الغابات تحت القصف، ومع الانهيار الاقتصادي الذي التهم أرواح الناس قبل أرزاقهم. في كلّ ذلك، كانت الكاميرا شاهداً، تُعيد للضحايا كرامتهم حين جرَّدهم السياسيون منها، وتمنح الذاكرة جسداً حين حاول الطغاة محوها.

الصور في المعرض كانت صراعاً مع الواقع، وليست فقط انعكاساً له. فهي تُظهر ما يُخفيه الخطاب الرسمي: دمعة أمّ، صلابة مُتظاهر، وجهاً في حشد، جداراً صار ساحة، أو قبلة في زمن مقموع. إنها تُحوّل اللحظة العابرة إلى شهادة، والوجع الإنساني إلى صلابة في وجه الطمس. لذلك يبدو المعرض كأنه متحف للذاكرة الحيّة؛ يُذكّرنا بأنّ الأوطان تُبنى أيضاً بالصور، وبأنّ الفوتوغرافيا فعل نضال ضدّ العدم.
من بين المعروض، يطلُّ محمد ياسين بصورة تُوثّق حريق غابات الجنوب في أغسطس (آب) 2024، حين اجتاحت القنابل الإسرائيلية والفوسفور الأبيض الطبيعة، فأحرقت أشجار الصنوبر وخنقت الطيور والحيوانات. تتخطّى الصورة كونها تسجيلاً لحادثة، لتصبح شهادة على موت الطبيعة نفسها تحت القصف، كأنها تُذكّرنا أنّ الأرض أيضاً ضحية. وهو المصوّر ذاته الذي التقط صورة لمخيّم لاجئين في زحلة وقد ابتلعته النار، فلم يبقَ من حياة الناس سوى رماد.

أما كارمن يحشوشي، فتعود بنا إلى 5 أغسطس 2020، بعد أيام على جريمة المرفأ، حيث المظاهرة الكبرى التي ملأها الغضب والغاز المسيّل للدموع. التقطت لحظة الغليان كأنها تقول إنّ المدينة تصرخ. إلى جانبها، نسمع صوت تمارا سعادة التي تروي كيف كادت عيناها تعجزان عن الرؤية تحت الدخان، لكنّ إصبعها ظلَّ يضغط على زرّ الكاميرا بإصرار، لتُثبت أنّ الشهادة أحياناً أهم من الراحة، وفعل التصوير نفسه نوع من الشجاعة.
ويحضر حسين بيضون بصورة جندي يُراقب المتظاهرين من ثغرة ضيقة في جدار عازل خلال احتجاجات 2015 ضدّ تراكم النفايات. صورة تختصر المسافة بين دولة تحتمي بالأسوار وشعب يبحث عن هواء نظيف. في المقابل، يُقدّم ربيع ياسين صورة من ديسمبر (كانون الأول) 2020 لمواجهة عنيفة بين محتجّين وقوات الأمن، يصفها بأنها نقطة مفصلية للثورة، حين تَحوّل الحلم إلى صِدام مفتوح.

ولأنّ الحرية ليست مطلباً سياسياً فقط، يوقفنا حسن شعبان أمام صورة لقُبلة وسط مظاهرة تُطالب بالزواج المدني، وأخرى لنساء يهتفن ضدّ قوانين الحضانة المُجحفة وقد حُرمن من أطفالهن. هنا تصبح الصورة دعوة للحبّ بقدر ما هي دعوة للعدالة. أما جمال السعيدي، فيحفظ صورة لكشك صحف في شارع الحمراء، مثل مَن يوثّق مكان الكلمة المطبوعة في زمن الخفوت، فيما يُرينا مروان طحطح ريشة مُلقاة على الأسفلت؛ رمزية كئيبة للكتابة والصحافة وقد تُركت وحيدة، خفيفة، فوق أرض صلبة بلا رحمة.


لا يُقدّم هذا المعرض ماضياً مؤطَّراً بقدر ما يفتح أبواب الحاضر على أسئلته. بالنسبة إلى «مؤسّسة سمير قصير»، هو فعل استمرارية أكثر منه تذكاراً. الرسالة ثابتة: الدفاع عن حرّية التعبير، عن مساحة تُقال فيها الحقيقة بلا خوف، وعن ذاكرة لا تُمحى بالتضليل. وكما يوضح مديرها التنفيذي أيمن مهنّا، فإنّ مسار الحرّية ليس خطّاً صاعداً. فكلّ مكسب يتعرَّض للانتقاص، وكلّ خطوة إلى الأمام تُواجه تهديداً بالتراجع. والتحدّيات اليوم، من انهيار اقتصادي إلى خطر الحرب وعودة الانقسام الطائفي، كلّها تُحذّر بأنّ الحرّية نضال يومي، وليست على الإطلاق حقاً مضموناً.

يترك التجوّل بين الصور شعوراً مزدوجاً: فهي من جهة وثائق لزمن انقضى، ومن جهة أخرى أسئلة عن زمن يتشكَّل: ماذا سنفعل بالحرّية التي لا تزال في أيدينا؟ متى تكتمل المسيرة التي حلم بها سمير قصير؟ وهل يمكن لبلد يصرّ على التغاضي أن يكتب مستقبلاً مختلفاً؟
الصورة، في جوهرها، صرخة ضدّ النسيان. ذاكرة متجسّدة، وحصن يُعاند المحو. لذلك، يبدو المعرض كلّه كأنه نداء: الحرّية لا تُمنح مرة واحدة؛ هي تُستعاد مراراً. والذاكرة ليست خياراً؛ إنها شرطٌ للبقاء.



