الحر الشديد يُمكن أن يُسرِّع من وتيرة الشيخوخة

الدراسة حللت بيانات 25 ألف شخص لمدة 15 عاماً

الدراسة أشارت إلى أن العمل في الهواء الطلق أو دون مكيِّف يسرِّع من أعراض الشيخوخة (أرشيفية- رويترز)
الدراسة أشارت إلى أن العمل في الهواء الطلق أو دون مكيِّف يسرِّع من أعراض الشيخوخة (أرشيفية- رويترز)
TT

الحر الشديد يُمكن أن يُسرِّع من وتيرة الشيخوخة

الدراسة أشارت إلى أن العمل في الهواء الطلق أو دون مكيِّف يسرِّع من أعراض الشيخوخة (أرشيفية- رويترز)
الدراسة أشارت إلى أن العمل في الهواء الطلق أو دون مكيِّف يسرِّع من أعراض الشيخوخة (أرشيفية- رويترز)

أفاد بحث نُشر أمس (الاثنين)، بأن العيش في ظل موجات حرٍّ شديدة يُمكن أن يُسرِّع من وتيرة الشيخوخة.

وحلَّل العلماء بيانات صحية على مدى 15 عاماً من نحو 25 ألف بالغ في تايوان، ووجدوا أن التعرض لموجات حرٍّ لمدة عامين يُمكن أن يُسرِّع ما تُسمَّى «الشيخوخة البيولوجية» للشخص بمقدار 8 إلى 12 يوماً إضافياً.

قد لا يبدو هذا الرقم كبيراً، ولكن هذا العدد يزداد مع مرور الوقت، كما قالت كوي غو، الأستاذة المساعدة في جامعة هونغ كونغ، والتي قادت الدراسة التي نُشرت أمس (الاثنين) في مجلة «ناتشر للتغير المناخي»، وقالت إن: «هذا العدد الصغير مهمٌّ بالفعل. كانت هذه دراسة لتعرُّضٍ لمدة عامين، ولكننا نعلم أن موجات الحرّ تحدث بالفعل منذ عقود».

ويأتي هذا البحث في وقتٍ يُفاقم فيه تغير المناخ الناجم عن النشاط البشري موجات الحرِّ ويطيل أمدها.

ويُعاني الساحل الغربي للولايات المتحدة من درجات حرارة خانقة، بينما تُعاني إيران من حرٍّ مُريع. وقد عانت أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية من درجات حرارة قياسية في وقتٍ سابق من هذا الشهر. وشهدت فرنسا مؤخراً ثاني موجة حرٍّ صيفية، ما أثار جدلاً وطنياً حول تكييف الهواء، وفق تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز».

وفي عام 2024، وهو العام الأكثر حرارة على الإطلاق، كان تغير المناخ مسؤولاً عن 41 يوماً إضافياً من الحرِّ الشديد في جميع أنحاء العالم، وفقاً لتحليلٍ أجرته مؤسسة «World Weather Attribution».

ووجد الباحثون أن فئات معينة أكثر عرضة للشيخوخة السريعة بسبب الحرارة. فإذا كنتَ شخصاً مُسنّاً عايشتَ موجات حرٍّ كثيرة، فقد تشيخ أسرع من شخص أصغر سناً تعرض للموجات نفسها، وفقاً للدكتورة غو. كما أن عوامل أخرى، مثل العيش من دون مكيف هواء، أو العمل في الهواء الطلق، يمكن أن تزيد من معدل الشيخوخة بشكل ملحوظ.

وتشير الدراسة إلى أن هذا لا يعني فقدان أيام من حياتك حرفياً؛ بل يعكس تحولاً ملموساً في مؤشرات الشيخوخة البيولوجية، وليس التقويم.

وعرَّفت الدراسة موجات الحر بأنها فترة يومين متتاليين على الأقل من درجات الحرارة المرتفعة بشكل غير طبيعي، بالإضافة إلى أي وقت أصدر فيه المسؤولون تحذيرات من الحرارة. كما أخذت الدراسة في الاعتبار مجموع تعرض الشخص للحرارة.

تأثر العمر البيولوجي بالجو

وقام الباحثون بقياس آثار الحرارة بمقارنة العمر البيولوجي للأشخاص بعمرهم الزمني. وأوضحت الدكتورة غو أن العمر البيولوجي هو مقياس لمدى صحة رئتي الشخص وكبده وخلاياه، مقارنة بشخص يتمتع بصحة جيدة.

وحسبما نقلت الصحيفة، استخدمت الدراسة 12 من هذه القياسات الصحية، المعروفة باسم المؤشرات الحيوية، لحساب كيفية تأثير الحرارة على معدل الشيخوخة لدى المشاركين. وقد أخذت النتائج في الاعتبار العوامل الفردية التي يمكن أن تؤثر على مؤشرات الشيخوخة، مثل ممارسة الرياضة، والتدخين، والأمراض السابقة.

وفي هذا الصدد، قالت الدكتورة غو: «يواجه معظم البلدان مشكلة شيخوخة السكان». ونظراً لارتباط الشيخوخة البيولوجية ارتباطاً وثيقاً بالوفاة وكثير من الأمراض، فإن تسارعها قد يكون مؤشراً على مشكلات صحية خطيرة.

ويُصنَّف سكان تايوان، إلى جانب إيطاليا وإسبانيا وهونغ كونغ، من بين أكبر سكان العالم سناً. وفي الولايات المتحدة، من المتوقع أن يبلغ أقل من ربع السكان 65 عاماً أو أكثر بحلول عام 2050.

ويستند البحث المنشور أمس (الاثنين) إلى دراسات أخرى وجدت آثاراً صحية ضارة مماثلة للتعرض للحرارة. وقد وجد تحليل حديث شمل 3600 أميركي مُسن، أن العيش في درجة حرارة 90 درجة فهرنهايت لمدة 140 يوماً على الأقل سنوياً، قد يُسبب شيخوخة إضافية تصل إلى 14 شهراً.

بخلاف الدراسة التي أُجريت في تايوان، لم يأخذ البحث في الولايات المتحدة في الاعتبار بعض العوامل الفردية التي قد تؤثر على الصحة، مثل التدخين.

وإلى ذلك، صرحت كريستي إيبي، الأستاذة في جامعة واشنطن، والتي لم تشارك في أي من الدراستين، بأن هذه العوامل تُحدث تأثيراً صحياً كبيراً، وأن أخذها في الاعتبار أمرٌ أساسي لتحليل آثار الحرارة على السكان بشكل صحيح.

وأضافت الدكتورة إيبي أن التغييرات الأخرى طويلة المدى يُمكن أن تُحدث فرقاً أيضاً. فعلى مدى فترة تصل إلى 15 عاماً، قد يتأقلم السكان ببطء مع درجات الحرارة الأعلى، بما في ذلك إيجاد طرق جديدة للتعامل مع الحرارة.

وأشار مؤلفو الدراسة التايوانية إلى أن الزيادة المعتدلة في عدد الأسر التي تستخدم مكيفات الهواء، ترتبط بانخفاض معدلات الشيخوخة الناتجة عن الحرارة مع مرور الوقت. وقالت الدكتورة إيبي: «قد يكون للنتائج آثار على تدخلات الصحة العامة»، مشيرة إلى وجود طرق يُمكن للحكومات من خلالها التدخل لحماية الناس، في عالم يشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة.


مقالات ذات صلة

مؤسسات خيرية تخصص 300 مليون دولار لتمويل أبحاث الصحة المرتبطة بالمناخ

بيئة موجات الحرارة الممتدة من أخطر الظواهر المناخية التي تتفاقم حدتها بفعل التغير المناخي العالمي (رويترز)

مؤسسات خيرية تخصص 300 مليون دولار لتمويل أبحاث الصحة المرتبطة بالمناخ

خصصت مجموعة من المؤسسات الخيرية 300 مليون دولار لتطوير حلول منقذة للحياة مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة العالمية.

«الشرق الأوسط» (بيليم)
الاقتصاد علم الأمم المتحدة معروض بالقرب من شعار مؤتمر «كوب 30» (أ.ب)

«كوب 30» تنطلق في البرازيل بدعوات للتعاون وسط انقسام دولي وغياب أميركي

افتُتحت قمة المناخ (كوب 30) بدعوة ملحة من رئيس شؤون المناخ بالأمم المتحدة للدول المشاركة إلى التعاون بدلاً من الصراع على الأولويات.

«الشرق الأوسط» (بيليم (البرازيل))
الاقتصاد سيدات يلتقطن صورة مع لافتة مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ داخل ميناء إيستاساو داس دوكاس السياحي في بيليم (أ.ف.ب)

«كوب 30» ينطلق اليوم... وغياب ترمب وشي ومودي يطرح تحديات

تنطلق اليوم أعمال مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP30) في مدينة بيليم بالبرازيل، على أبواب غابات الأمازون المطيرة.

«الشرق الأوسط» (بيليم (البرازيل))
المشرق العربي مشهد من العاصمة الإيرانية طهران (أ.ف.ب)

تراجع مخزون المياه في ثاني كبرى المدن الإيرانية إلى أقل من 3 %

تراجع مخزون المياه في السدود الأربعة التي تغذي مشهد، ثاني كبرى المدن الإيرانية إلى أقل من 3 %، وفق ما نقلت وسائل إعلام محلية.

«الشرق الأوسط» (طهران)
أوروبا جانب من الأمواج العاتية التي ضربت جزيرة تينيريفي الإسبانية (الحساب الرسمي لراديو كناريا الراديو العام للأرخبيل عبر إكس)

أمواج عاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية

توفيت امرأة وأصيب 15 شخصاً عندما ضربت موجتان عملاقتان جزيرة تينيريفي الإسبانية، بحسب ما ذكرته السلطات الإقليمية أمس (السبت).

«الشرق الأوسط» (مدريد )

مارتا بيرغمان: «الركض الصامت» معالجة إنسانية لـ«الهجرة غير المشروعة»

يعرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان القاهرة (الشركة المنتجة)
يعرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان القاهرة (الشركة المنتجة)
TT

مارتا بيرغمان: «الركض الصامت» معالجة إنسانية لـ«الهجرة غير المشروعة»

يعرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان القاهرة (الشركة المنتجة)
يعرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان القاهرة (الشركة المنتجة)

قالت المخرجة البلجيكية، مارتا بيرغمان، إن فيلمها الجديد «الركض الصامت» انطلق من رغبة عميقة في إعادة توجيه البوصلة نحو الأصوات التي تعيش في الظل، والأقدار التي تمرّ أمام العالم بلا أثر، رغم ما تحمله من توتر إنساني لا يقلّ قوة عن الحكايات الكبرى.

موضحة أن التفكير في الفيلم بدأ من سؤال ظلّ يطاردها لسنوات وهو كيف يبدو الإنسان حين يجد نفسه بلا جذور، وبلا يقين، وبلا طريق واضح، ووجدت أن الإجابة لا تُصاغ بالحوار بقدر ما تكتبها ملامح الأشخاص، والإيقاع الداخلي للبشر الذين يعيشون حياتهم تحت وطأة الخوف.

وأضافت مارتا بيرغمان لـ«الشرق الأوسط» أن «الفيلم لا يتعامل مع الهجرة غير النظامية كعنوان سياسي أو ككتلة اجتماعية واحدة، بل كعالم مليء بالتفاصيل الفردية التي تختبئ خلفها معاناة وارتباك وأسئلة معلّقة، فالشخصيات ليست نماذج جاهزة، بل أرواحٌ تواجه مصائرها على حافة العالم، يقودها مزيج من الأمل والخوف، والإصرار على النجاة مهما كانت الطريق معتمة».

وتؤكد أن الرهان الأساسي كان تقديم الهجرة بوصفها حكاية بشرية قبل أن تكون قضية، حكاية عن الحب، وعن الأسرة، وعن التمسك بالحياة في مواجهة كل ما يهددها.

المخرجة البلجيكية (الشركة المنتجة)

وأشارت إلى أن اختيارها المزج بين العربية والفرنسية لا يعكس فقط انتماءات الشخصيات، بل يكشف كذلك طبقات المشاعر التي يحاول كل منهم إخفاءها. وتقول إن «اللغة هنا ليست وسيلة للتواصل فقط، بل مساحة يتحرك فيها الصراع الداخلي، حيث يمكن لجملة قصيرة أو صمت طويل أن يكشفا ما لا تستطيع الكاميرا وحدها كشفه».

وتدور أحداث الفيلم، الذي يُعرض عالمياً للمرة الأولى ضمن المسابقة الرسمية للدورة 46 من «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي»، حول رحلة سارة وآدم اللذين عبرا الحدود إلى بلجيكا بطريقة غير قانونية برفقة طفلتهما الصغيرة البالغة عامين، في محاولة لاستكمال الطريق إلى إنجلترا حيث يأملان في بناء بداية جديدة. لكن الرحلة تبدأ بالانكسار حين يجد الثلاثة أنفسهم محشورين في صندوق شاحنة مع عدد من المهاجرين.

وفي مقابل هذا الخط الدرامي، يظهر ردووان، الشرطي البلجيكي الذي أمضى عشرين عاماً في مطاردة المهرّبين على الطرق السريعة، قبل أن يواجه في تلك الليلة واقعة تغيّر نظرته للعالم ولعمله ولذاته، حين يحاول فريقه اعتراض شاحنة يُشتبه في حملها مهاجرين.

وتؤكد المخرجة أن «هذا التوازي بين خط المهاجرين وخط الشرطي لم يكن لصناعة التناقض، بل للكشف عن هشاشة الإنسان في الجهتين، فالجميع في الفيلم يركض بعضهم هرباً، وبعضهم مطاردة، وبعضهم بحثاً عن معنى»، لافتة إلى أن التوتر الخفي بين الصمت والصراخ الداخلي هو جوهر الفيلم، وأن السؤال الحقيقي الذي يطرحه العمل ليس فقط كيف ينجو الإنسان؟ بل ماذا يبقى منه بعد النجاة؟

استغرق العمل على الفيلم وقتاً طويلاً (الشركة المنتجة)

وقالت المخرجة إن «العمل مع ممثلين من خلفيات ثقافية متعددة، يتحدثون بلغتين مختلفتين ويحملون تجارب شخصية مؤثرة، خلق طاقة خاصة داخل مواقع التصوير، خصوصاً أن أغلب المشاهد اعتمدت على الانفعالات الداخلية المكبوتة أكثر مما اعتمدت على الحوار».

وعدّت مارتا «هذا التنوع الثقافي واللغوي أعاد تشكيل الإيقاع العاطفي للفيلم، ومنح الشخصيات طبقات شعورية أكثر عمقاً، خصوصاً أن كثيراً من اللحظات القوية في الفيلم لم تُكتب مسبقاً، بل وُلدت من تفاعل الممثلين مع الموقف ومع بعضهم بعضاً».

وأضافت أن تجربتها الطويلة في السينما الوثائقية كانت محورية في بناء هذا العمل الروائي؛ لأنها علمتها الاقتراب من الشخصيات الهشّة بعين متفحصة وقلب منصت. وتقول إن «سنوات عملها السابقة على أفلام تتناول المجتمعات المهمّشة، ساعدتها على تطوير حساسية خاصة تجاه القصص التي تُروى عبر الصمت، وتجاه الوجوه التي تحتاج الكاميرا إلى وقت طويل لتفك شيفرة عواطفها»، مؤكدة أن «الركض الصامت» وإن كان فيلماً روائياً، فإنه يستعير من الوثائقي صدقه وخشونته وحدّته.

وقالت إن «الاهتمام الدولي الذي حظي به الفيلم قبل عرضه العالمي الأول يشير إلى أن القصص التي تمسّ جوهر الإنسان، خصوصاً في لحظات ضعفه، باتت أكثر قدرة على عبور الحدود»، مشيرة إلى أن الفيلم، رغم ارتباطه بجغرافيا محددة، يقدم حكاية ذات امتداد إنساني واسع؛ لأن جوهره لا يتعلق فقط بالهجرة، بل بالبحث عن معنى داخل عالم يزداد قسوة، وبالسعي للاحتفاظ بما تبقى من الذات في لحظات الانكسار.

وترى بيرغمان أن «التوتر النفسي الذي يعيشه كل من أبطاله، سواء كانوا مهاجرين أو رجال شرطة، يعكس صورة أكثر تعقيداً للواقع، ويكشف أن الجميع محاصرون بشكل أو بآخر داخل حدود لا يختارونها»، مؤكدة أن العمل بالنسبة لها ليس فيلماً عن الهجرة بقدر ما هو «عن الركض الداخلي الذي يعيشه الإنسان حين يجد نفسه واقفاً بين ماضٍ لا يستطيع الرجوع إليه، ومستقبل لا يعرف الطريق إليه»، على حد تعبيرها.


خيوط تحكي... النسيج كجسر بين التراث والفن الحديث

تحضير عمل «عمتي والكرورو» للفنانة زينب أبو حسين (إنستغرام)
تحضير عمل «عمتي والكرورو» للفنانة زينب أبو حسين (إنستغرام)
TT

خيوط تحكي... النسيج كجسر بين التراث والفن الحديث

تحضير عمل «عمتي والكرورو» للفنانة زينب أبو حسين (إنستغرام)
تحضير عمل «عمتي والكرورو» للفنانة زينب أبو حسين (إنستغرام)

كل منسوجة يدوية تحمل حكاية، تحمل أصواتاً وروائح موروثة، كل منها تحمل بصمة خاصة، وأيضاً لمسة عن تاريخ وثقافة مجتمع.

مثلت المنسوجات جانباً مهماً في أعمال الفنانتين السعوديتين الدكتورة أسماء الجهني وزينب أبو حسين، ومعهما يجري حوارنا عن النسيج كوسيط رئيس في الأعمال الفنية. دار الحديث حول الذاكرة والحكايات، وعن دور البيئة في تكوين رؤيتهما الفنية، وسألنا: كيف يصبح التقليدي معاصراً؟

عن الذاكرة والإلهام

نشأت الفنانة زينب أبو حسين في جزيرة تاروت شرق السعودية، حيث تتعانق البساتين مع أمواج البحر، في بيئة ريفية بسيطة، اعتادت نساؤها صنع كل شيء بأيديهن. تستحضر زينب ذكريات جدتها التي كانت تجدل السلال، ووالدتها التي وصفتها بالخياطة الماهرة، وتقول: «عندما تكبرين في بيئة تعتمد على الصناعة اليدوية، يصبح العمل اليدوي قريباً من روحك».

الفنانة زينب أبو حسين (الفنانة)

كانت الفنانة الدكتورة أسماء الجهني في طفولتها منشغلة بمراقبة حركة الإبرة وأشكال التطريز؛ إذ تتميز نساء المدينة المنورة بحرفة التطريز والكروشيه. وأيضاً امتهن بعض أفراد عائلتها حرفة السدو، مما دعاها هي أيضاً لتجربة هذه الحرف منذ الطفولة. لكن، لماذا قررت أن تجعل النسيج جزءاً من ممارستها الفنية؟

تقول الجهني: «تبحرت في عالم النسيج أثناء دراستي لمرحلة الماجستير في الولايات المتحدة، وتعلمت تقنيات تقليدية وحديثة. وعند اطلاعي على تاريخ النسيج ودوره الجوهري في مجالات مثل الطب والهندسة، استشعرت أهميته، ولمست أيضاً مرونته وقدرته على خدمة أي فكرة، وخاصة في المجال الفني». وكذلك كان لبيئة المدينة المنورة أثر على رؤية أسماء الفنية؛ فهذه المدينة المقدسة تتمتع بمكانة خاصة جعلتها حاضنة للأعراق والحكايات المتعددة. تضيف قائلة: «تنوع المجتمع المديني علمني قيمة الانتماء المتعدد وتقدير الاختلاف». طوّعت أسماء هذا الأثر في النسيج ليصبح مساحتها الخاصة التي تتعانق فيها جميع الحوارات والأفكار والحكايات.

الفنانة والباحثة د. أسماء الجهني (الفنانة)

أما زينب أبو حسين فأرادت الاستعانة بكل ما ارتبطت به في طفولتها كأداة تعبير في أعمالها الفنية، فهي تستعين بالنسيج والتطريز، مستلهمة الزخارف من نباتات جزيرة تاروت، أو مما تتذكره من زخارف على ملابس جدتها ووالدتها. وهي أيضاً تستخلص الأصباغ من المواد الطبيعية. تقول: «هذه المواد والروائح هي بمثابة آلة زمن، تعيدني لذلك الزمن الحنون». حتى حكايات أعمالها الفنية تستقيها من نساء الجزيرة المنسيات، وتتخذهن رمزاً لكل النساء، وتضيف: «أعمالي حميمية جداً، أصنعها بيدي وأنا بين عائلتي».

«أصوات منسوجة»

عبّرت الفنانة أسماء الجهني في عملها «أصوات منسوجة» عن مفهوم «المجلس» في الثقافة السعودية؛ كونه الحيز الذي يستحوذ على أهم مساحة وأكبر عناية في المنزل كمصدر للتباهي. ومن ناحية أخرى يعكس العمل كيف أصبحت هذه المجالس مساحات شبه مهجورة في البيوت، نتيجة المتغيرات التي طرأت على المجتمع السعودي. يتكون «أصوات منسوجة» من ست قطع كل منها يمثل نوعاً من المجالس، مثل مجلس النساء ومجلس العائلة ومجلس الرجال ومجلس البادية، بالإضافة إلى منسوجتين تفاعليتين. كل مجلس أو منسوجة تتضمن أصواتاً خاصة، سُجلت من مجالس حقيقية. أما المنسوجتان الإضافيتان فتتفاعلان مع أصوات الزائرين مظهرتين إضاءات متنوعة بحسب تردد الصوت، في رمزية للمساحات الصامتة التي تُخلق فيها الحياة من جديد بوجود الزوار وتفاعل الأفراد فيما بينهم. وعن الأسئلة التي يطرحها العمل تجيب: «تساءلت عن الذاكرة التي نحتفظ بها من حوارات المجالس، وشعور الانتماء الذي يتشكل داخلنا ضمن هذه المساحات. ومن خلال البحث الذي أجريته عن الأصوات والمجالس توصلت إلى أن الذاكرة متغيرة وفقاً لتغيراتنا نحن؛ بمعنى أن أصوات المجالس ليست وثيقة ثابتة، ولكن فكرة تختلف من شخص لآخر وقابلة للتطور مع الوقت».

تفصيلة من عمل «المجلس» للفنانة أسماء الجهني (الفنانة)

«عمتي والكرورو»

ومن ناحيتها، تحكي لنا الفنانة زينب أبو حسين عن فكرة عملها «عمتي والكرورو ». الكرورو هو نوع من البهار خاص بجزيرة تاروت مصنوع من ثمر الرمان المجفف، ويستخدم فقط لطهو المأكولات البحرية. تقول الفنانة: «أشعر أن هذا البهار هو نقطة التقاء بين البستان والبحر وبين الفلاحين والصيادين؛ لذا أردت توثيقه، وأردت التعبير عن شوقي لمشهد عمتي وهي تصنعه بنفسها».

يتكون العمل من سجادة من قماش الكتان المصبوغ بالحنة والمطبوع بتقنية الطباعة الحريرية بأصباغ مستخلصة طبيعياً من ورد الرمان وقشوره والزعفران والنيلة، ومطرز بزخارف مستلهمة من النخيل والبساتين. وبسؤالنا عن العبارات التي ترافق أغلب أعمالها، توضح لنا أن النصوص تأتي لتكمل باقي أحداث قصتها، وهذه العبارات إما نثرية أو شعرية، وإما تكون من كتاباتها الشخصية أو من أبيات زوجها الشاعر.

«عمتي والكرورو»... مشروع إقامة «مسك الفنية» للفنانة زينب أبو حسين (الفنانة)

بين التقليدي والمعاصر

تمزج أسماء الجهني في ممارستها الفنية بين التقليدي ممثلاً في حرفة النسيج، وبين التكنولوجيا الحديثة؛ إذ ترى أن توظيف التقنيات المعاصرة يسهم في إيصال الفكرة، ويفتح آفاقاً أوسع للإبداع. وفي المقابل، ترى أن الاستعانة بعناصر تعكس الهوية الثقافية تسهم في تعزيز أصالة العمل الفني ليغدو نتاجاً صادقاً يجمع بين عراقة الماضي وروح الحداثة. أما عن استخدام النسيج ليصبح وسيطاً تفاعلياً فتوضح: «حينها يكون المتلقي جزءاً من المعنى والفكرة، وأرى أن هذا التوجه يشكل جانباً مهماً في الفن المعاصر؛ إذ لا يكتفي العمل الفني بتعزيز المشهد البصري فقط، وإنما يمتد ليوقظ الحواس الأخرى كالسمع واللمس».

«أصوات منسوجة» للفنانة أسماء الجهني (الفنانة)

وعلى الجانب الآخر، تتمسك زينب أبو حسين بالتقنيات التقليدية في التعامل مع النسيج واستخلاص الأصباغ، وهي أيضاً تستعين بأسلوب المنمنمات في زخرفة أعمالها، وتهتم بشكل خاص بمنمنمات العصر الإسلامي الذهبي، وهذا ما يثير تساؤلاً حول مقدرة الوسيط التقليدي على حمل خطاب معاصر وعالمي.

ترى أن ألوانها المستخلصة طبيعياً تحمل خصوصية؛ فالألوان تتأثر درجاتها بتوفر المواد واختلاف المواسم، وكذلك التطريز الذي يختلف أسلوبه من منطقة لأخرى، ومن فنان لآخر. هذه التفاصيل الخاصة بأعمالها تضفي عنصر إبهار، وهي أيضاً قادرة على إثارة فضول المتلقي المعاصر من وجهة نظرها، وتضيف: «الفنان الذي يعبر بصدق عن مشاعره ستصل أعماله إلى قلوب الجميع من دون حواجز حتى وإن اختلفت اللغات. وهذا ما يدفعني باستمرار للبحث والاستكشاف ومشاركة الحكايات المحلية التي تنجح دائماً في ملامسة وجدان الناس في كل مكان».


مؤتمر «نساء على خطوط المواجهة» يعود بعد غياب

الوزيرة السورية هند قبوات
الوزيرة السورية هند قبوات
TT

مؤتمر «نساء على خطوط المواجهة» يعود بعد غياب

الوزيرة السورية هند قبوات
الوزيرة السورية هند قبوات

بعد توقف قسري في عام 2019 يعود مؤتمر «نساء على خطوط المواجهة» إلى بيروت، حيث عقد نسخته الـ12 في فندق فينيسيا في قلب العاصمة. وهو من تنظيم مؤسسة مي شدياق (إم سي إف ميديا إنستيتيوت)، وأُقيم بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women)، برعاية وحضور رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، وبحضور السيّدة الأولى نعمت عون.

محاور المؤتمر

تناول المؤتمر موضوعات عدّة، أبرزها إعادة إحياء دور المرأة في لبنان والعالم العربي، وكيفية إبراز النماذج النسائية الملهمة التي تخطّت التحديات وصنعت تأثيراً حقيقياً في المجتمع اللبناني وفي دول المنطقة. وتضمّنت فعالياته مشاركة شخصيات بارزة في السياسة والدبلوماسية وعالم الأعمال، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والإعلام.

وفي كلمة ألقاها الرئيس نواف سلام، خلال افتتاح المؤتمر، شدَّد على وجوب إقرار تشريعات وسياسات تفتح المجال أمام مشاركة النساء في الحياة العامة بعيداً عن الرمزية، مشيراً إلى أن النساء يشكلن 27.5 في المائة فقط من القوى العاملة، وأكثر من 80 في المائة من ضحايا العنف الرقمي في لبنان، مما يستدعي إصلاحات شاملة في مختلف المجالات.

وأكّد المؤتمر تمسّكه بتحفيز النقاشات الضرورية حول سبل تعزيز حضور المرأة بوصفها فاعلاً أساسياً في السياسة والاقتصاد والإعلام. وتطرّق في حلقات نقاشية إلى دور القيادات النسائية في إحداث تحوّلات هيكلية داخل المؤسسات، وإلى أهمية تضييق الفجوة الرقمية بما يضمن مساواة تواكب متطلبات العصر. كما سلّط المؤتمر الضوء على إسهامات رائدات الأعمال في دفع التحوّل الرقمي، ودورهن في تطوير ممارسات أكثر ابتكاراً داخل القطاع الخاص. وفي موازاة ذلك، ركّز المؤتمر على أثر الإعلام والانتخابات في تشكيل السياسات الوطنية، مؤكّداً أن تمكين المرأة في هذه المجالات مجتمعة، يُشكِّل قاعدة صلبة لتحوّل مجتمعي أوسع وأكثر استدامة.

وخلال كلمة ألقتها في المؤتمر، أكّدت الوزيرة السابقة مي شدياق، رئيسة مؤسسة «إم سي إف» على أهمية مشاركة المرأة في القيادة وصنع التغيير الاجتماعي والسياسي. وأشارت إلى أن هذا المؤتمر يأتي تأكيداً على أهمية دور المرأة في النهوض بالمجتمع، وإيمانها بقدرتها مع الرجل على صناعة التغيير في عالم يزداد اضطراباً.

وعن مدى حاجة العالم العربي إلى مؤتمرات من هذا النوع، والدور الذي تلعبه في هذا الشأن، قالت في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «أحاول أن ألعب هذا الدور. وكلما أقفلت الأبواب في وجهي أفتحها من جديد».

وأشارت شدياق إلى أن المؤتمر منذ انطلاقته الأولى في عام 2013، عملت على توسيع نطاقه عربياً. «أقمنا في عام 2016 النسخة الأولى منه في الأردن برعاية الملكة رانيا، بعدها توقفنا عن عقده؛ بسبب الجائحة وحرب غزة وكنا نعقده (أونلاين)».

تستطرد: «اليوم نعود من جديد بنسخة جديدة. ولاحظنا حماس الشيخة جواهر إبراهيم الصبّاح، مساعدة وزير الخارجية لشؤون حقوق الإنسان في دولة الكويت لإقامة المؤتمر في بلدها. ونأمل أن يتحقق ذلك، فتكون هناك إمكانية توسّعه عربياً، لا سيما أن هذا المؤتمر يحمل نكهة خاصة».

وأشارت شدياق إلى أنها في هذا المؤتمر تضع كل الاعتبارات جانباً، فلا تدخل فيه أي انتماءات سياسية وحزبية. وتتوجه إلى الجميع من دون استثناء، مضيفة: «كما لاحظتم، فالمؤتمر يجمع تحت سقفه جميع الأفرقاء في لبنان، وأعدّ هذا الأمر اعترافاً وإقراراً بأهمية انعقاده».

وفي لقاء مع الشيخة جواهر علّقت على إمكانية عقد هذا المؤتمر في الكويت. وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «الكويت تفتح قلبها أمام الجميع، والمرأة حاضرة دائماً في أروقة الاجتماعات الرسمية. الحضور الكريم اليوم في المؤتمر يرتقي إلى التمثيل الرسمي، مع أن الحدث يحمل طابعاً غير رسمي، وأصداء النقل المباشر له عبر محطة تلفزيون لبنان لها أهمية كبيرة. ومن ناحيتنا فلا نستبعد تنظيم نسخة منه في بلدنا».

الإعلام وصورة المرأة

وعلّقت الشيخة جواهر إبراهيم الصبّاح على الدور الذي يجب أن يلعبه الإعلام في هذا الشأن. ووصفته بـ«مقصّر في تسليط الضوء على الدور الإيجابي للمرأة»، فهذا النمط يجب أن يتغيّر لإعادة ترتيب المفاهيم الجديدة.

وتضيف في سياق حديثها: «المشهد النافر الذي يلفتني اليوم بينما يخص المرأة هو تقديمها دائماً بصورة الضحية. وهو أمر لا يجب القبول به، لأننا في الحروب والنزاعات جميعنا ضحايا. فلماذا التركيز على المرأة فقط؟». وتستطرد: «المرأة بطلة، وإن كانت تزجّ في نزاعات لا دخل لها فيها. وأؤكد على أهمية مشاركة المرأة على طاولات المفاوضات والمصالحات الوطنية لنسمع صوتها».

رسائل أمل من سوريا

من ناحيتها، عبّرت وزيرة الشؤون الاجتماعية في الجمهورية العربية السورية، هند قبوات عن تفاؤلها بالمستقبل. وأكّدت أنه بعد اليوم لن نسمح بارتكاب أي خطأ تجاه المرأة. وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «لن نسمح بعد اليوم بتهميش أي فرد من مجتمعنا، امرأة كانت أو رجلاً. سكتنا على مدى 50 سنة خلت. واليوم نريد أن نمارس حرية التعبير والرأي، ونتبادل الانتقادات وجهاً لوجه من دون مواربة أو خوف. نبني دولة جديدة بعيداً عن القمع الذي مورس في السابق».

وعدّت قبوات أن المرأة السورية لعبت دوراً أساسياً في بلادها. «هي من دون شك السبب في عدم نشوب حرب أهلية. وهي مَن حفزّ المجتمع على الاتحاد والتضامن في السرّاء والضرّاء عندما خلا من رجاله. فاليوم تستحق السوريات أن يكنّ في الصف الأول».