يمكن تقديم الممثلة رندا الأسمر واحدةً من آخر عناقيد المسرح اللبناني الأصيل، إذ تتلمذت على كبار رجالاته، مثل الراحل ريمون جبارة، ولُقّبت بـ«سيدة المسرح اللبناني».
لم تقتصر مهاراتها على التمثيل المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، فهي أيضاً مُترجمة لنصوص مسرحية، وعملت في إدارة أبرز المسارح والمهرجانات الثقافية. وتدير اليوم «مهرجان ربيع بيروت» في «مؤسّسة سمير قصير».
ورغم الجوائز والتكريمات التي حصدتها حول العالم، فإنّ تكريمها الأخير في بلدتها الأم، العربانية، حمل طعماً مختلفاً، كما تقول، لأنه جاء من أرض تربطها بها علاقة وثيقة، بطبيعتها وأشجارها وشمسها وقمرها، التي شكّلت أساس شخصيتها المجبولة بالحقيقة. وتضيف لـ«الشرق الأوسط»: «أحمل ذكريات كثيرة من بلدتي. وعندما تكون علاقتك بالأرض متينة، تنعكس عليك صلابة ومتانة، فتكون مُحصّناً ولا تهتزّ بسهولة».
وتوضح: «هذا التكريم يعني لي كثيراً، رغم التكريمات السابقة. فهو ينبع من قلب بلدة عشتُ فيها أجمل مراحل طفولتي وشبابي. لا تزال قريتي تحتفظ بمزايا الضيعة اللبنانية العريقة، وأنا أُشبه روحها البسيطة لأنها بقيت محافظة على أصالتها. أهل ضيعتي بسطاء وخيّرون، وهذه المبادرة أثّرت بي».

تروي الأسمر كيف اختارت الفنّ طريقاً لها في زمن لم يكن المجتمع يتقبّله بسهولة، إذ لم يشجّعها أحد، حتى أنّ أهل العربانية آنذاك لم يستوعبوا خيارها: «أن يأتي اليوم الذي يكرّمونني فيه عن قناعة بنجاح مسيرتي، فهذا يُسعدني كثيراً».
وتشير إلى أنّ طريقها لم يكن سهلاً، إذ كابدت وجاهدت وحدها لتثبت صحّة قرارها: «ما ساعدني على تثبيت خطوتي هو تعاوني مع أشخاص جدّيين لا يستخفّون بالفنّ، ما زاد من تعلّقي بمهنة تنبع من شغفي بها».
وعن ذكرياتها مع قريتها، تجيب: «العربانية تعني لي فصل الصيف وقطاف الزيتون والعنب والتين وتحضير مؤونة الشتاء، واللمّة العائلية التي كانت والدتي الراحلة تصرّ على زرعها فينا، وكان همّها الأكبر نشر المحبة بين أفراد العائلة».
وتقفز أمام ذاكرتها مَشاهد كثيرة: «قد لا أستطيع إحصاءها لكثرتها. أذكر القداس الاحتفالي كلّ أحد، والمناسبات التي تجمع أهل القرية، والعمل في الأرض، وتجفيف التين، ورائحة الحطب والموقدة، وتحضير المربّيات من مشمش وكرز في (الدست) الكبير. أما أواخر سبتمبر (أيلول)، فموعد لتحضير مونة الكشك؛ هذا المكوّن الغذائي القروي اللذيذ».
وتأسف لفقدان الجيل الجديد علاقته بالأرض، وانشغاله بوسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى غزو الإسمنت الذي أفقد القرى خصوصيتها: «نحن تربّينا بين الحقول والحدائق والأشجار المثمرة، فكنا محظوظين».
على الخشبة، أدّت أدوار البطولة مع مخرجين كبار تركوا بصمتهم محلياً وعربياً. قدّمت «أوديب» في مهرجانات بيت الدين بإدارة منير أبو دبس، و«الخادمتان» مع جواد الأسدي، و«ثلاث نسوان طوال» مع نضال الأشقر ممثلةً ومترجمةً؛ وتعاونت مع شكيب خوري، وجوزف بو نصار، وغبريال يمّين. كما تركت بصمتها في الدراما التلفزيونية من خلال أعمال مثل «العاصفة تهب مرتين»، و«ياسمينا»، و«المذنبون»، وفي السينما عبر فيلمَي «الطائرة» و«الشهداء».
وعن متابعتها للحركة المسرحية، تقول: «أتابع بشكل دائم، خصوصاً أنني مديرة (مهرجان ربيع بيروت) المرتكز على الفنون والثقافات. أرى أننا بحاجة إلى جيل مسرحي جديد وجدّي. وبصفتي أستاذة جامعية، ألاحظ عن قرب رغبات طلابنا في المسرح والسينما، ويهمّني أن ينالوا فرصتهم».

وترى أنّ الفنّ بقي المتنفَّس الوحيد للبنانيين وسط الهموم، وأنه يشكّل هوية البلد، وتشير إلى وجود هوّة في المسرح بسبب غياب الكبار، ما يجعل الجيل الجديد عاجزاً عن فهم رؤيتهم: «أنا أقف في الوسط بين جيلَيْن عملت معهما عن قرب».
وإذ تنتقد تغاضي الجيل الشاب عن أساسيات الفنّ، تأسف لغياب النقد الموضوعي: «كنا نخشى آراء النقاد قديماً، أما اليوم فالجميع يمدح الجميع، وأحياناً يبالغ، كما في ظاهرة الترويج بعد العروض الأولى».
وعن غيابها عن المسرح، توضح: «أراقب وأفضّل أن تأتي إطلالتي عن قناعة لا لمجرّد الظهور. لكن هناك غياب تام لدعم الإنتاج المسرحي، وقلّة في عدد المسارح، ما يجعل أيّ مشروع جديد رهناً بهذه العناصر». وتكشف: «أعمل حالياً على مسرحية جديدة، وآمل تنفيذها قريباً».
وهل انسحبت من الدراما؟ تردّ: «لم أنسحب، لكن ما يُعرض عليَّ لا يوافق تطلعاتي. منذ بداياتي عملتُ في مهنة أخرى لئلا أكون تحت رحمة التمثيل، بين إدارة (مسرح المدينة)، وإدارة (مهرجان ربيع بيروت)، والتعليم الجامعي، ما يتيح لي التأنّي في خياراتي».




