تحت ظلال ليل البقاع اللبناني، وبين أعمدة معبد باخوس الصامدة لقرون أمام تحوّلات الزمن، تستعدّ بعلبك لتكون خشبةً لأحد أعظم أعمال الأوبرا العالمية: «كارمن» لجورج بيزيه. في هذا الفضاء التاريخي، يقف الصوت اللبناني الشاب سيزار ناعسي، حاملاً معه الشغف والتحدّي، ومُجسّداً شخصية «زونيغا» ضمن العمل الأوبرالي الخالد.
سيزار ناعسي ليس غريباً عن دروب العالم. وُلد على عشق الموسيقى، ووجَّه خطواته نحو الأوبرا؛ هذا الفنّ المُركّب الذي لا يرحم، ولا يقبل سوى الأصوات المُتقنة والحضور الراسخ. درس في كندا، وتعمَّق في إيطاليا، حيث لا تزال المسارح تتنفّس ميراث جوزيبي فيردي وجاكومو بوتشيني. هناك، تعلَّم كيف يُصبح الصوت آلةً كاملة، وكيف يُصاغ التعبير من صميم كلّ نغمة. وبعد سنوات من التمرين والغربة، يعود اليوم إلى لبنان، ويقف على أحد أكثر مسارحه مهابة، ضمن إنتاج أوبرالي من الأضخم في تاريخ مهرجانات بعلبك الحديثة.

في ليلتَي 25 و26 يوليو (تموز) الحالي، وبالتزامن مع مرور 150 عاماً على ولادة أوبرا «كارمن»، تستعيد بعلبك حضورها البهيّ، وتؤكد أنها مكان لا تليق به العروض العادية. الفريد منها فقط، ما يليق. إنتاج كبير يحمل توقيع المخرج جورج تقلا، ويقود أوركستراه المايسترو توفيق معتوق. تُضاف إلى ذلك لمسة بصرية للفنان نبيل نحاس، وتصاميم أزياء لربيع كيروز، ورقصات مُصاغة بأنامل ندى كنعو وأنسيلمو زولا، ليغدو العرض احتفالاً بالعمل من جهة، وبالطاقات الإبداعية اللبنانية من جهة أخرى.
ولم يكن المؤلّف الفرنسي جورج بيزيه يعلم أنّ عملاً واحداً سيحمله إلى الخلود. رحل باكراً قبل أن تُنصفه القاعات الكبرى، وقبل أن يتسابق العالم على تأدية موسيقاه. حين كتب «كارمن»، لم يتوقَّع أن تُحدِث تلك الغجرية المتمرّدة انقلاباً في تاريخ الأوبرا، ولا أن تُواجَه موسيقاه المُفعمة بالعاطفة والتوتّر بالريبة والنفور. لم يُكمل عامه الـ37؛ وكان قد شهد على استقبال فاتر للعمل الذي سيُصبح لاحقاً أحد أكثر الأعمال الأوبرالية حضوراً وتأثيراً.

كان بيزيه، في عمقه، سابقاً لعصره. منح شخصياته أصواتاً حيَّة، ونفخ في نوتاته ما يُشبه النزيف. وحين عزف العالم موسيقاه بعد رحيله، بدا كأنه عاد من موته ليُطالب بحقّه في الاعتراف، وليُمسك بزمام المكانة التي انتزعتها منه اللامبالاة في حياته القصيرة.
وشخصية «زونيغا» التي يؤدّيها سيزار ناعسي، تتخطّى حصرها بدور ضابط عاديّ. فهي اختزال لبنية السلطة الذكورية التي تُحيط بكارمن، وتحاول إخضاعها لسطوتها أو لمنظومة الأمر الواقع. هو الضابط الذي يُراقب ويتربّص، ويتعامل مع كارمن (ماري غوترو) بكونها كائناً قابلاً للسيطرة. ولكن، في لحظة ما، تكشف مواجهته مع «دون خوسيه» (جوليان بير) تصدُّع النظام العسكري أمام زخم الحبّ. في أدائه لهذا الدور، يُدرك سيزار ناعسي أنّ الشخصية تقف عند الحدّ الفاصل بين التسلُّط والانهيار، وأنّ صوته ينبغي ألا يكتفي بتمثيل النفوذ، وإنما أن يُجسّد أيضاً الانكسار والخسارة.

التمارين تجري ليلاً بسبب حرارة النهار، والمسرح الخارجي يفرض استخدام الميكروفونات خلافاً للتقليد الأوبرالي المعتاد. وجرى استقدام مهندس صوت من البرازيل لضمان جودة الأداء والانسجام بين الأوركسترا والمُغنّين. كلّ تفصيل في هذا العرض يُدار بدقّة، يؤكد سيزار ناعسي لـ«الشرق الأوسط»، وكلّ عنصر فيه يُعدّ جزءاً من تجربة بصرية وسمعية تُحاكي المستويات العالمية.
في صرح بحجم بعلبك، لا مجال للخطأ. الوقوف على هذا المسرح امتحان، قبل أن يكون تسجيل مشاركة. وسيزار ناعسي يعرف جيداً ثقل التحدّي، ويحمله بكثير من الوعي رغم حداثة عمره، كأنه يقول من خلال حضوره إنّ الفنان اللبناني، حين يُعطَى المساحة والدعم، قادر على الوقوف بين الكبار، وأن يصبح واحداً منهم أيضاً.
حضور «كارمن» في بعلبك، كما يتحدّث عنه سيزار ناعسي، هو إعلان واضح بأنّ لبنان، رغم أسوأ الاحتمالات، لا يزال قادراً على الإنجاب الفنّي والتوهّج الجمالي. ومع كلّ طبقة صوت يُتقنها فنّانوه المجتهدون، وكلّ خطوة يخطونها على المسارح، يعود قليلاً إلى صورته التي نعرف، وإلى صوته الذي يجب أن يبقى حاضراً ومدوّياً.
وهذا البلد لا يعرف شيئاً عن غده. ذلك يجعل التفكير بإنتاج أوبرالي بحجم «كارمن» أبعد من مسألة ثقافية. إنه مغامرة ضدّ المجهول. وحدهم مَن يؤمنون بمكانة الجمال يجرؤون على خوض هذه المسارات. ومهرجانات بعلبك بثقلها التاريخي تُثبت أنّ الفنّ قادر على ترميم الإيمان بما هو أسمى، وإعادة رسم صورة هذه الأرض، حين تتشوَّه، بالفعل الحيّ على الخشبة.

