رحيل الإعلامية هدى شديد... الأحلام العنيدة تتكسَّر

المحبوبة في الصحافة الإذاعية والمكتوبة والمرئية تخسر معركة السرطان

تمسَّكت هدى شديد بالحياة حتى الرمق الأخير (إنستغرام الإعلامية)
تمسَّكت هدى شديد بالحياة حتى الرمق الأخير (إنستغرام الإعلامية)
TT

رحيل الإعلامية هدى شديد... الأحلام العنيدة تتكسَّر

تمسَّكت هدى شديد بالحياة حتى الرمق الأخير (إنستغرام الإعلامية)
تمسَّكت هدى شديد بالحياة حتى الرمق الأخير (إنستغرام الإعلامية)

«لقد سلّمته نفسي ولتكُن مشيئته»، هذه العبارة آخر ما ردّدته الإعلامية اللبنانية هدى شديد. رحيلها عن نحو 59 عاماً، في يوم عيد الأم، لم يأتِ مصادفة. يقول أصدقاؤها إنها كانت الأم بحنانها وتعاملها مع الجميع؛ ومنزلها في منطقة التحويطة ببيروت كان بمثابة دار راحة، يقصده الزملاء ليتزوّدوا بالسلام، مُفرغين عند صاحبته الهموم والتعب والمشكلات.

بقيت هدى تصارع المرض حتى الرمق الأخير. كانت تقول عن نفسها: «أنا مقاتلة روحانية له». مهووسة بإخفاء حزنها ودموعها تحت إطلالة مُشرقة دائماً. الغد بالنسبة إليها ظلَّ غير موجود على روزنامة حياتها.

أمضت لحظاتها الأخيرة مُدركةً أنها تودِّع الحياة. يقول طبيبها ناجي الصغير: «بقيت حتى نَفَسها الأخير في وعيها الكامل. كانت متمسّكة بالأمل رغم كل شيء. عانت كثيراً، وكانت أوجاعها المؤلمة تتأتى من انتشار مرض السرطان في الكبد. كنا نخفّفها بحقن المورفين حتى الرمق الأخير. وبين الحقنة والأخرى، كانت تمازحنا وتضحك. وهو أمر نادر جداً لم أصادفه من قبل لدى مرضى هذا الخبيث».

عملت هدى شديد في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب (إنستغرام الإعلامية)

أغمضت عينيها وحولها يرفرف الحبّ الذي زرعته أينما حلّت. كانت تنثره بجرعات كبيرة على كل مَن يعرفها، وهي تردّد دائماً: «بالحبّ وحده يُشفى الإنسان»، فقدمّته على طبق من فضّة إلى الجميع من دون استثناء.

كثّفت هدى شديد إطلالاتها الإعلامية قبل رحيلها، كأنها كانت ترغب في أن تروي عطشها للشاشة حتى الرمق الأخير. ومع إعلاميين أمثال ريكاردو كرم ونايلة تويني، قالت كل شيء ومشت.

عملت الراحلة في الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع. دخلت إذاعة «صوت لبنان» عام 1997، ومارست عملها الإذاعي لـ11 سنة متتالية. وعام 2000، انتمت إلى الصرح الإعلامي الذي حلمت بدخوله منذ الصغر وهو جريدة «النهار». أما عملها في تلفزيون «المؤسسة اللبنانية للإرسال» (إل بي سي آي)، فاستمرّت فيه حتى النهاية؛ منذ عام 2007 حتى اليوم.

حقَّقت أكثر من سبق صحافي في مشوارها، وكان اسمها يرتبط مباشرة بالأخبار الإيجابية عن البلد. فكانت تتمسّك بأن تكون أول مَن يُعلنها، وآخرها كان انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزيف عون، فتزامن الخبر مع تقديمها برنامجها الحواري «نهاركم سعيد».

هدى شديد مع رئيس مجلس إدارة «إل بي سي آي» بيار الضاهر (إنستغرام الإعلامية)

بقيت هدى شديد تتصدَّر المشهد في نشرات الأخبار مراسلةً للقصر الجمهوري على مدى 30 عاماً. فكرّمها رئيس الجمهورية في حفل أقامه لها فيه، وتوجّه إليها قائلاً: «أنحني أمام قوّتك يا هدى، وما تعيشينه وتمرِّين به بكلّ إيمان ورجاء. لا يمكن لأيّ كلام، أو شهادة، أو تكريم، أن يسمو إلى اختبار أوجاعك بصبر المؤمنين. تقديري لكِ بلا حدود».

يومها، ألقت كلمة مما جاء فيها: «فرحتي اليوم عارمة، وكنت أمضيتُ أكثر من أسبوع أجاهد من أجل أن تكون روحي في هذا التكريم أقوى من مرضي الجسدي. كما رغبتُ بشدّة في أن أحضُر وأنا واقفة على رجلَيّ بدلاً من أن أكون على الكرسي المتحرّك الذي رافقني مؤخراً. وأرغب في استئذانك، فخامة الرئيس، لأقدّم هذه الدرع التكريمية إلى الشيخ بيار الضاهر وأسرة (المؤسّسة اللبنانية للإرسال) التي بقيتُ أحتفل فيها بالحياة».

أما رئيس مجلس إدارة «إل بي سي آي»، بيار الضاهر، فتوَّجها في تلك اللحظة بلقب «هدى الاستثنائية»، ليُشكّل العنوان الذي تصدَّر شاشة المحطة فور رحيلها.

هدى شديد خلال تكريم رئيس الجمهورية جوزيف عون لها (إنستغرام الإعلامية)

أصدرت هدى شديد كتابها «ليس بالدواء وحده» إثر رحلتها الأولى مع المرض وشفائها منه منذ عام 2013 حتى 2015. فروت فيه يومياتها معه ومصارعتها له. وفي أحد أحاديثها الإعلامية، علّقت: «اعتقدتُ بأنّ هذه المرحلة أصبحت ورائي. لكنه عاد إليَّ من جديد قبل سنتين. كنت أدركُ أنه يعيش معي تحت وسادتي. وقد يُفاجئني في أي لحظة ويقتحم جسدي».

وتروي في «بودكاست مع نايلة» أنها حملت الكآبة معها منذ صغرها. وهي في سنواتها الـ6، اضطرت عائلتها لإرسالها إلى ميتم: «الأمر شكّل (تروما) لم أتخلّص منها حتى إصابتي بالمرض للمرة الأولى. أستوعبُ تماماً سبب وضع أهلي لي هناك. كانوا يعيشون مرحلة التهجير بسبب الحرب، ورغبوا في أن أكون بعيدة عن حالتَي اللااستقرار والقلق. عتبتُ يومها على أمي لأنها تخلَّت عني. ولم أتصالح معها ومع الفكرة إلا عندما هاجم المرض جسدي. اليوم، وبعد رحيلها، صرتُ أشعر بقربها مني أكثر. فهي ملاكي الحارس في السماء».

تزوَّجت هدى شديد من زياد سعادة في سنّ الـ21، ولم يدُم زواجها منه سوى 5 أشهر لرحيله إثر معاناته السرطان: «كنتُ أعتقد أني أخذتُ حصتي من هذا المرض، وأنه لن يقترب مني لأني ذقتُ أوجاعه مع زوجي الراحل وعشت أحاسيسه».

وعن ماضيها، كانت تقول: «لا أحبّ تذكُّره لأنه ضجَّ بالكآبة. كنتُ فتاة القرية التي تطمح وتتمنّى، ولكن معظم أحلامها تكسَّرت. لم أستسلم يوماً، وعندما أقع، كنت أستجمع قوّتي لأقف من جديد».

كانت كتاباً مفتوحاً يستطيع أي شخص قراءة شفافيتها وصدقها. عاكستها الحياة كثيراً، لكنها لم تتخلَّ يوماً عن الأمل. تعلّقت به وبقيت حتى اللحظة الأخيرة تبحث وتقرأ عن علاجات للمرض العضال. تحمَّلت المتاعب والمصاعب بصلابة. وعندما فقدت شَعر رأسها لم تتوانَ عن الظهور على الشاشة مرتديةً «إيشارب» لتُخفي رأسها الأصلع. كما تصوَّرت حليقةً ونشرت الصورة عبر وسائل التواصل، مُرفقةً بعبارة: «أخيراً واجهت خوفي... إنها الحرية الحقيقية».

أما الحقيقة الوحيدة التي كانت تعترف بوجودها في الحياة، فهي الموت: «إنه الذي يتّفق عليه الجميع مهما اختلفت أديانهم وانتماءاتهم».

وبعدما انتشر خبر وفاتها مساء 21 مارس (آذار) الحالي، تصدَّر اسمها وسائل التواصل، وأصبحت «الترند» إذ انهمرت كلمات التعزية بها. وكتب رئيس الحكومة نواف سلام يرثيها: «هدى شديد. بعزم لا يلين، وصلابة إيمانها، بصوتها وقلمها ورسالتها تودّعنا اليوم»، مضيفاً: «صبرت على الوجع. غالبت المرض. صرعته مراراً قبل أن يصرعها».

أما زميلتها وصديقتها المقرَّبة جويس عقيقي، فودّعتها تقول عبر منصة «إكس»: «رح تضلّك شقفة من قلبي تتخلص الدني. بحبّك يا هدى القلب وإلى اللقاء يوماً ما».

بدورها، نعتها «إل بي سي آي» في بيان رسمي، واصفة هدى بـ«نبض المؤسّسة في روحها». ومما جاء فيه: «لقد واكبت المؤسّسة على مدى 20 عاماً في ظروف يُقال عنها، أقلّ ما يُقال، إنها صعبة ومحفوفة بالمخاطر. وكانت هدى دائماً في الخطّ الأمامي، لا تأبه بخطر أو تهديد، حتى ولو كاد أن يودي بحياتها. خسرت المؤسّسة هدى، لكن الخسارة الأكبر هي للوطن الذي أحبّته حتى الرمق الأخير، وللمهنة التي كانت الرئة التي تتنفّس منها. نودّع هدى، ونودع معها جزءاً منا».

تُقام الصلاة لراحة نفسها في الأولى بعد ظهر الأحد، 23 الحالي، في كنيسة مار جرجس بوسط بيروت. ثم ينقل جثمانها إلى مسقطها كفريا في زغرتا الشمالية.


مقالات ذات صلة

اغتيالات إسرائيل تستهدف «الجماعة الإسلامية» في لبنان

المشرق العربي 
عنصر بالجيش اللبناني في موقع استهداف قيادي «الجماعة الإسلامية» جنوب بيروت (أ.ف.ب)

اغتيالات إسرائيل تستهدف «الجماعة الإسلامية» في لبنان

استهدفت الاغتيالات الإسرائيلية، أمس، «الجماعة الإسلامية» في لبنان المقربة من حركة «حماس» و«حزب الله»، حيث طال أحد صواريخ المسيّرات، سيارة القيادي حسين عطوي.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي رئيس البرلمان اللبناني يترأس اجتماع هيئة مكتب المجلس (رئاسة البرلمان)

البرلمان اللبناني يدعم الوفد المالي المتجه إلى واشنطن بدراسة قانون «السريّة المصرفيّة»

يناقش البرلمان اللبناني، الخميس المقبل، مشروع قانون «السرية المصرفية» الذي أحالته الحكومة إليه، وأقرته اللجان المشتركة بمجلس النواب.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي قوات الأمن اللبنانية تتفقد موقع غارة جوية إسرائيلية بالقرب من بلدة الدامور الساحلية 22 أبريل 2025 والتي ورد أنها قتلت قائداً عسكرياً في «الجماعة الإسلامية» المتحالفة مع «حماس» (أ.ف.ب)

قتيل من «الجماعة الإسلامية» وآخر من «حزب الله» بغارتين إسرائيليتين في لبنان

قتل قيادي في «الجماعة الإسلامية» في لبنان الحليفة لـ«حركة المقاومة الإسلامية» (حماس) وعنصر في «حزب الله» جراء غارتين نفذتهما إسرائيل في بلدة تقع جنوب بيروت.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي عنصر في الجيش اللبناني في موقع استهداف قيادي في «الجماعة الإسلامية» جنوب بيروت (أ.ف.ب)

إسرائيل تغتال عضواً في «الجماعة الإسلامية» جنوب بيروت

أعلنت «الجماعة الإسلامية» في لبنان، الحليفة لحركة «حماس» الفلسطينية و«حزب الله»، الثلاثاء، مقتل أحد قيادييها بغارة إسرائيلية استهدفت سيارة جنوب بيروت.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي (الشرق الأوسط)

«الخارجية اللبنانية» تستدعي السفير الإيراني احتجاجاً على تدخله تجاه «حصرية السلاح»

استدعى وزير الخارجية اللبناني يوسف رجي، السفير الإيراني لدى لبنان مجتبى أماني؛ احتجاجاً على انتقاده المباحثات اللبنانية لنزع سلاح «حزب الله».

نذير رضا (بيروت)

«قطار الأطفال»... رحلة إنسانية إلى الزمن السينمائي الجميل

يتَّخذ الفيلم الإيطالي من الحرب العالمية الثانية خلفية تاريخية له (نتفليكس)
يتَّخذ الفيلم الإيطالي من الحرب العالمية الثانية خلفية تاريخية له (نتفليكس)
TT

«قطار الأطفال»... رحلة إنسانية إلى الزمن السينمائي الجميل

يتَّخذ الفيلم الإيطالي من الحرب العالمية الثانية خلفية تاريخية له (نتفليكس)
يتَّخذ الفيلم الإيطالي من الحرب العالمية الثانية خلفية تاريخية له (نتفليكس)

يحار المايسترو أي حذاءٍ ينتعل قبل الوقوف على الخشبة لقيادة الأوركسترا. ولكن قبل الحذاء، عليه أن يردّ على اتّصالٍ من والدته ينبئه بوفاة والدته! نعم، للمايسترو والدتان ستتّضح هويّتاهما وقصتاهما لاحقاً.

بهذا المشهد الذي يدور عام 1994، ينطلق فيلم «قطار الأطفال» (The Children’s Train) على «نتفليكس». وما إن يقف المايسترو على المسرح حاملاً كمانَه أمام الحضور والعازفين، حتى تبدأ رجعة زمنيّة طويلة تروي حكاية «أميريغو سبيرانزا» المستوحاة من أحداث حقيقية، والمقتبسة عن رواية صدرت عام 2019 للكاتبة فيولا أردوني.

وإذا كانت شخصية سبيرانزا متخيّلة، فإنّ القصة بتفاصيلها التاريخية والاجتماعية مستقاة من أرض الواقع.

الفيلم الإيطالي يأخذ مشاهديه إلى الفترة الممتدّة ما بين 1944 و1946، أي إلى نهايات الحرب العالمية الثانية. كان سبيرانزا في الثامنة من عمره، يتعلّم العمليات الحسابية من خلال عدّ أحذية المارّة، بينما قدماه حافيتان. عصفت الحرب بمجاعتها وظلمها ودمارها بالجنوب الإيطاليّ، فتحوّل أطفال نابولي إلى متسوّلين يأكلون القطط إن جاعوا، ويلعبون وسط الركام، ويجمعون الخرق البالية لمساعدة أهلهم في المصروف.

وسط هذه المأساة، تجد والدة أميريغو، «أنطونييتا»، نفسها عاجزة عن تأمين الطعام والرداء والتعليم لابنها الذي خسرت قبله ولداً. الأبُ سافر ولم يعد، فاضطرّت أنطونييتا للقيام بأي شيء من أجل سدّ جوع طفلها.

ملصق الفيلم الإيطالي «قطار الأطفال» (نتفليكس)

في تلك الأثناء، ينشط الحزب الشيوعي الإيطالي في مجال الاهتمام بضحايا الحرب. من بين مبادراته: «قطار السعادة» الذي يقلّ أطفالاً من الجنوب إلى الشمال، للمكوث لدى عائلاتٍ باستطاعتها أن تؤمّن لهم حياة لائقة، لبضعة أشهر على الأقلّ.

بين أقاويل الجيران الذين يصرّون على أنّ «القطار الشيوعيّ» يأخذ الأطفال إلى المحارق وقطع الرؤوس في سيبيريا، وبين نصائح مسؤولي الحزب بضَمّ أميريغو إلى الرحلة، تقع أنطونييتا في الحيرة. غير أنّ قسوة الفقر والجوع لا تترك أمامها خياراً سوى إرساله. مثله مثل 70 ألف طفل آخر، ينسلخ أميريغو عن والدته التي تتسلّح بالقسوة كي يسهل عليها التخلّي.

أرغمت الحرب العالمية الثانية عدداً من الإيطاليين على التخلِّي عن أطفالهم من أجل تجنيبهم الجوع (نتفليكس)

ثمّة سحرٌ ما في الأفلام الإيطالية؛ خصوصاً تلك التي تروي التاريخ. فكيف إذا كان أبطال الفيلم أطفالاً يركبون قطاراً يعبر الطبيعة الإيطالية الخلّابة، آخذاً إياهم إلى مصيرٍ مجهول؟

ليس «قطار الأطفال» من صنف الأفلام التي تضيّع وقت المُشاهد. فقد أتقنت المخرجة كريستينا كومنشيني مهمتها، ساردة حقبة لا يعرفها كثيرون عن تاريخ إيطاليا، من دون أن تغفل عن التفاصيل الإنسانية. وما يساعدها في إيصال الرسالة، السيناريو البسيط والسلس، إضافة إلى أداءٍ مميّز للممثّلين، ولا سيما الصغار منهم، وعلى رأسهم كريستيان تشيرفوني بشخصية أميريغو.

يقدِّم الطفل كريستيان تشيرفوني أداءً مميَّزاً بشخصية أميريغو سبيرانزا (نتفليكس)

على متن القطار، لا ثياب بالية على الأجساد الصغيرة الهزيلة؛ بل ملابس دافئة ومعاطف، ولا أقدام حافية هنا. يرفض أميريغو خلع حذائه الجديد، رغم مقاسه الضيّق، حتى خلال النوم. مع ذلك، فإنّ الأطفال قلقون ويعبّرون صراخاً وتمرّداً. ولكن في المحطة الشمالية؛ حيث يستقبلهم أهالي مودينا ومسؤولو الحزب بعطفٍ كبير، وبطعامٍ لم يتذوّقوا مثله من قبل، تبدأ النفوس في الهدوء، ويخفت الشكّ بأنّ المصير هو المحرقة.

يجد كل ولدٍ عائلة باستثناء أميريغو الذي عليه الاكتفاء بشابّة من أعضاء الحزب حاضنةً موقّتة. لا علاقة لها بالأمومة، وشخصيّتها القاسية لا توحي بأنها قادرة على الاعتناء بطفل. ولكن سرعان ما يذوب جليدها أمام طيبة أميريغو وعاطفته البريئة. يجد في «ديرنا» وعائلة شقيقها دفئاً حُرم منه. تكتمل طفولته وسطهم؛ حيث يأكل حتى الشبع، ويذهب إلى المدرسة، ويتلقّى دروس العزف على الكمان على يدَي شقيقها. لا يخلو الأمر من مواقف يواجه فيها التنمّر من أترابه، بينما الشوق إلى والدته لا يفارقه، وينتظر مرور أشهر الشتاء حتى يعود إلى نابولي.

ديرنا... الناشطة الحزبية التي اكتشفت أمومتها مع أميريغو (نتفليكس)

ينجح الفيلم في تقديم المشهد الاجتماعي الإيطالي في تلك الآونة بكل تفاصيله. التفاوت بين أهل الجنوب والشمال في إيطاليا لناحية انعكاسات الحرب على كلٍّ من المنطقتَين، والنظرة إلى الحركات السياسية التي نمَت على ضفاف الحرب كالفاشيّة والشيوعيّة، والتماسك الوطني الذي دفع الشماليين إلى احتضان الجنوبيين.

تتوطّد العلاقة بين ديرنا وأميريغو، وتشغّل المخرجة عدستها والحوار هنا من أجل إظهار وجهَين للأمومة سادا في إيطاليا آنذاك. مشاعر الطفل متأرجحة بين أمَّين: الأولى التي أنجبته ورعته قدر ما استطاعت ثم اضطرّت للتخلّي عنه كي لا يجوع ويتشرّد، والثانية التي اكتشفت أمومتها من خلاله فحضنته ومنحته العاطفة والأمان.

إلى أن تواجه ديرنا الامتحان ذاته الذي كان على أنطونييتا مواجهته. انتهى الشتاء وعلى أميريغو العودة إلى والدته. تودّعه بالدموع والطعام والكمان الذي صنعه له شقيقها في عيد ميلاده. ولكن في نابولي، يجد الطفل نفسه على موعدٍ مع القسوة والحرمان من جديد.

يتعامل الفيلم بسلاسة مع إشكاليَّة الأم البيولوجية والأم الحاضنة (نتفليكس)

ستعبر سنواتٌ خمسون قبل أن يستوعب أميريغو القرار الصعب الذي كان على والدته البيولوجيّة أن تتخذه. سنواتٌ لا يدخل الفيلم في تفاصيلها؛ بل يكتفي بالقليل عن أميريغو المايسترو الخمسينيّ، مركّزاً على السنتَين اللتَين أخذتاه من نابولي إلى مودينا في الثامنة من عمره.

قد يشعر المُشاهد بأنّ ثمة عناصر ناقصة في الحكاية، وبأنه يرغب في معرفة مزيد عن سيرة أميريغو الفنية، وكيف تطوّرت علاقته بوالدتَيه. ولكن تلك الثغرات لا تُفرغ «قطار الأطفال» من معانيه العميقة، بدليل أنّ الفيلم نال إجماعاً إيجابياً من النقّاد وتقييماتٍ جماهيرية عالية.