من مئذنة كل مسجد، تقوم أركانه في أصقاع الأرض، ينبعث صوت المؤذن منضبطاً بتواقيت محددة، ومقامات مرسومة، إعلاناً بدخول وقت الصلاة أو إيذاناً بالقيام لها، ويحمل أثير صوته إلى فضاء المسجد نداءً شجياً يحثّهم لأداء فريضة الصلاة. ومنذ 14 قرناً، يواظب المسلمون على أداء الفريضة في 5 أوقات معلومة خلال اليوم، يربطهم بها الأذان المسجدي، الذي بذل المسلمون على مدى تاريخهم، عنايتهم به، وبتجويد أدائه، ومن ذلك الاهتمام بمقامات الصوت وجماله، وتحبير الأداء ونداوته، وضبطه وفق الأحكام الشرعية المرعية في هذا المقام.

الأذان في مكة والمدينة
من منطلق مكانتهما لدى المسلمين في أصقاع الأرض، ينفرد الحرمان المكي والمدني، بأداءات خاصة في الأذان، تنتظم في إطار ما بات يعرف بالمقامات المدنية، والأخرى الحجازية، وثالثة تخلط بين الاثنين، وجميعها تضم تلوينات متعددة، تتفاوت بين قوة الصوت وجهوريته، وبين نداوة الصوت ورطوبته.
ولا يخرج المؤذنون في الحرم المكي، عن رفع الأذان بمقام الحجاز، باعتباره الأساس المتبع في هذا الباب، وتتبعه في ذلك أكثر الدول الإسلامية. وسجل مؤذن الحرم المكي الشيخ حمد دغريري سابقة في الوقت المعاصر، عندما صدح بأذان صلاة الفجر لأول مرة بمقام الصبا عام 2014.
وبالعودة إلى مقام «الحجاز» فإنه يتميز بالصوت القوي، وهو من أكثر المقامات روحانية وخشوعاً، ويبرز فيه طابع العواطف الشجية الخاصة، وإظهار التضرع والإنابة إلى الله، بينما يتميز المقام المدني المتبع في أداء الأذان من مآذن المسجد النبوي، بالرقة في الأذان والعُربات المطولة. ولمقامي الحجاز والمدني طريقة وأسلوب في طريقة العُرب، حتى في التبليغ وراء الإمام، ويتأثر أداء الأذان في الحرمين، بأحوال مختلفة لكل وقت صلاة، يقررها المؤذن، وربما اختار المؤذن مقاماً للأذان، وآخر للإقامة وثالث للتبليغ، وهو الصوت الثاني بعد تكبيرة الإمام في الحرمين المكي والنبوي.

«الأذان النجدي» أثر ممتد من الماضي
عُرفت بعض المناطق بطريقة محلية خاصة في رفع الأذان، تتفاوت في المستوى الصوتي وطريقته المنفردة في التنغيم، تشتهر على نمط معين ولا ترقى إلى درجة أن تكون مقاماً بذاته.
ومن ذلك صوت الأذان النجدي الذي لا تزال بعض المساجد تؤديه في مناطق الرياض والقصيم ومحيطها، ويحمل الأذان في طياته عبقاً من التاريخ وأثراً من ماضيه. ولا يقوم الأذان النجدي على أساس مقام منفرد، بل هو نمط محلي في رفع الأذان والتلاوة نابع من طريقة أهل نجد في القراءة، وقد اشتهر المؤذن الشيخ عبد العزيز بن ماجد وابنه عبد الرحمن بصوتهما المميز في أداء الأذان على طريقة أهل نجد لقرابة قرن كامل، وارتبط صوتهما ولونهما في أدائه، مع لحظات الإفطار في رمضان عند أهل الرياض طوال العقود الماضية، وقد كانت إذاعة القرآن الكريم تبث صوتهما الجهوري عبر أثيرها إلى جميع مستمعيها.

ويعتمد رفع الأذان وتلاوة القرآن بالطريقة النجدية على الجهورية والسلاسة والبعد عن التكلف، مع مراعاة مخارج الحروف والاهتمام بالتجويد. وينطوي الأذان النجدي، في إطار القراءة النجدية، وهي واحدة من تلاوات القرآن الكريم، اشتهر بها أهل نجد في السعودية، وتتميز بالتنغيم في صوت القارئ، وتطبّق أحكام التجويد بطريقة ترتيل فريدة تميل إلى الحدر، وهو سرعة التلاوة مع المحافظة على الضبط.
حقائق
منذ 14 قرناً
يواظب المسلمون على أداء الفريضة في 5 أوقات معلومة خلال اليوم، يربطهم بها الأذان المسجدي
والقراءة النجدية التزم بها وتعود عليها أهالي وسكان مدينة الرياض منذ القدم، وهي قراءة هادئة ورقيقة وسلسة يرق لها القلب، لا تخالف القراءات الأخرى، وقرأ بها الكثير من العلماء مثل مفتيي السعودية الشيخ محمد إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، واشتهر به قراء كثر تاريخياً. وفي 25 يونيو (حزيران) الماضي 2023، أعلنت وزارة الشؤون الإسلامية في السعودية، عن خطوة لتشجيع أئمة منطقة الرياض على الالتزام بالتلاوة النجدية، وذلك للحفاظ عليها من الاندثار والحاجة إلى إحيائها، وكشفت عن تنظيم دورات مكثفة للأئمة في الرياض على القراءة النجدية، لتعميق أثرها الممتد من الماضي.

