الأديب ميخائيل نعيمة استقبل زواره وكأنه لا يزال حياً

في ذكرى وفاة ابنة شقيقه مي

سهى نعيمة تستقبل الزوار وتروي الذكريات (الشرق الأوسط)
سهى نعيمة تستقبل الزوار وتروي الذكريات (الشرق الأوسط)
TT

الأديب ميخائيل نعيمة استقبل زواره وكأنه لا يزال حياً

سهى نعيمة تستقبل الزوار وتروي الذكريات (الشرق الأوسط)
سهى نعيمة تستقبل الزوار وتروي الذكريات (الشرق الأوسط)

تُعنى سهى حداد بإرث ميخائيل نعيمة، برموش العين. تعيش مع أغراضه كأنه لا يزال حياً، تحيط نفسها بلوحاته وصوره وكتبه ومخطوطاته ورسومه وأقلامه، وتستقبل زواره وتحدثهم عنه، بحماسة، وعن عاداته وسلوكياته.

سهى تقرأ لزوارها رسالة جدو ميشا لوالدتها (الشرق الأوسط)

هذه المرة ضربت، سهى «حامية الإرث» موعداً جديداً، لزوار المنزل (المتحف) حيث تعيش. توافد المدعوون طوال هذا النهار الشتوي الذي يصادف مرور 14 عاماً على وفاة والدتها (مي ابنة شقيق ميخائيل نعيمة). تقول لنا سهى: «المنزل مفتوح طوال السنة بناء على موعد، لكن 3 أيام يشرع فيها المتحف أبوابه دون سابق تخطيط، يوم ولادة الأديب ويوم وفاته، وتاريخ وفاة والدتها، ملاك ميخائيل نعيمة الحارس، التي اعتنت به حتى عاجله الأجل».

مكتب نعيمة (الشرق الأوسط)

بهذه المناسبة تقف سهى بين ضيوفها الذين تحلقوا في هذا النهار، وتروي أن «جدو ميشا»، كما تسميه، ما كان يعرف يوم ميلاده، يعرف فقط أنه ولد سنة 1889. وبعد عودته من أميركا سمع في حلمه صوتاً يقول له بإلحاح ويكرّر باللغة الإنجليزية: 17 أكتوبر. من يومها قرر أن يعتمد هذا التاريخ يوماً لميلاده بشكل رسمي.

مدخل المنزل المتحف (الشرق الأوسط)

حين تصل إلى المبنى الذي يقع فيه المنزل، في المطيلب (منطقة المتن) تقرأ على العمارة يافطة كبيرة كتب عليها: «ميخائيل نعيمة». على باب البيت في الطابق الأول، تستقبلك صورة عناقيد عنب إلى جانبها، عبارة مؤطرة مستلّة من كتاب الأديب «كرم على درب»، تقول: «كرمي على درب فيه الحصرم وفيه العنب. فلا تلمني يا عابر السبيل إن أنت أكلت منه فضرست». وتحت العبارة سلة من الحلوى، لا بد أن تتناول منها واحدة في ضيافة أديبك. تلتفت صوب الجرس الذي كُتب عليه اسم ميخائيل نعيمة، وفوقه صورته مذيلة بعبارة «يا ميّ يا شمسي ويا قمري!» بخط يده المرتجف. تقول سهى إنها تقصّدت أن يبقى الاسم على الجرس ليشعر الزائر بمهابة المكان.

ميخائيل نعيمة مع مي ابنة شقيقه (الشرق الأوسط)

البيت من الداخل بأثاثه وترتيبه، هو من صنيع ميخائيل نعيمة. «الصالة تماماً كما أرادها ورتب كنباتها. هنا على الجهة اليمنى من الكنبة الكبيرة كان يجلس أو على الكنبة الصغيرة التي إلى جوارها. هذا هو مكانه المفضل»، تخبرنا سهى. أما على طاولة الطعام فكان يجلس على رأسها، وهي تجلس على الطرف الآخر لإتمام دروسها.

نظارات نعيمة المعروضة في متحفه (الشرق الأوسط)

«كل شيء هنا من منتوج فكر جدو ميشا. على هذه الطاولة أكلنا وشربنا معاً، وصدّر للعالم ستة كتب، آخر 20 سنة من حياته». تقصد هنا كتاب «يا ابن آدام» الذي صدر 1969 و«نجوى الغروب» الذي ناجى فيه ربه مع غروب عمره 1973، و«من وحي المسيح» 1974، و«ومضات»، ومن ثَمّ «التاج والصولجان» الكتاب الذي لم ينته، لكن يتم العمل من أجل نشره قريباً. أما ترجمة كتابه «اليوم الأخير»، و«من وحي المسيح» فقد تم الانتهاء من ترجمتهما.

لوحة رسوم لميخائيل نعيمة (الشرق الأوسط)

قرب طاولة الطعام يلفتك إطار كبير، وضعت داخله مجموعةٌ من الرسوم، لوجوه، وأحياناً عدة وجوه تتداخل مع بعضها بعضاً، وغالباً ما تُحاط الرسوم بدوائر رحمية الشكل. «هذه أنجزها نعيمة بقلمه. لم يكن رساماً لكنه كان يحب الرسم وينكب عليه، وقد نشر بعضاً منها في كتبه».

الآلة الكاتبة لناسك الشخروب (الشرق الأوسط)

ولد ناسك الشخروب في بسكنتا، لكنه كان ينتقل في الشتاء إلى منزله في الزلقا (شمال بيروت)، يسكن مع ابنة شقيقه مي وابنتها سهى. وقضى السنوات العشرين الأخيرة من حياته معهما. تلك كانت السنوات العشرين الأولى من حياة سهى حداد نعيمة، التي وُلدت وله من العمر 80 سنة. هكذا هو الذي رباها ورعاها وتكفّل بها، وكان والدها قد تُوفي. ورحل نعيمة في الزلقا، مع مي وابنتها، لكن المؤجرين بعد رحيله طالبوا بالشقة. قرّرت سهى أن تنقل كل حاجيات جدها ميشا إلى المطيلب، وتعيد تركيب الشقة، تماماً كما كانت. وبمقارنة صور المنزلين، تعرف كم كانت حريصة حتى على تعليق اللوحات والصور كما كانت موجودة في المنزل الأصل.

مكتبة ناسك الشخروب (الشرق الأوسط)

الصالة مليئة بصور ميخائيل نعيمة الفردية والعائلية. والبيت مسكون باللوحات التي فيها عبارات من كتبه، سطرها له خطاطون علقت في أرجاء البيت.

تقودنا سهى إلى غرفة نوم الأديب الراحل التي فيها سريره وسرير آخر لشقيقه الذي كان ينام إلى جانبه حين يأتي لزيارته، ومكتبه ومكتبته، وخزانته، والشنط القديمة التي كان يستخدمها في تسفاره مرتّبة على الخزانة. في مكتبته كُتب عربية عكس الموجودة في بسكنتا حيث كتبه الأجنبية. وهنا أيضاً نُسخٌ من مؤلفاته، ومنفضة سجائره وصورة كبيرة له. وعلى مكتبه مجموعة صور، والقرود الثلاثة التي لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم، والبطارية التي كان يستخدمها عندما تنقطع الكهرباء.

سرير ميخائيل نعيمة وعليه عباءته (الشرق الأوسط)

على سريره الذي تقول سهى إنها أعادته تماماً كما كان، بشرشفه الأصفر، هنا مدّدت عباءته التي كنا نراه يلبسها في صوره الشهيرة. وتسرّ لنا سهى بأنها رفضت غسل بطانيته منذ وفاته كي تحتفظ برائحته فيها. لكنها وضعت أبجورته وأضاءتها، وكأنه هنا ليقرأ. وفي غرفة نوم مجاورة تحتفظ سهى بأغراضها الخاصة. هنا ينتهي حدود المتحف، وتبدأ خصوصية صاحبة الدار التي أبقت لنفسها هذه الغرفة الوحيدة التي لا يختلط فيها الخاص بالعام. أما غرفة الجلوس حيث وضعت التلفاز وعلقت لوحات لنعيمة، فتجلس سهى وتشرح لضيوفها: «كان متفوقاً في كل مراحله الدراسية. ذهب إلى واشنطن مع إخوته، والتحق بجامعة سياتل في شتاء عام 1912 وتخرج باختصاصين في وقت واحد: الأدب الإنجليزي والحقوق. لكنه لم يمارس مهنة المحاماة، ولم يكن يحب المحامين. وله جمله شهيرة، يقول فيها، درست القانون كي أعرف أين تحاك خيوط أكفان الحق».

عام 1916 بعد التخرج ذهب إلى نيويورك حيث التقى بجبران خليل جبران، في تلك السنة، وبقيا حتى سنة 1931 التي توفي فيها الأخير، ربطتهما صلة روحانية وفكرية، وأسّسا الرابطة القلمية.

شنط سفر الأديب (الشرق الأوسط)

«لم يحب ميخائيل نعيمة أميركا على الإطلاق لشدة ما هي مادية. كان يسميها (الدردور الأكبر)، لأن كل ما فيها يدور من أجل الدولار».

على أحد الجدران صفحات كُتبت بخط يد نعيمة، ورسالة حب كتبها إلى راعيته مي. تقف سهى وتقرأها لضيوفها: «منذ قُدّر لي أن أعيش وإياك وابنتك الحبيبة سهى، وأنا أحس أحسن الإحساس أن حياتي تقوم على ركيزيتين. وهاتان الركيزتان هما: المسيح في السماء، وأنت على الأرض. لقد حباك الله إلى جمال الصورة، جمال الفطرة. فأنت مفطورة على حب الصدق والأمانة والنظافة والترتيب في كل شيء حتى في أتفه الأمور. طعامك شهي، وكأس الماء من يدك، كأس من الراحة. بيتك ما شكى الفوضى في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل، وضيفك معزّز ومكرم، حتى ليشعر أنه صاحب البيت ويصحّ فيه قول الشاعر: يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا، نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل». تدمع سهى وهي تقرأ هذا النص، حتى لا تقوى على إكمال القراءة. فهذه ذكرى والدتها، والعلاقة غير العادية التي ربطت هذا الثلاثي الذي يحمل اسم (ميماسونا) جامعاً الحروف الأولى من أسمائهم واسم العائلة. وهو أيضاً اسم الجمعية التي شكّلتها كي تحمل عبء الإرث من بعدها.

في هذه الأجواء العائلية الحارة عاش ميخائيل نعيمة، ومحاطاً بحب مي وسهى لفظ أنفاسه الأخيرة على سرير، كأنه لا يزال ينتظره. وفي إطار عرضت آلة، كان يطحن بها القهوة، وفي إطار آخر، علّقت فردة لجواربه. كل قطعة في هذا المنزل تحكي سيرة أديب، كان شاهداً على قرن من التاريخ. تُوفي عن 99 سنة، لكن سهى تريد له أن يبقى حياً في ذاكرتنا، وتدعو الجميع لأن يعودوا لتحكي لهم أكثر في المرة المقبلة. فلا يزال في جعبتها الكثير.


مقالات ذات صلة

معرض «نسيج الشتاء»... تحيكه أنامل دافئة تعانق الشاعرية

يوميات الشرق الفنان أحمد مناويشي ولوحاته (إنستغرام «آرت ديستريكت»)

معرض «نسيج الشتاء»... تحيكه أنامل دافئة تعانق الشاعرية

يتمتع شتاء لبنان بخصوصية تميّزه عن غيره من المواسم، تنبع من مشهدية طبيعة مغطاة بالثلوج على جباله، ومن بيوت متراصة في المدينة مضاءة بجلسات عائلية دافئة.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق المخبز دفع الثمن (مواقع التواصل)

12 ألف «إسترليني» لكفيف جُرحت مشاعره بطرده من عمله

نال رجلٌ كفيف كان قد أُقيل خلال مدة الاختبار في مخبز، وسط مزاعم بأنه ارتكب أخطاء، مبلغَ 18 ألفاً و500 جنيه إسترليني؛ 12 ألفاً منها بسبب جرح مشاعره.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الأعذار لم تعُد مقبولة (د.ب.أ)

5 يوروات «عقاب» مدرسة ألمانية لكل تلميذ متأخر

قلَّة لم تتأخر عن موعد بدء الدراسة في الصباح، لأسباب مختلفة. لكنَّ اعتياد التلاميذ التأخر بجميع الأوقات يُحوّل المسألة إلى مشكلة فعلية.

«الشرق الأوسط» (نورمبرغ (ألمانيا))
يوميات الشرق مارك أبو ضاهر يحمل مجموعات من ملصقات يطبعها على دفاتر (الشرق الأوسط)

مارك أبو ضاهر... لبناني يوثّق الفن الجميل في دفاتر الذكريات

يملك مارك أبو ضاهر مجموعة كبيرة من الملصقات القديمة، بينها ما يعود إلى ملصقات (بوستر أفلام)، وبطلها الممثل اللبناني صلاح تيزاني المشهور بـ«أبو سليم».

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق امتهانُ التحكُّم من اللحظة الأولى (غيتي)

الأجنَّة تتحكَّم في الأمهات بـ«الريموت كونترول»

آلية مدهشة يستطيع الجنين من خلالها التحكُّم في طبيعة المغذّيات التي يحصل عليها من الأم خلال فترة الحمل اعتماداً على جين معيَّن ينتقل إليه عن طريق الأب.

«الشرق الأوسط» (لندن)

اشتعل وجهه خلال جراحة... عائلة مريض تطالب مستشفى أميركياً بتعويض قدره 900 ألف دولار

كلية الجراحين الأميركية لاحظت أن غرف العمليات تحتوي على «ظروف مثالية للحريق» (رويترز)
كلية الجراحين الأميركية لاحظت أن غرف العمليات تحتوي على «ظروف مثالية للحريق» (رويترز)
TT

اشتعل وجهه خلال جراحة... عائلة مريض تطالب مستشفى أميركياً بتعويض قدره 900 ألف دولار

كلية الجراحين الأميركية لاحظت أن غرف العمليات تحتوي على «ظروف مثالية للحريق» (رويترز)
كلية الجراحين الأميركية لاحظت أن غرف العمليات تحتوي على «ظروف مثالية للحريق» (رويترز)

تطالب عائلة رجل في ولاية أوريغون الأميركية بتعويض قدره 900 ألف دولار من أحد المستشفيات، بعدما اشتعلت النيران في وجه المريض في أثناء خضوعه لعملية جراحية بينما كان مستيقظاً، بحسب صحيفة «الغارديان».

تَرِد هذه المزاعم في دعوى قضائية مرفوعة من قبل زوجة جون مايكل مردوخ ضد جامعة أوريغون للصحة والعلوم. وتؤكد الدعوى أن الحادث وقع في أثناء خضوعه لعملية جراحية في عام 2022، وسط علاجه من سرطان الخلايا الحرشفية، وهو سرطان في اللسان. وفقاً للدعوى، فشل الطاقم الطبي في ترك الكحول الذي تم مسحه على وجهه يجف بشكل صحيح، مما تسبب باشتعال جلده.

تروي الدعوى كيف كانت جراحة مردوخ عبارة عن فتحة في القصبة الهوائية، أو إجراء لإدخال أنبوب تنفس في حلقه. لتعقيمه للعملية، تم مسحه بالكحول الأيزوبروبيلي. لكن الكحول لم يجف بشكل صحيح، وأشعل شرارة من أداة جراحية مما تسبب بحريق في وجهه، وفقاً للدعوى.

وذكرت تقارير صحافية أن مردوخ كان «مستيقظاً وواعياً» عندما بدأ الحريق، وكان يتغذى بالأكسجين، بالإضافة إلى الكحول الذي لم يتبخر.

عاش مردوخ لمدة ستة أشهر بعد الجراحة، لكنه توفي في يونيو (حزيران) 2023. وذكر نعيه أنه كان يبلغ من العمر 52 عاماً.

وقال المحامي رون تشنغ، الذي يمثل أرملة مردوخ، توني، ورفع الدعوى القضائية في ديسمبر (كانون الأول): «هذا أمر لا يحدث أبداً... لم يكن يجب أن يحدث أبداً».

وعلى الرغم من أن الحادث الجراحي لمردوخ لم يقتله، فإنه عانى من ندوب مشوهة وتورم وجروح لم تلتئم، كما قال تشنغ.

وأشار إلى أنه على الرغم من عدم قدرة مردوخ على التحدث بوضوح في ذلك الوقت، فإنه كان لا يزال قادراً على نقل الصدمة التي تعرض لها من الحروق إلى زوجته.

في العام الماضي، لاحظت كلية الجراحين الأميركية أن غرف العمليات تحتوي على «ظروف مثالية للحريق» بسبب مصادر الاشتعال والأكسجين والوقود. تتسبب الأجهزة الجراحية الكهربائية في نحو 70 في المائة من الحرائق الجراحية في الولايات المتحدة، وفقاً للكلية. وفي 75 في المائة من الحالات، كانت البيئات الغنية بالأكسجين متورطة بالحوادث. وكانت مستحضرات الجلد القائمة على الكحول أيضاً «مصادر وقود شائعة في أثناء الحرائق الجراحية عندما لا يُسمح لها بالتبخر تماماً».