منصور الرحباني في عيون نجوم مسرحه

رفيق علي أحمد وغسان صليبا وهبة طوجي يحيّون «الأستاذ» في ذكرى رحيله

منصور الرحباني في عيون نجوم مسرحه
TT

منصور الرحباني في عيون نجوم مسرحه

منصور الرحباني في عيون نجوم مسرحه

قبل 16 شتاءً، أَبحرَ منصور الرحباني وحدَه صوب الضفة الأخرى. ترك في أدراج مكتبه الصغير في أنطلياس سطوراً وأفكاراً وأبياتَ شِعر ما زالت تتكاثر حتى اليوم، وتتدفّق أغنياتٍ ومشاريعَ مسرحيات.

من الصعب أن يغيب منصور. في مئويّته التي تصادف هذا العام، ها هو يعود بصوت هبة طوَجي وألحان ابنِه أسامة ضمن أوراتوريو خاص بديوانه «أسافر وحدي ملكاً» يصدر خلال أشهر. أما غسان صليبا، فكلّما صعد إلى المسرح، طالبه الجمهور بغناء «غريبَين وليل»، و«وطني بيعرفني»، و«حامل عطر بلادي»، وغيرها من أعمال الرحباني. ومع كل نص مسرحي جديد يكتبه رفيق علي أحمد، يرجع إليه أسلوب منصور و«جملته المسرحية الانسيابية».

يستعد أسامة الرحباني لإصدار أوراتوريو «أسافر وحدي ملكاً» بصوت هبة طوجي (إنستغرام)

يُجمع نجوم مسرح منصور الرحباني على أنّ الحظ كان حليفهم؛ يوم اصطفاهم «الأستاذ» كي يلعبوا الأدوار الأولى في مسرحياته. يتفقون كذلك على أنّ الرجل وازَنَ ما بين العبقريّة والبساطة، فاحترف الإنسانية والفن على السواء.

«سيف البحر» ورحلة العقدَين

هو «سيف البحر» في «صيف 840»، وأبو الطيّب المتنبي في «المتنبّي»، ويسوع المسيح في «وقام في اليوم الثالث»، والمعتمد بن عبّاد في «ملوك الطوائف»، والنبي في «جبران والنبي». تلك بعض الشخصيات التي أدّاها الفنان غسان صليبا على مسرح منصور الرحباني.

يذكره خلال التحضيرات لـ«صيف 840»، وهو يردّد: «نصف منصور رحل مع عاصي، ونصف عاصي بقي مع منصور». كانت تلك المرة الأولى التي يغرّد فيها منصور وحيداً على المسرح بعد رحيل توأم روحه وفنّه عاصي الرحباني.

منصور الرحباني وغسان صليبا خلال التحضيرات لـمسرحية «الوصية» عام 1993 (أرشيف غدي الرحباني)

منذ «صيف 840» (1987) وحتى «عودة الفينيق» (2008)، لم يترجّل صليبا عن خشبة منصور. ملأ الشاب مكانه غناءً وتمثيلاً فمنحه الرحباني الثقة، هو الآتي بعد عقودٍ كانت فيها السيدة فيروز النجمة الأولى والبطلة الأنثى الوحيدة على مسرح الأخوين. يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «عبور عقدَين بجوار منصور الرحباني شكّل فرصة ثمينة ومسؤولية كبيرة».

يذكره جالساً في الكواليس خلال أمسيات العروض الأولى، يترقّب قلِقاً ردّة فعل الجمهور؛ فـ«منصور الرحباني كان حريصاً على الكمال وعلى ألّا تشوب أعماله أي شائبة»، وفق صليبا. يسترجعه كذلك متوسطاً مقاعد المسرح، حاملاً دفتراً يدوّن عليه ملاحظاته خلال التمارين. يضيف: «حتى عندما تقدّم في السنّ وغلبه التعب، لم يتساهل منصور الرحباني يوماً وحافظ على الجدّيّة ذاتها في العمل».

منصور الرحباني متوسطاً فريق عمل مسرحية «أبو الطيب المتنبّي».. (أرشيف غدي الرحباني)

مقابل تلك الجدّيّة و«الهالة الكبيرة»، اتّسمت شخصية الرحباني بالفكاهة والبساطة. يعود صليبا بالذاكرة إلى جلسات كثيرة جمعتهما، تحدّثا خلالها عن مواضيع شتّى، لكنّ الغالب كان دائماً هاجسه بالعدالة الإنسانية. يشتاق الفنان اللبناني إلى تلك الجلسات، وإلى ولائم العصافير التي كان يرافقه فيها إلى دمشق. يفتقد كذلك الوقوف بطلاً على مسرحه؛ فيستعيض عن الأمر في حفلاته الخاصة، باستعادة أغانيه التي «عرفت كيف تجمع بين الملحميّة والإحساس المرهف».

غسان صليبا بشخصية المعتمد بن عبّاد في مسرحية «ملوك الطوائف» (فيسبوك)

سقراط و«المعلّم»

يحلو لرفيق علي أحمد أن يسمّي منصور الرحباني «المعلّم»، مستلهماً مسرحية «آخر أيام سقراط» حيث كان تلاميذ الفيلسوف اليوناني ينادونه: «يا معلّم». بالنسبة له، منصور هو «المعلّم» قولاً وفعلاً؛ إذ استقى منه الكثير من حرفة الكتابة المسرحية. أما على المستوى الإنساني، فتعلّم منه «التسامح وترك السجالات والتوترات المرافقة للعمل خلف الستارة ليكنسَها الكنّاسون».

عام 1998، وجد منصور الرحباني في رفيق علي أحمد الملامح التي رسمها لشخصية سقراط. كانت تلك المرة الأولى التي ينضمّ فيها الفنان المخضرم إلى المشروع الرحبانيّ. «لم أكن أحلم بالوقوف على هذا المسرح في يوم من الأيام، لكن الحلم تحقق فلكِ أن تتصوّري السعادة التي قد تصيب ممثلاً إذا نال هذا الحظ»، يقول علي أحمد لـ«الشرق الأوسط».

رفيق علي أحمد وكارول سماحة في مسرحية «آخر أيام سقراط» (فيسبوك)

كما حفرَ سقراط في ذاكرة علي أحمد، كذلك فعلَ «منصور الذي حوّلَ المعاني الفلسفية العميقة إلى كلمة طيّبة ومطواعة، تصل إلى قلوب الناس عبر آذانهم». تأثّر به إلى درجة أنه استوحى منه خصائص شخصية «سعدون الراعي» في مسرحية «حكم الرعيان»، فرجع بالذاكرة حينها إلى دور «بشير المعّاز» الذي أدّاه منصور الرحباني في فيلم «بنت الحارس» عام 1967.

علي أحمد الذي نال هو الآخر ثقة الرحباني، عاد وحلّ بطلاً على مسرحيتَي «جبران والنبي» و«دون كيشوت». وما بين مسرحية وأخرى كانت تتوطّد العلاقة بين الرجلَين؛ حيث اكتشف التلميذ في «المعلّم إنساناً مكتمل الخبرة، لم يُفقده العمق الإنساني شيئا من ظُرفه»، ولا من طفولته التي كانت ترجع في كل مرة يختلس فيها قطعة شوكولاته رغم تعليمات الطبيب الصارمة.

كلّما عادت الذكرى السنوية، أضاء رفيق علي أحمد شمعة لروح منصور الرحباني وناجاه قائلاً: «كان الله راضياً عنك، فحتى اللحظة الأخيرة من حياتك بقيت جالساً بوَعي وإدراك إلى مكتبك، تعمل وتؤلّف».

منصور الرحباني جالساً إلى مكتبه أحد أحبّ الأماكن إلى قلبه (أرشيف غدي الرحباني)

هبة... آخر العنقود

«يا بنت تعي تغدّي». كانت تلك العبارة الأولى التي توجّهَ بها منصور الرحباني إلى آخر عنقود نجمات مسرحه، هبة طوجي. تخبر «الشرق الأوسط» كيف ارتعدت رهبة عندما جلست قربه إلى المائدة في منزله في أنطلياس، يوم كانت في الـ19 من عمرها تتدرّب على باكورة ألبوماتها مع أسامة الرحباني.

«في مقابل الرهبة، شعرتُ فوراً بطيبته وتواضعه ورغبته في مشاركة الناس أبسط التفاصيل كطعام الغداء»، تتابع طوجي. حتى التعليقات العادية التي كانت تسمعها منه عن الحياة اليومية، أرادت الفنانة اللبنانية أن تطبعها في ذاكرتها: «كنت في حضرة الأستاذ الذي لم يحتَج إلى تكرار النصيحة كي أحفظها».

هبة طوجي وغسان صليبا في مسرحية «عودة الفينيق» (فيسبوك)

تلفت إلى أنه درّبها على ضبط إيقاع السرعة في القراءة والانفعالات في الأداء المسرحي. ومن دون أن يتعمّد ذلك علّمها السعي إلى الكمال؛ فخلال تمريناتها الغنائية مع أسامة على البيانو في بيته، كان يفصل بينهما بابٌ واحد، فيتراءى لها «الأستاذ»، وهو يسمعها من غرفة مكتبه؛ الأمر الذي حمّلها مسؤولية كبيرة.

شهِد منصور الرحباني على أولى خطوات هبة طوجي المسرحية، فجمعتهما «عودة الفينيق» في 2008، أي قبل وفاته بعامٍ واحد. تذكر كيف كان يحضر البروفات عندما تسنح صحتُه، وتلك اللحظة التي احتضنته فيها بعد العرض الأول. أما الذكرى التي تحتفظ بها كنزاً في قلبها، فذلك الاتصال الذي تلقّته منه ليهنّئها بأغنية «متل الريح»: «تجمّد بي الزمن عندما سمعته. أخذت شهادة منه مدى العمر».

منصور الرحباني في كواليس المسرح مع ابنه المخرج مروان (أرشيف غدي الرحباني)

اليوم، وبعد أن صار عمر الغياب 16 عاماً، ما زالت تلمس طوجي الفراغ الكبير الذي خلّفه «الأستاذ»: «لكن عملي مع أسامة يُشعرني وكأنه ما زال حاضراً». اليوم، وأكثر من أي وقت، يغوص الثنائي الفني في شعر منصور من خلال أوراتوريو «أسافر وحدي ملكاً»؛ بعد أن وقّع لها إهداءً على الديوان؛ ها إنّ هبة طوجي توقّع القصائد بصوتها في تحية إلى أستاذ العمر.


مقالات ذات صلة

هل سقط «يوم الثقافة» المصري في فخ «التكريمات غير المستحقة»؟

يوميات الشرق لقطة جماعية لبعض المكرمين (وزارة الثقافة المصرية)

هل سقط «يوم الثقافة» المصري في فخ «التكريمات غير المستحقة»؟

أثارت كثرة عدد المكرمين وبعض الأسماء تساؤلات حول مدى أحقية البعض في تكريم «يوم الثقافة» المصري.

انتصار دردير (القاهرة )
ثقافة وفنون هاني نديم

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري.

رشا أحمد ( القاهرة)
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
الوتر السادس أبناء منصور الرحباني يطلقون فعاليات مئوية والدهم (الشرق الأوسط)

أبناء منصور الرحباني يُطلقون مئويته ووزارة التربية تتعاون لترسيخ إرثه في المدارس

بحضور حشدٍ من الشخصيات الثقافية والفنية والإعلامية، أطلق أبناء منصور الرحباني برنامج مئويته من بيروت.

كريستين حبيب (بيروت)
خاص الفنان السوري دريد لحّام (فيسبوك)

خاص دريد لحّام لـ«الشرق الأوسط»: انقضت سنوات القهر وأنا لم أكن مع النظام بل ضد الفوضى

يتحدث الفنان السوري المخضرم دريد لحّام إلى «الشرق الأوسط» عن ارتياحه لنهاية نظام الرأي الأحادي في سوريا ويسترجع السنوات التي مُنعت فيها أعماله بسبب الرقابة.

كريستين حبيب (بيروت)

الأمير هاري وميغان ماركل يساعدان في إغاثة المتضررين من حرائق لوس أنجليس

الأمير هاري (يسار) وزوجته ميغان ماركل يتحدثان مع عمدة باسادينا فيكتور جوردو على اليمين (أ.ب)
الأمير هاري (يسار) وزوجته ميغان ماركل يتحدثان مع عمدة باسادينا فيكتور جوردو على اليمين (أ.ب)
TT

الأمير هاري وميغان ماركل يساعدان في إغاثة المتضررين من حرائق لوس أنجليس

الأمير هاري (يسار) وزوجته ميغان ماركل يتحدثان مع عمدة باسادينا فيكتور جوردو على اليمين (أ.ب)
الأمير هاري (يسار) وزوجته ميغان ماركل يتحدثان مع عمدة باسادينا فيكتور جوردو على اليمين (أ.ب)

قام دوق ودوقة ساسكس، أمس (الجمعة)، بزيارة مفاجئة إلى مركز توزيع الوجبات الذي تم إنشاؤه للأشخاص المتضررين من حرائق الغابات التي دمرت لوس أنجليس. وتم رصد الأمير هاري وميغان ماركل من قبل طاقم الأخبار المحلي لقناة «فوكس 11»، في مركز باسادينا للمؤتمرات، الذي تمت إعادة توظيفه كموقع إخلاء، وفق ما ذكرته شبكة «سي إن إن» الأميركية.

واتّسع نطاق الحرائق الكثيرة المستعرة في لوس أنجليس، منذ 5 أيام، التي أسفرت عن سقوط ما لا يقل عن 11 قتيلاً، أمس (السبت)، لتطول مناطق جديدة كانت بمنأى من النيران. وأتت هذه الحرائق على أجزاء كاملة من ثاني كبرى المدن الأميركية، مدمّرة أكثر من 12 ألف مبنى و15 ألف هكتار من الأراضي.

وقال الرئيس الأميركي جو بايدن خلال اجتماع في البيت الأبيض إن المشهد «أشبه بساحة حرب وعمليات قصف».

وتحدث هاري وميغان خلال الزيارة إلى مؤسس منظمة «المطبخ المركزي العالمي»، خوسيه أندريس، ومتطوعين من المنظمة، بالإضافة إلى المستجيبين الأوائل والضحايا. وقامت المنظمة، التي كانت شريكاً منذ فترة طويلة لمؤسسة «Archewell Foundation» الخيرية، التي أسسها الزوجان، بتوزيع وجبات مجانية على أطقم الطوارئ والأشخاص المتضررين من الحرائق الهائلة.

وشوهد الزوجان أيضاً، وهما يعانقان عمدة باسادينا، فيكتور جوردو، الذي وصف الزوجين لاحقاً لقناة «فوكس 11» بأنهما «شخصان عظيمان»، وأضاف: «لقد رفعا الروح المعنوية حقاً». وقال جوردو إن الزوجين كانا في المركز عندما قدّموا الطعام بهدوء ولم يتم التعرف عليهما لأنهما كانا يرتديان قناعين للوجه.

وأشار جوردو إلى أنهما «يريدان أن يكونا مساعدين قدر الإمكان، وأرادا حقاً أن يكونا داعمين». وأضاف: «لم يأتيا إلى هنا للدعاية»، بل «جاءا إلى هنا للعمل». وقال: «ذهبنا لزيارة بعض العائلات في المنطقة المتضررة، وشاهدنا بشكل مباشر بعض المناطق المتضررة، ثم أرادا زيارة المستجيبين الأوائل وشكرهم شخصياً على جهودهم لمساعدة عائلاتنا وجيراننا».

ميغان ماركل تتحدث مع عمدة باسادينا فيكتور جوردو (وسط) وأحد المتضررين من حرائق الغابات (أ.ب)

ويواجه الأمير البريطاني وزوجته خطر الاضطرار إلى مغادرة منزلهما الذي تبلغ قيمته 14 مليون دولار في مونتيسيتو بولاية كاليفورنيا؛ حيث يواجه دوق ودوقة ساسكس انقطاع التيار الكهربائي، والإخلاء في حالة انتشار حرائق الغابات.

وانتقل هاري وميغان إلى الولايات المتحدة في عام 2020؛ حيث استقرا منذ ذلك الحين في مونتيسيتو، على بُعد نحو 90 ميلاً من لوس أنجليس، مع طفليهما؛ الأمير آرتشي والأميرة ليليبيت. وتبرع الزوجان بالملابس ومستلزمات الأطفال وغيرها من الإمدادات الأساسية للمتضررين من الحرائق، كما فتحا أبواب منزلهما أمام الأصدقاء والأحباء الذين أُجبروا على الإخلاء.

ورغم أنه من المبكر جداً تقديم حصيلة دقيقة للخسائر المالية لحرائق الغابات في لوس أنجليس، فإن التقديرات تشير إلى أن الخسائر حتى الآن تجعل هذه الحرائق من أكثر الحرائق تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة.

وأشار تقدير أولي من شركة «أكيوويذر» إلى أن الأضرار والخسائر الاقتصادية حتى الآن تتراوح بين 135 مليار دولار و150 مليار دولار.