ليال نعمة لـ«الشرق الأوسط»: أغنية «الوطن» إعلان للحق في الحياة

تتساءل عن جدوى القصائد والألحان أمام المهبّ اللبناني

تكتب وتغنّي لتشعر بالحياة وإن تضاءلت وسط الجنائز (صور ليال نعمة)
تكتب وتغنّي لتشعر بالحياة وإن تضاءلت وسط الجنائز (صور ليال نعمة)
TT

ليال نعمة لـ«الشرق الأوسط»: أغنية «الوطن» إعلان للحق في الحياة

تكتب وتغنّي لتشعر بالحياة وإن تضاءلت وسط الجنائز (صور ليال نعمة)
تكتب وتغنّي لتشعر بالحياة وإن تضاءلت وسط الجنائز (صور ليال نعمة)

توصّف أغنية «الوطن»، بكلمات الفنانة اللبنانية ليال نعمة وصوتها، مزيج الألم والغضب. وإنْ كانا الطاغيَيْن على الكلمة والمشهدية والسياق الفنّي، فإنهما يُفسحان، مُرغَمين، بعض المساحة للأمل. تُطلق أغنيتها ولبنان يتضرّج بالنزف ويُكوى بالوحشية. تقول لـ«الشرق الأوسط» إنّ القدرة على المحاكاة هي دور الفنان مهما فرض واقعه التكبيل والإحباط. «ذلك من كوني إنسانة أيضاً. أكتب وأغنّي لأشعر بالحياة وإن تضاءلت وسط الجنائز. يبدّد الفنّ هذا التضاؤل».

يمرّ مشهد في كليب أخرجه شربل منصور يتساءل فيه الفنانون عن جدوى ما قدّموه إلى لبنان من رسم وشعر وأغنيات وأمل. يسطع تساؤلهم وإن لم يُسمَع بالتلفُّظ. يُختزل باهتزاز إرثهم تعبيراً على ضآلة جدواه، وبارتباك نتاجهم جرّاء تحوّله باهت الأثر في المحن. لِمَ هذا التصوُّر؟ أليس قاسياً بعض الشيء القول إنّ الفنانين خُدعوا؟ أو سُحروا بأرض باتت اليوم تحترق ولم تنفع أصواتهم أو قصائدهم في إخماد الحرائق؟ تجيب: «عبَّر تمزيق الصور عما قيل عن لبنان وتبيّن أنه تبعثر. الصور هي أيضاً الألحان التي جعلت من الأغنية أنشودة والألوان التي حوَّلت اللوحة إلى نداء. غضبُ الفنانين مردُّه ما لم يستطع الفنّ إنقاذه».

لكنّ ذلك لا يلغي الدور المطلوب من الفنان بوصفه إنساناً. تقول ليال نعمة: «جميعنا تأذّى. نمضي الوقت في متابعة الخبر العاجل وانتظار الآتي. نترقّب ولا نملك سلطة على ما سيحدث. نشعر كأنّ المصير تسرَّب من أيدينا. مع ذلك، نكتب ونغنّي. إقدام الفنان على الفعل مطلوب أيضاً. إن استطعنا رَفْع الصوت بالغناء، فذلك يوثّق».

تُطلق الأغنية لرغبتها في إعلان الحق بالحياة (صور ليال نعمة)

تتحدّث عن وجع الأمومة وانكسار الأبوة أمام صعوبة التحمُّل. فالأم تُشارك اللقمة القليلة مع العائلة الكبيرة، والأب تُصيبه لوعة تلك اللقمة وهو يتعثّر في تأمينها، ويرتبك في جعلها متاحة كما يشتهي: «تؤلمني الطفولة والكهولة. فألم التشرّد ومشهدية الخراب لا يليقان بختيار وختيارة على عتبة وداع العمر. أرى الإهانة في هذا الصنف من الامتحانات، خصوصاً لدى اشتداده. والأطفال يخافون فقط. لا يفقهون سبب الخوف، ولِمَ غادروا منازلهم وسُلبت منهم أسرَّتهم وألعابهم. في الفيديو كليب، قدّمتُ وشربل منصور واقعية انعدام مساحة اللهو وتقلّص احتمالات الفرح البريء، فإذا بالأولاد يتعلّقون على عمود كهربائي بوصفه المساحة الأخيرة المتبقّية للعب».

تسأل عن مدارسهم وقد تحوّلت سقوفاً تؤوي مَن غادر سقفه، وعن الملعب ولم يعد متّسعاً للاستراحة بين الحصص. وإن برز حضور الرابع من أغسطس (آب) 2020 بوصفه إحدى الذروات اللبنانية المفجعة، الذي لا مفرَّ من تحييده رغم تزاحُم الفواجع، فذلك للإشارة إلى تعذُّر التجاوُز وبَتْر العدالة. تقول ليال نعمة: «للحرب على لبنان أشكال، منها النهب الاقتصادي. ماذا نقول للناس؟ تبخّرت أموالكم وتفجّرت عاصمتكم، واليوم يحترق الوطن بالحرب، وقد جرى التخلّي عنكم. أطلق الأغنية لرغبتي في إعلان الحق بالحياة. هذا شعار اللبناني وسيبقى».

إقدام الفنان على العطاء مطلوب في الشدائد (صور ليال نعمة)

لحّنها وسيم ربيع حامل الجنسية الأميركية من أصول سورية، ووزّعها إلياس رشماوي الأميركي - الفلسطيني. «نحمل جميعاً دماء أوطان تتخبّط بالحروب والصراع. أردتُ الكلمات من صميم هذا التخبُّط الحائم حول أكثر من خريطة. وأرفقته بعتب مفاده: أين كل ما قلناه عن لبنان؟ أين الوطن الذي حلمنا به؟».

تؤدّي مشهدية النزوح في الكليب المُصوَّر، لتبدو، أسوة بأبناء أرضها، وسط الدمار. وتتراءى فُرُش النوم، وهي بديل الأسرَّة الدافئة، وإنْ لم تجلس عليها ليال نعمة بشخصية الباحثة عن النجاة: «كنتُ أماً ترتبك بكيفية التصرُّف وأولادها بخطر، وجميع الشخصيات اللبنانية المعذَّبة بالحرب. ومع ذلك، أفسحتُ طريقاً للأمل. ذكّرتُ بـ(بكرا إلنا)، بأمل أن يجمعنا علم الوطن فقط».

سؤال عن جدوى ما قدّمه الفنانون إلى لبنان من رسم وشعر وأمل (صور ليال نعمة)

ولمّا اغتيل المرفأ، لحّنت أغنية «بكرا إلنا» على وَقْع ذرف الدمع. وحين افترس الوباء، أكملت تكتُب وتغنّي مع عائلة مؤلّفة من فنانين، أكبرهم عبير نعمة بصوتها الوفي للبنان والإنسان. اليوم، تخرُق بالصلاة أصوات مذيعين ومذيعات ينقلون على مدار الساعة أهوال الاحتراق المتنقّل. «أصلّي فذلك هو الصوت الذي يعلو ويصل». تحرّضها الأيام الصعبة على العطاء الفنّي وتراه مطلوباً في الشدائد. ولم تعتد سواد الأنفاق مهما طالت، فتجترح الضوء الآتي: «هذه الحرب ليست عملية حسابية ليتوقع أحدٌ النهايات ويضبط التوقيت والمصير. وَضْع لبنان أولاً، وحده ما يُنقذ».


مقالات ذات صلة

نجومٌ في الصغر... ضحايا في الكبر

يوميات الشرق نجومٌ في الصغر... ضحايا في الكبر

نجومٌ في الصغر... ضحايا في الكبر

من مايكل جاكسون إلى ليام باين، مروراً بماثيو بيري وغيرهم من النجوم... خيطان جمعا ما بينهم؛ الشهرة المبكّرة والوفاة التراجيدية التي تسببت بها تلك الشهرة.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق ليلة في الرياض للاحتفاء بعبقري الألحان محمد عبد الوهاب (بنش مارك)

روائع محمد عبد الوهاب في ليلة خلَّدها «موسم الرياض»

أضفت أبرز الأسماء الطربية العربية، بأصواتها البديعة، لمسة خاصة على مساء الجمعة في الرياض، بإحيائها إرث عبقري الألحان وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق 
مع أبنائه محمد وأحمد وعائشة وعفت وعصمت (من أرشيف أسرة الفنان لـ«الشرق الأوسط»)

«موسيقار الأجيال»... جهود لترميم أفلامه وأغانيه

أبدت عفّت محمد عبد الوهاب، ابنة «موسيقار الأجيال»، امتنانها لتكريم والدها في «موسم الرياض»، عبر حفل خاص تُقيمه هيئة الترفيه السعودية.

داليا ماهر (القاهرة)
يوميات الشرق مع أبنائه محمد وأحمد وعائشة وعفت وعصمت (من أرشيف أسرة الفنان لـ«الشرق الأوسط»)

ابنة محمد عبد الوهاب لـ«الشرق الأوسط»: الأسرة تعمل على ترميم أفلامه وأغانيه

أبدت ابنة محمد عبد الوهاب امتنانها لتكريم والدها في «موسم الرياض» عبر حفل خاص تقيمه هيئة الترفيه السعودية «ليلة الطرب لروائع موسيقار الأجيال».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب (حسابها على منصة فيسبوك)

أرقام قياسية تقود شيرين عبد الوهاب لموسوعة «غينيس»

قادت أرقام قياسية الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب لدخول موسوعة «غينيس» العالمية للأرقام القياسية، بعد تصدرها القوائم الموسيقية الخاصة بالنسخة العربية.

داليا ماهر (القاهرة )

«يوميات القاهرة» تُلهم 5 تشكيليين مصريين لاكتشاف السعادة والمعاناة

«الحزن» لوحة للفنان فتحي علي (الشرق الأوسط)
«الحزن» لوحة للفنان فتحي علي (الشرق الأوسط)
TT

«يوميات القاهرة» تُلهم 5 تشكيليين مصريين لاكتشاف السعادة والمعاناة

«الحزن» لوحة للفنان فتحي علي (الشرق الأوسط)
«الحزن» لوحة للفنان فتحي علي (الشرق الأوسط)

يمكن للمشاهد، الذي لا يعرف تفاصيل القاهرة، أو لم تسبق له زيارتها من قبل، أن يسبر أغوارها، ويتزوّد بكثير عن زخمها الإنساني وثرائها الاجتماعي، من خلال تأمّل أعمال هذا المعرض الجماعي الذي يبوح ببعض أسرارها وحكاياتها، مستكشفاً جماليات الأحياء القديمة في المدينة.

يضمّ المعرض، المُقام بعنوان «30 في 30... يوميات المدينة» في غاليري «أرت كورنر» بحي الزمالك، نحو 150 لوحة لـ5 فنانين هم: رضا خليل، وفتحي علي، وحنان عبد الله، وإنجي محمود، ومحمد وهبة، فضلاً عن ضيف الشرف فريد فاضل.

«عامل البناء» للفنان فتحي علي (الشرق الأوسط)

ويستند المعرض إلى فكرة جديدة تقوم على تقديم كل فنان 30 لوحة تجسّد 30 موضوعاً مُتّفقاً عليها بشكل مُسبق بمقاس 30 في 30، على أن تسرد الأعمالُ يوميات القاهرة وناسها. ومن الموضوعات التي التزم بها الفنانون الحارة المصرية، والبيوت القديمة، والأبواب، والشُّرفات، وبائع الخبز، وعربة الفول، والمقهى، وعمال اليومية، والمراكب، والحزن، والاحتفال بالمناسبات السعيدة، والورشة، والمطعم، وغير ذلك.

رجال حوّلوا قفصاً لطاولة طعام صغيرة.. لوحة فتحي علي (الشرق الأوسط)

تعاطى الفنانون المشاركون، من خلال أعمالهم، مع حالات إنسانية موزعة ما بين الرضا والألم والسعادة والمعاناة والعمل والراحة، وكل ما يمتُّ إلى الحالات والمشاعر بصلة؛ فقد طغى تجسيد البشر على اللوحات.

وحتى عندما قام الفنانون برسم بعض تفاصيل المكان، أو احتفوا بالتّصميم الداخلي والطُّرز المعمارية، فقد جاء ذلك محمّلاً بروح الناس ورائحتهم، مسكوناً بأحاديثهم وحكاياتهم أيضاً؛ لذا فإن أحد الجوانب الأكثر لفتاً للانتباه في أعمال المعرض هي حشد الشخوص، وسيطرة روح الجماعة على الأجواء.

وكأن الفنانين تعمّدوا تأكيد أن ثَمّة روابط اجتماعية قوية لا تزال تجمع أهل القاهرة، وهو ما أسهم في نقل مشاعر الحميمية والتعاون والحنين، وزاد من ذلك أن خطوط اللوحات وحركاتها وألوانها تبثّ جملة من الأحاسيس الدافئة التي تستثير الذكريات واللحظات العاطفية لدى المتلقي، سيما ذلك الذي عاش طويلاً في الأحياء العتيقة والمدن العريقة، حتى لو لم تكن القاهرة أو المدينة التي يعنيها المعرض.

«الجميلة والعصافير» لوحة للفنان فتحي علي (الشرق الأوسط)

«تُجسّد الأعمال أحوال المدينة ويوميات ناسها، من خلال مشاهدات الفنان وذكرياته الشخصية، وبأسلوبه وأدواته الخاصة»، وفق تعبير الفنان فتحي علي، الذي يقول، لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لي، تركز لوحاتي الـ30 على ذكرياتي القديمة، فقد وُلدت في الستينات من القرن الماضي، وعشت حياة مليئة بالزخم الإنساني، ونشأت في حي قاهري عريق هو حي (الجمالية)، الذي أعشقه، وأقدّر عطاءه الحضاري اللامحدود للمدينة بأَسرها».

تُقاسم الأرجوحات الخشبية الطعام في حاوية مشتركة على أقفاص وُضعت بعناية على الرصيف، والجميلة التي تحاول لمس العصافير برقّة، وعامل البناء الذي يعمل في صمتٍ وإتقان سعياً وراء لقمة العيش، والسيدات اللاتي يتّشحن بالسواد في طريقهن للمقابر، والرجال المتوجهين للصلاة في المسجد، والأطفال الذين يلعبون الكرة في الشارع، ذلك كله بعض من مشاهدَ جسّدها علي في لوحاته، ناقلاً نبض الحي الذي يَعدّ طقوسه اليومية نفسها من أهم علامات مدينته.

«الحارة المصرية» لوحة للفنانة حنان عبد الله (الشرق الأوسط)

في لوحات الفنانة حنان عبد الله بالمعرض، نعيش لحظات «قاهرية» من الماضي والحاضر معاً، فمن خلال أعمالها كأننا نستمع بوضوح لرنّة الصاجات بإيقاعها الموسيقي تُجلجل في زحام شوارع القاهرة، ونَجري مع الصغار إلى الشرفة، أو نُسرع إلى مصدر الصوت، لنشاهد من أين تأتي هذه الرّنات التي تجعل الصغار يرقصون فرحاً.

المشاهد اليومية التي ترى الفنانة أن تجسيدها في لوحات صغيرة أدى إلى تكثيف الفكرة التي يتناولها الفنان في عمله، وقالت، لـ«الشرق الأوسط»: «وكأننا كنا نعمل (كروب) أو (زووم) على اليوميات التي نُعبّر عنها، ومن ثمّ ظهرت الفكرة واضحة، واللقطة صادقة».

لوحة «البيانولا» للفنان رضا خليل (الشرق الأوسط)

مشاهد قديمة في القاهرة من الماضي اختار الفنان رضا خليل أن يجسدها في بعض لوحاته بالمعرض، تثير شجن كثيرين ممّن يفتقدونها أو يَعدّونها جزءاً من طفولتهم في المدينة، وأمام لوحة «البيانولا» قال، لـ«الشرق الأوسط»: «كنت في الرابعة من العمر عندما وجدت إخوتي يتّجهون نحو الشرفة، ويصيحون (البيانولا)، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها (صندوق البيانولا)».

ويضيف خليل: «كان المشهد مدهشاً لطفلٍ صغيرٍ يرى رجلاً متواضع الحال يحمل صندوقاً خشبياً يُصدر ألحاناً مبهجة، تخرج عند إدارة ذراع في جانب الصندوق، ويجتمع الصغار والكبار، في حين يجمع مساعده قروشاً قليلة، لكن مع مرور السنوات وتغيّر الأحوال، اختفى الرجل وصندوقه، إلّا من قلوب قليلين، وأنا منهم».

«من يوميات سكان المدينة» للفنانة إنجي محمود (الشرق الأوسط)

أما الفنانة إنجي محمود فتتناول الازدحام في الشوارع و المواصلات وأماكن العمل، وأبرزت فكرة قوة التواصل وقِصر المسافات بين البشر في العاصمة المصرية، مستخدمة الأحبار الملوّنة. وكعادته، عبّر الفنان محمد وهبة عن الواقع من خلال الإسكتشات وفن «الكوميكس»، بلغةٍ فنية بسيطة وجاذبة للمتلقّي، في حين تنقّلت ريشة طبيب العيون، الفنان فريد فاضل، في لوحاته بين روعة المكان والإنسان في القاهرة، بمشاهد مُفعمة بالمشاعر الدافئة والرّصد الجمالي.