أصداء الزمن... القصص الكامنة في قلب الصحراء تمد جسورها للواقع

معرض لفنانتين سعودية وألمانية بمناسبة الاحتفال بالذكرى العشرين لحفريات معهد الآثار الألماني في السعودية

المفارقة بين الظاهر والمخفي في عمل لدانية الصالح من المعرض (الفنانة)
المفارقة بين الظاهر والمخفي في عمل لدانية الصالح من المعرض (الفنانة)
TT

أصداء الزمن... القصص الكامنة في قلب الصحراء تمد جسورها للواقع

المفارقة بين الظاهر والمخفي في عمل لدانية الصالح من المعرض (الفنانة)
المفارقة بين الظاهر والمخفي في عمل لدانية الصالح من المعرض (الفنانة)

أن تقوم بمصاحبة بعثة أثرية في عمليات التنقيب أمر يتطلب الالتزام بجدول دقيق يستلزم الاستيقاظ المبكر، والعمل لساعات طويلة، ومراقبة تفاصيل العمل اليومي التي قد تكون رتيبة وخالية من الدهشة. هذا ما عاصرته الفنانتان دانية الصالح من السعودية، وسوزان كريمان من ألمانيا، إذ قامتا بمرافقة البعثة الألمانية في رحلة عمل بمدينة تيماء السعودية. ثم قُدّمت نتائج تلك التجربة في معرض فني تحت عنوان «أصداء الزمن»، من تنسيق سلمى الخالدي، أقيم بالتعاون مع السفارة الألمانية ومعهد «جوته» في الرياض، والمعهد الأثري الألماني في برلين، بمناسبة الاحتفال بالذكرى العشرين لحفريات معهد الآثار الألماني في السعودية. فكرة العرض عميقة، وتدعو للتفكير في التاريخ القديم وتقاطعه مع الحاضر، فهو من ناحية يقدم لنا جانباً مهماً من الاستكشافات الأثرية في تيماء، والعلا، ومحاولات لفك طلاسم طبقات من التاريخ القديم، ومن ناحية أخرى يقدم لنا نظرة فنية معاصرة تدعو المشاهدين إلى إعادة تصور المناظر الطبيعية الصحراوية ليس فقط بوصفها آثاراً، ولكن بوصفها مساحة يتقاطع فيها التاريخ والحاضر.

من أعمال الفنانة دانية الصالح في معرض «أصداء الزمن» (الفنانة)

العقيق والذاكرة الجماعية

بالنسبة إلى الفنانة دانية الصالح كان الأمر مختلفاً عن طريقة عملها بالذكاء الاصطناعي وتركيبات الفيديو، تقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «وجدت أنه يرتبط بممارستي الفنية التي تدور حول التكييف الاجتماعي والذاكرة والوسائط، وكيف تؤثر الوسائط فينا، وعلى ذاكرتنا، وعلى الثقافة بطريقة تترجم لتفاصيل في حياتنا اليومية».

من العناصر التي شكلت ملامح التجربة لدانية الصالح كانت رؤية كميات كبيرة من شذرات العقيق في أماكن الحفر، وقررت توظيفها في أعمالها. جاء الاختيار للعقيق الأحمر بوصفه شيئاً كان يستخدم في الحياة اليومية لمن سكنوا هذه المواقع قديماً، ويوجد بشكل متكرر في المناطق الأثرية القديمة. اتخذت منه الفنانة مدخلاً وعنصراً تنسج من خلاله رؤيتها الفنية، تنظر إليه بوصفه «أكثر من مجرد حجر كريم أو قطعة زخرفية»، وربما كان شيئاً قد لا نضعه في الاعتبار اليوم، ولا نركز عليه. لكن كانت له استخداماته ورمزيته. «أنا مهتمة جداً بالأشياء اليومية التي نأخذها على محمل الجد، والأشياء التي نعدها أمراً مفروغاً منه».

وتستطرد قائلة: «بالنسبة إليَّ كان ذلك أمراً مثيراً، ولكن بسؤال العلماء حولي، قيل لي إن جميع المواقع الأثرية التي عملوا بها كانت بها آثار للعقيق. حتى في المقابر التي عثر عليها في منطقة تيماء ومنطقة رجوم صعصع التي يعود تاريخها لنحو 5 آلاف عام».

من هنا قررت الفنانة استخدام الحجر الكريم في تكوين أعمالها المعروضة، «اشتريت بعض أحجار العقيق من الهند، وقمت بطحنها للحصول على بودرة يمكنني خلطها مع الألوان للرسم».

العقيق ودوره الربط بين الماضي والحاضر في عمل لدانية الصالح في معرض «أصداء الزمن» (الفنانة)

في الأعمال التي عرضتها دانية الصالح، نرى أولاً عدة مناظر من المناطق التي زارتها، لجبل ولصحراء ولعربة قديمة مهملة، وهي في أصلها صور فوتوغرافية التقطتها دانية الصالح خلال فترة الإقامة مع البعثة الألمانية في تيماء. حولت الصور إلى لوحات مركّبة، تقدم من خلالها الثنائية الدائمة بين الظاهر والمخفي، بين ما تراه أعيننا فوق الأرض وما تخفيه تحتها. هنا استخدمت الفنانة أسلوباً ميز أعمالاً سابقة لها، مثال لذلك لوحة بعنوان «اخْتبِئَ، وابحث»، تمثل منظراً لمدينة تيماء في الخلفية، وضعت فوقه تصميماً يشبه تصميم «المشربيات» بتقاطعاتها الخشبية والفجوات التي يمكننا من خلالها رؤية الخلفية، نراها أحياناً، وتختفي خلف التصميم أحياناً أخرى، الرؤية مزدوجة هنا.

«الأعمال هنا تعكس ما تقوم به البعثة الأثرية، ففي كل عملية تنقيب يحفرون للعثور على قطع من بازل (أحجية) قديمة في محاولة لحل ألغاز الماضي، يعثرون على بعض القطع، وتستعصي عليهم قطع أخرى. من جانبي أحاول أن أقلد تلك العملية، الحفر والاكتشاف ثم التساؤل».

«لوحة الألوان الحجرية» من أعمال الفنانة دانية الصالح في معرض «أصداء الزمن» (الفنانة)

لوحة ثانية تبدو في تصميمها مثل سجادة عليها تصوير لجرار فخارية، بالنظر إلى العمل نجد أنه أيضاً يعتمد على أكثر من طبقة، الأساس كولاج لأكثر من صورة فوتوغرافية عليها أشكال مفرغة لثلاث جرات.

وأوضحت دانية الصالح: «يكتشف الخبراء الكثير من الجرار في هذه المواقع، بعضها سليم وبعضها متكسر. اللوحة عبارة عن كولاج من الصور والأشكال المختلفة. استخدمت في تلوينها ألواناً ممزوجة ببودرة أحجار العقيق وأحجار اللازورد. ما هو الفرق بين القطع القديمة التي تختفي تحت طبقات الأرض وما يتركه الإنسان في الحاضر خلفه؟».

نرى رؤية لهذا في عمل آخر تصور فيه دانية الصالح سيارة بيك أب مهملة «بدت لي بمكانة تذكار من السبعينات، مهملة على الأرض التي تحوي الألغاز الغامضة في بطنها. تشبه قطع العقيق المتكسرة التي تركها القدماء». في أعمالها نرى أشكالاً لعقود من العقيق، حبات منتظمة في أشكال عقود وأساور وغيرها، تفسر بأسلوبها الفني كيف تتغير قيمة ورمزية شيء كان يستخدم قبل آلاف السنين ليصبح مجرد شيء كمالي أو عنصر تجميلي لتذكارات سياحية، «يفقد الرمز معناه بمرور السنين، قد لا نعرف أبداً رمزية هذا الشيء في الماضي السحيق، كل ما نستطيع فعله هو التساؤل والتخمين».

سوزان كريمان مع المنسقة سلمى الخالدي والفنانة دانية الصالح (دانيا الصالح)

سوزان كريمان... آثار ومخلفات

تتشابه بعض اللقطات الفوتوغرافية التي التقطتها سوزان كريمان ودانية الصالح. قضت الفنانتان فترة أسبوعين في الأماكن نفسها، وراودتهما أسئلة كثيرة متشابهة، لكن الفرق في المعرض هو رؤية وفلسفة كل فنانة، وطريقة تصويرها للمشاهد. تصف سوزان تأثير قضاء فترة في تيماء برفقة البعثة الألمانية، وتتحدث عن الاستيقاظ في الصباح الباكر، والذهاب للعمل في الصحراء، وتأثير مشاهدة شروق الشمس على الطبيعة «يشبه الانتقال من الظلام إلى النور، وهو شيء أجده مثيراً للاهتمام، غالباً ما أفكر في ذلك من ناحية ما يمكن رؤيته وما لا يمكن رؤيته مع أنه موجود».

«جلد على الرمال» للفنانة سوزان كريمان من معرض «أصداء الزمن» (الفنانة)

يتباين عمل سوزان كريمان «الجلد على الرمال» بين القطع الأثرية القديمة والنفايات الحديثة الموجودة في المواقع الأثرية في تيماء. باستخدام المطبوعات الفوتوغرافية التي تدمج النتائج الأثرية مع البلاستيك الدقيق، يسلط عملها الضوء على التأثير البيئي للتلوث البلاستيكي في المناظر الطبيعية الصحراوية، مما يقدم رؤية معقدة للقضايا البيئية الحالية.

تقول في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «عثرت على سترة مدفونة في الرمال استخدمتها موضوعاً لعدد من الأعمال، ولكن السترة ليست قديمة بل حديثه، قد يكون عمرها ثلاث أو خمس سنوات، ولكنها كانت في الرمال التي ترك آثارها عليها، وحولتها لشيء آخر لدرجة أنها قد تبدو منظراً طبيعياً». يختصر البيان الصحافي المعرض بعبارة معبرة «بينما تتعمق سوزان كريمان ودانية الصالح في النسيج الغني لهذه المناظر الطبيعية التاريخية، فإنهما ينفخان حياة جديدة في البقايا، وتقومان بنسج روايات تربط العمق التاريخي للصحراء بالتعبير المعاصر، وتكشفان عن أصداء الزمن».


مقالات ذات صلة

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

يوميات الشرق جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

لا شيء يمنع الفنان الموهوب ألفريد طرزي، وهو يركّب «النشيد» المُهدى إلى عائلته، من أن يستخدم ما يراه مناسباً، من تركة الأهل، ليشيّد لذكراهم هذا العمل الفني.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
المشرق العربي الضربات الجوية الإسرائيلية لامست آثار قلعة بعلبك تسببت في تهديم أحد حيطانها الخارجية وفي الصورة المعبد الروماني
(إ.ب.أ)

«اليونيسكو» تحذر إسرائيل من استهداف آثار لبنان

أثمرت الجهود اللبنانية والتعبئة الدولية في دفع منظمة اليونيسكو إلى تحذير إسرائيل من تهديد الآثار اللبنانية.

ميشال أبونجم (باريس)
يوميات الشرق هضبة الأهرامات في الجيزة (هيئة تنشيط السياحة المصرية)

غضب مصري متصاعد بسبب فيديو «التكسير» بهرم خوفو

نفي رسمي للمساس بأحجار الهرم الأثرية، عقب تداول مقطع فيديو ظهر خلاله أحد العمال يبدو كأنه يقوم بتكسير أجزاء من أحجار الهرم الأكبر «خوفو».

محمد عجم (القاهرة )
المشرق العربي الضربات الجوية الإسرائيلية لامست آثار قلعة بعلبك تسببت في تهديم أحد حيطانها الخارجية وفي الصورة المعبد الروماني
(إ.ب.أ)

اجتماع طارئ في «اليونيسكو» لحماية آثار لبنان من هجمات إسرائيل

اجتماع طارئ في «اليونيسكو» للنظر في توفير الحماية للآثار اللبنانية المهددة بسبب الهجمات الإسرائيلية.

ميشال أبونجم (باريس)

عمرو سعد: أعود للشاشة بفيلم «الغربان»... وأحل ضيفاً على «الست»

عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)
عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)
TT

عمرو سعد: أعود للشاشة بفيلم «الغربان»... وأحل ضيفاً على «الست»

عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)
عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)

قال الفنان المصري عمرو سعد إن غيابه عن السينما في السنوات الأخيرة جاء لحرصه على تقديم أعمال قوية بإمكانات مادية وفنية مناسبة، وأكد أنه يعود للسينما بأحدث أفلامه «الغربان» الذي قام بتصويره على مدى 4 سنوات بميزانية تقدر بنصف مليار جنيه (الدولار يساوي 49.73 جنيه)، وأن الفيلم تجري حالياً ترجمته إلى 12 لغة لعرضه عالمياً.

وأضاف سعد خلال جلسة حوارية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، الخميس، أنه يظهر ضيف شرف لأول مرة من خلال فيلم «الست» الذي يروي سيرة سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وتقوم ببطولته منى زكي وإخراج مروان حامد، ومن إنتاج صندوق «بيج تايم» السعودي و«الشركة المتحدة» و«سينرجي» و«فيلم سكوير».

وعرض سعد لقطات من فيلم «الغربان» الذي يترقب عرضه خلال 2025، وتدور أحداثه في إطار من الحركة والتشويق فترة أربعينات القرن الماضي أثناء معركة «العلمين» خلال الحرب العالمية الثانية، ويضم الفيلم عدداً كبيراً من الممثلين من بينهم، مي عمر، وماجد المصري، وأسماء أبو اليزيد، وهو من تأليف وإخراج ياسين حسن الذي يخوض من خلاله تجربته الطويلة الأولى، وقد عدّه سعد مخرجاً عالمياً يمتلك موهبة كبيرة، والفيلم من إنتاج سيف عريبي.

وتطرق سعد إلى ظهوره ضيف شرف لأول مرة في فيلم «الست» أمام منى زكي، موضحاً: «تحمست كثيراً بعدما عرض علي المخرج مروان حامد ذلك، فأنا أتشرف بالعمل معه حتى لو كان مشهداً واحداً، وأجسد شخصية الرئيس جمال عبد الناصر، ووجدت السيناريو الذي كتبه الروائي أحمد مراد شديد التميز، وأتمنى التوفيق للفنانة منى زكي والنجاح للفيلم».

وتطرق الناقد رامي عبد الرازق الذي أدار الحوار إلى بدايات عمرو سعد، وقال الأخير إن أسرته اعتادت اصطحابه للسينما لمشاهدة الأفلام، فتعلق بها منذ طفولته، مضيفاً: «مشوار البدايات لم يكن سهلاً، وقد خضت رحلة مريرة حتى أحقق حلمي، لكنني لا أريد أن أسرد تفاصيلها حتى لا يبكي الحضور، كما لا أرغب في الحديث عن نفسي، وإنما قد أكون مُلهماً لشباب في خطواتهم الأولى».

عمرو سعد في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (إدارة المهرجان)

وأرجع سعد نجاحه إلي «الإصرار والثقة»، ضارباً المثل بزملاء له بالمسرح الجامعي كانوا يفوقونه موهبة، لكن لم يكملوا مشوارهم بالتمثيل لعدم وجود هذا الإصرار لديهم، ناصحاً شباب الممثلين بالتمسك والإصرار على ما يطمحون إليه بشرط التسلح بالموهبة والثقافة، مشيراً إلى أنه كان يحضر جلسات كبار الأدباء والمثقفين، ومن بينهم الأديب العالمي نجيب محفوظ، كما استفاد من تجارب كبار الفنانين.

وعاد سعد ليؤكد أنه لم يراوده الشك في قدرته على تحقيق أحلامه حسبما يروي: «كنت كثيراً ما أتطلع لأفيشات الأفلام بـ(سينما كايرو)، وأنا أمر من أمامها، وأتصور نفسي متصدراً أحد الملصقات، والمثير أن أول ملصق حمل صورتي كان على هذه السينما».

ولفت الفنان المصري خلال حديثه إلى «أهمية مساندة صناعة السينما، وتخفيض رسوم التصوير في الشوارع والأماكن الأثرية؛ لأنها تمثل ترويجا مهماً وغير مباشر لمصر»، مؤكداً أن الفنان المصري يمثل قوة خشنة وليست ناعمة لقوة تأثيره، وأن مصر تضم قامات فنية كبيرة لا تقل عن المواهب العالمية، وقد أسهمت بفنونها وثقافتها على مدى أجيال في نشر اللهجة المصرية.

وبدأ عمرو سعد (47) عاماً مسيرته الفنية خلال فترة التسعينات عبر دور صغير بفيلم «الآخر» للمخرج يوسف شاهين، ثم فيلم «المدينة» ليسري نصر الله، وقدمه خالد يوسف في أفلام عدة، بدءاً من «خيانة مشروعة» و«حين ميسرة» و«دكان شحاتة» وصولاً إلى «كارما»، وقد حقق نجاحاً كبيراً في فيلم «مولانا» للمخرج مجدي أحمد علي، وترشح الفيلم لتمثيل مصر في منافسات الأوسكار 2018، كما لعب بطولة عدد كبير من المسلسلات التلفزيونية من بينها «يونس ولد فضة»، و«ملوك الجدعنة»، و«الأجهر»، بينما يستعد لتصوير مسلسل «سيد الناس» أمام إلهام شاهين وريم مصطفى الذي سيُعْرَض خلال الموسم الرمضاني المقبل.