رحيل الشاعر شوقي أبي شقرا... صائغ الغرائبيات الطفولية

بقي يذكّر بأنه أول من كتب قصيدة النثر وابتكر مصطلحها

من اليمين... أدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج ويوسف الخال
من اليمين... أدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج ويوسف الخال
TT

رحيل الشاعر شوقي أبي شقرا... صائغ الغرائبيات الطفولية

من اليمين... أدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج ويوسف الخال
من اليمين... أدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج ويوسف الخال

شاعر رائد، مترجم، صحافي، صائغ نصوص... تعدّدت المهمات، وبقي شوقي أبي شقرا، الذي غادرنا عن عمر 89 سنة، أستاذاً لكثيرين. رحلته المهنية العصامية بقسوتها، جعلت منه سنداً للمبتدئين والطموحين، ومعيناً لانطلاقتهم الأولى، وهؤلاء لا يزالون يتذكّرون حنوّه. شاعر سوريالي بامتياز، عُرف بتراكيبه الفريدة، وعشقه للّعب بالصور، وكأنها «بازل» (Puzzle) في يد طفل لا يملّ التجريب. بقي كذلك حتى سنواته الأخيرة، يؤلّف وينشر، ويتابع، في محاولة للقبض على ما بقي من زمن.

وُلد أبي شقرا في بيروت، لكنه بقي ابن القرية التي عاش فيها طفولته، يعود إليها في شهور الصيف. هي بمفرداتها، وطبيعتها، وحيواناتها لم تغادره قَطّ.

نشأ في رشميا ومزرعة الشوف، بسبب عمل والده دركياً في المنطقة، قبل أن يفقده طفلاً إثر حادث سير، وسيعيش من يومها في يُتمٍ مزمن، وكأنه لسرعة ما كبر لا يريد إلا أن يعود إلى ذلك الزمن المفقود. وفي شعره المليء بالبحث عن غرائبية الصور ما يشي بذلك.

تحدّث دون حرج عن نفسه «المقهورة في الطفولة»، وانتقال العائلة إلى بيروت، بعد موت الوالد، وجلافة حياته في المدرسة الداخلية دون حنان أو رحمة، هو وأخوه الصغير، كأنه غادر فردوساً لن يعود إليه مرة أخرى: «والدنا كان عنده شفقة كيانية علينا، كما كلّ أب محب. كان يريد لنا أن ننتقل من رشميا وتتحسّن حياتنا. هذا كله افتقدناه. ثم القهر مع احتكاكي بالعالم حين بدأت العمل ودخلت عالم الصحافة».

في عام 1965 ترك «مدرسة الحكمة»، عمل أستاذاً، وبقي قلقاً على أيامه ومستقبله، وما بمقدوره أن يفعل. هو الذي بدأ تجاربه الشعرية باكراً، كاتباً تحت وطأة الحزن والضياع. يقول: «رأيت أن الشعر هو ملاذي، وفي قبضة يدي».

محاولاته الشعرية الأولى كانت بالفرنسية. جرّب القصيدة العمودية، التي طلّقها بعد ذلك طلاقاً بائناً، قبل أن يكتب على التفعيلة، ويرسو على قصيدة النثر، التي يُعدّ رائدها، نافياً أن يكون أنسي الحاج هو الأول في المجال.

قال أبي شقرا في مقابلة مع ناشره سليمان بختي قبيل وفاته: «كنت أول من كتب قصيدة النثر، وأول من أطلق المصطلح. في 28 نيسان (أبريل) 1959 نشرت أربع قصائد في جريدة (النهار) تحت عنوان (رب البيت الصغير)، وقلت في مطلع القصيدة: (القهوة على الأرض ما الصراخ ورب البيت يحزو... من أوحى للزوار أن يأتوا عنده للمحة لسهرة؟ القهوة ثمينة ومعاشه خفيف كمفكرة لا يقوى أن يخدم ويرحب والستائر لا تغطي الشمس والفقر)».

هو أحد مؤسسي «حلقة الثريا» الأدبية عام 1957، مع جورج غانم، وإدمون رزق، وميشال نعمة، والمشاركين بندواتها ومحاضراتها ونقاشاتها. ثم التحق بمجلة «شعر»، منذ انطلاقتها الأولى مع يوسف الخال. هناك التقى بدر شاكر السيّاب، وجبرا إبراهيم جبرا، ونازك الملائكة، وأدونيس، وآخرين. كانت لمساته حين كان مدير تحرير للمجلة تمرّ على القصائد، في شيء من المبالغة في التعديل، وهو ما أسماه «تنظيفاً للقصيدة»، ما كان يستفزّ أدونيس. لكن أبي شقرا اعتبر أنه كان يؤدي مهمته بصفته حارساً للمجلة، ومرشدها الجمالي والشعري والأدبي. ويتباهى بدوره: «كلهم عبروا مع حبر قلمي».

على أهمية مرحلة مجلة «شعر»، جاء دخول شوقي أبي شقرا إلى جريدة «النهار» آتياً من جريدة «الزمان»، حاملاً مهاراته في التحرير، محطة مفصلية في حياته، حيث سيصبح التنظيف صياغة حقيقة، أو قل ما يشبه إعادة كتابة. ويروي في مذكراته التي اعتبرها «شهادة للتاريخ»، أنه هو الذي أوجد الصفحة الثقافية في جريدة «النهار»، بصيغتها المنتظمة، وجعلها صفحة عصرية، أدخل عليها المسرح والرسم ومقالات النقد السينمائي التي كان يكتبها بالفرنسية سمير نصري، ويترجمها له إلى العربية.

في «النهار» التقى بكثير من الشعراء والأدباء المعروفين الذين كانوا يتردّدون على الجريدة، وهناك استقبل الشبان اليانعين الراغبين في الكتابة، فنشر لهم وصحّح، وصار بعضهم نجوماً. من بين هؤلاء سعدي يوسف الذي نشر قصيدة له على صفحات «النهار» يوم كان عمره 18 عاماً.

الإحساس بالقهر، عند أبي شقرا، كان قرين إحساسه بالظلم. شعور عزّزه مساره الشاق في عالم الأدب، وفي مهنة الصحافة الثقافية، التي بدت له عاقة في النهاية. عمل دائماً بشغف وكدّ، واجداً في ذلك تعويضاً عن شعوره القديم بالفَقد الذي لم يغادره. مساره برمته، كان نوعاً من التّحدي، وكأنه لم يتوقف عن مصارعة المتاعب التي لازمته في طفولته القاسية. وجد في الأدب، وتدجين التراكيب، ومراوغة القارئ وإدهاشه بما لم يكن ينتظر من المفردات، نوعاً من الانتقام الشعري ممن خذلوه، أو انتزعوا منه سمة الريادة ظلماً، وهو لم يتوقف يوماً عن التذكير، والمطالبة بها.

ترجم قصائد عن الفرنسية لشعراء كبار مثل: رامبو، ولوتريامون، وريفردي، انتهج فيها طريقته في التنظيف والصياغة التي اتبعها في تحرير القصائد العربية. وأصدر العديد من هذه الترجمات في كتاب صدر عن «دار نلسن». وهي الدار التي أصدرت مذكراته، وديواناً جديداً له بعد 16 عاماً من الغياب الشعري حمل عنوان «عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى»، كما أعادت إصدار ديوان قديم له كان قد نشره في النصف الأول من القرن الفائت، بعنوان «سنجاب يقع من البرج». ومن دواوينه الأولى «أكياس الفقراء»، ومن ثم «خطوات الملك» تضمنا قصائد «التفعيلة»، وله أيضاً «تتساقط الثمار والطيور»، و«ليس الورقة»، و«ماء إلى الحصان والعائلة». وحالياً، تتحضّر «دار نلسن» لإصدار كتاب له، يضمّ بين دفتيه نصوص أبي شقرا التي كتبها بمناسبة وفاة كبار الكتّاب الذين رافقت كلماته رحيلهم.

ويرى ناشره سليمان بختي في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «أبي شقرا خسارة لا تعوّض. شاعر منفتح على مختلف التجارب، عنده إيمان عميق بالحرية. بقي حتى النهاية فضولياً، مهتماً بالاطلاع على التجارب الشابة في الشعر، ومراقبة التحولات. حتى في ثمانيناته كان يفاجئنا بالطريقة التي يفكر بها، وبصياغاته اللغوية المفاجئة، وكأنما قصيدته عناقيد متناسلة من الصور، كل صورة تأخذك إلى الأخرى، لتصبح هي لبّ القصيدة وجوهرها». ويتحدث بختي عن قاموس شعري خاص بأبي شقرا، مستلهم من الطبيعة واللاهوت، والجغرافيا اللبنانية والطفولة. ويلفت كذلك إلى دور أبي شقرا في التحرير لكبار الكتّاب: «فهو الذي حرّر ديوان بدر شاكر السيّاب الشهير (أنشودة المطر) يوم صدر عن (دار شعر)، وروى لنا أنه حذف ربعه، بموافقة السيّاب نفسه، قبل أن يبصر النور».

مضى صاحب «صلاة الاشتياق» بعد أن اجتاز «رحلة غنائية، وجودية، جمالية» كما يقول ناشره، ولم يتخلَّ يوماً عن قلقه، ومراجعة نصوصه بدقة، والحرص على ابتكار عناوين شائقة تحفظ للنصوص ألقها ورهافتها.

ويلخص أبي شقرا في سطرين سرّ مهارته الطفولية في صياغة الغرائبي حتى وهو يقترب من تسعينه، حين يقول: «يهمني التركيب قبل الموضوع. الكيفية في اللعب على الشكل قبل المضمون. وعندما أقول حركة الشكل، فهذا يعني مضموناً آخر. كل الفنون في النهاية تطمح إلى الشعر. طموح كل كتابة أن تصل إلى النفحة الشعرية. واللذّة دائماً شعرية. ولا يمكن أن تشفى طعنة الشعر إلا بالغفران».


مقالات ذات صلة

«حزب الفيروزيين»... هكذا شرعت بيروت ودمشق أبوابها لصوت فيروز

خاص فيروز في الإذاعة اللبنانية عام 1952 (أرشيف محمود الزيباوي)

«حزب الفيروزيين»... هكذا شرعت بيروت ودمشق أبوابها لصوت فيروز

في الحلقة الثالثة والأخيرة، نلقي الضوء على نشوء «حزب الفيروزيين» في لبنان وسوريا، وكيف تحول صوت فيروز إلى ظاهرة فنية غير مسبوقة وعشق يصل إلى حد الهوَس أحياناً.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز تتحدّث إلى إنعام الصغير في محطة الشرق الأدنى نهاية 1951 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز... من فتاةٍ خجولة وابنة عامل مطبعة إلى نجمة الإذاعة اللبنانية

فيما يأتي الحلقة الثانية من أضوائنا على المرحلة الأولى من صعود فيروز الفني، لمناسبة الاحتفال بعامها التسعين.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز في التسعين... يوم ميلاد لا تذكر تاريخه

عشية عيدها الـ90 تلقي «الشرق الأوسط» بعض الأضواء غير المعروفة على تلك الصبية الخجولة والمجهولة التي كانت تدعى نهاد وديع حداد قبل أن يعرفها الناس باسم فيروز.

محمود الزيباوي (بيروت)
يوميات الشرق تمتدّ احتفاليّة منصة «أنغامي» الموسيقية بعيد ميلاد فيروز أسبوعاً كاملاً (أنغامي)

عمرٌ من ذهب... «أنغامي» تحتفي بفيروز

فيروز مكرّمةً على منصة «أنغامي» من خلال الإضاءة على محطات أساسية في مسيرتها الفنية، وأغنيات نادرة التداول.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق مهرجانات بعلبك حدثٌ فني عمرُه 7 عقود احترف النهوض بعد كل كبوة (صفحة المهرجانات على «إنستغرام»)

من ليالي أم كلثوم إلى شموع فيروز... ذكريات مواسم المجد تضيء ظلمة بعلبك

عشيّة جلسة الأونيسكو الخاصة بحماية المواقع الأثرية اللبنانية من النيران الإسرائيلية، تتحدث رئيسة مهرجانات بعلبك عن السنوات الذهبية لحدثٍ يضيء القلعة منذ 7 عقود.

كريستين حبيب (بيروت)

للبيع... تذكرة لدخول مسرح بريستول تعود إلى عام 1766

نادرة جداً (مواقع التواصل)
نادرة جداً (مواقع التواصل)
TT

للبيع... تذكرة لدخول مسرح بريستول تعود إلى عام 1766

نادرة جداً (مواقع التواصل)
نادرة جداً (مواقع التواصل)

من المتوقَّع أن تُحقّق ما وُصفَت بأنها «قطعة حقيقية من تاريخ بريستول» آلاف الجنيهات منذ عرضها للبيع في مزاد ببريطانيا.

تعود تذكرة دخول العروض المسرحية إلى عام 1766، وتُعدّ واحدة من 50 تذكرة أُهديت في الأصل للمساهمين الأوائل في مسرح «بريستول أولد فيك»، الذين ساعدوا في تمويل بنائه بين عامَي 1764 و1766.

وسمحت هذه التذكرة «النادرة جداً» لمالكها بحضور عدد غير محدود من العروض، وتُعرَض في بريستول، ضمن دار مزادات «أوكتشنيوم».

في هذا السياق، نقلت «بي بي سي» عن القائم على المزاد، أندرو ستو، قوله: «من المعروف أنّ 20 من هذه التذاكر الفضّية لا تزال موجودة. بين حين وآخر، تُكتَشف تذكرة جديدة؛ وهذه واحدة من تلك المُكتَشفة حديثاً». وقدّر القائمون على المزاد سعر البيع بما بين 5 آلاف و10 آلاف جنيه إسترليني للتذكرة الواحدة. وكانت تذكرة أخرى قد بيعت بمبلغ 9200 جنيه إسترليني في دار مزادات في ويلتشير العام الماضي. آنذاك، قال مسرح «بريستول أولد فيك» إنها ربما لا تزال صالحة لمالكها الجديد. يقول النقش عليها: «يحقّ لمالك هذه التذكرة حضور جميع العروض المسرحية في هذا المسرح». أما جانبها الآخر، فيتابع: «مسرح شارع كينغ، بريستول، 30 مايو (أيار) 1766».

التذكرة رقم 31 كانت ملكاً للمساهم دانيال هارسون، ولكن بحلول عام 1816 أصبحت في حيازة مساهم آخر يُدعى جون بالمر.

تُظهر السجلات من عام 1925 انتقالها إلى «إيه إيه ليفي-لانغفيلد»، وبقيت بحوزة عائلته حتى اشتراها مالكها الحالي عام 2009.