يقتصر حضور الموسيقى في الألعاب الأولمبية بنسختها المعاصرة على حفلَي الافتتاح والختام، واللذين يستقطبان عشرات الملايين من المشاهدين من حول العالم. لكن في زمنٍ مضى، شكّلت الموسيقى، ومعها فنونٌ أخرى، جزءاً أساسياً من المباريات. فما بين دورتيْ ستوكهولم 1912 ولندن 1948، كانت المنافسات الفنية تسير بالتوازي مع المنافسات الرياضيّة.
رسم، نحت، موسيقى وغيرها
كان الفنانون يتقدمون إلى مباريات الألعاب الأولمبية، من خلال 5 فئات هي: الهندسة، والأدب، والرسم، والنحت، والموسيقى. أما الشرط الوحيد لتقديم أعمالهم إلى المنافسة، فكان وجوب ارتباطها بالموضوعات الرياضية. فالمهندسون، على سبيل المثال، كان يُطلَب منهم تنفيذ مجسّمات لمدن أو ملاعب رياضية. أما النحّاتون فكان بإمكانهم ابتكار منحوتات لرياضيين، أو حتى ميداليات، بينما كانت الأعمال الموسيقية المتنافسة تركّز على الأناشيد الحماسية والسيمفونيات التي تعكس روح الانتصار.
وكما في الرياضة، كذلك في الفنون، كانت تتولّى لجانٌ من الحكّام المحترفين تقييم الأعمال من لوحات، ومنحوتات، ورسوم، وأغان، ومقطوعات موسيقية، وغيرها. وعلى غرار الرياضيين الفائزين، كان يُكافأ الفنانون بالميداليات الذهبية، والفضية، والبرونزية. أما إذا وجد الحُكّام أن الأعمال غير مستحقّة، فكانوا يحجبون عنها الميداليات، الأمر الذي ليس من الممكن فعله في المباريات الرياضية.
هذا ما حصل في المباراة الموسيقية ضمن أولمبياد 1912، عندما اقتصرت الميداليات على ذهبية واحدة فاز بها المؤلّف الإيطالي ريكاردو بارتيليمي عن معزوفة «مارش الانتصار الأولمبي». أما في دورة 1932، والتي أقيمت في الولايات المتحدة الأميركية، فلم تُمنح أي ميدالية ذهبية أو برونزية عن فئة الموسيقى، وقد اقتصر الأمر على فضّية واحدة كانت من نصيب المؤلّف التشيكي جوزيف سوك عن معزوفته التي حملت عنوان «صوب حياة جديدة».
مَن أطلق التقليد؟
بعد انقضاء 1500 عام على انتهاء النسخة اليونانية من الألعاب الأولمبية، اتُّخذ القرار بإعادة إحياء تلك الألعاب، لكن بنُسخة عصرية. حدث ذلك عام 1896، وكانت للبارون الأرستقراطي الفرنسي بيير ده كوبرتان اليد الطولى في إطلاق الألعاب الأولمبية بنسختها الحديثة.
إلى جانب كونه شخصية مؤثّرة في المجتمع الأوروبي، كان كوبرتان مؤرّخاً ومدرّساً. وانطلاقاً من اهتماماته الثقافية، أصرّ على الحفاظ على البُعد الفني للألعاب الأولمبية؛ وذلك انطلاقاً من التقليد الذي كان سبق أن أرساه اليونانيون القدامى، والذي قضى بأن تُشكّل الفنون جزءاً لا يتجزّأ من الحدث الرياضيّ.
في تلك الآونة، واجه كوبرتان اعتراضاتٍ حادّة من قِبل زملائه في اللجنة التنظيمية، لكنّه أصرّ على موقفه. وفي الألعاب الأولمبية الصيفية، التي أقيمت في العاصمة السويديّة ستوكهولم عام 1912، رأى حُلمه يتحقق أخيراً بعد 16 عاماً من المحاولات الحثيثة. انضمّ الفنانون إلى المُتبارين الرياضيين، وجرى تقديم 33 عملاً فنياً آنذاك تنافست عن 5 فئات.
أبرز الإنجازات الفنية الأولمبية
ما بين عاميْ 1912 و1948، أيْ على مدى 10 دورات من الألعاب الأولمبية التي توزّعت بين أوروبا والولايات المتحدة واليابان، جرى توزيع 151 ميدالية عن فئات الموسيقى، والرسم، والأدب، والنحت، والهندسة.
وفي إطار المباريات الأدبيّة، كان يتقدّم الكتّاب المتنافسون بنصوصٍ مسرحيّة دراميّة، وملحميّة، وشعريّة باللغات التي يريدون. أما الموسيقى فكان من الممكن أن تكون أوركستراليّة، أو غنائيّة، ذات أداء منفرد أو جماعي. وتأكيداً لجدّيّة اللجنة الأولمبية في التعاطي مع الأمر، استقدمت أسماء بارزة من عالم الفنون للمشاركة في لجان التحكيم. ففي دورة 1924، على سبيل المثال، والتي أقيمت في فرنسا، كان المؤلّف الموسيقي الروسي المرموق إيغور سترافينسكي من بين الحكّام.
أما على ضفّة أبرز الفائزين عبر تلك السنوات، فقد تميّز الرسّام جان جاكوبي حائزاً في عامَيْ 1924 و1928 على ميداليتَين عن لوحتَين متعلّقتَين بالرياضة. ومن بين نجوم الألعاب الأولمبية الفنية، الكاتب الدنماركي جوزيف بيترسن، الذي فاز في كل من دورات 1924، و1932، و1948.
موروثاتٌ إغريقيّة
بالعودة إلى التقليد الذي أطلقه الإغريق في ألعابهم الأولمبية التاريخية، كانت المنافسات الفنية جزءاً لا يتجزأ من الألعاب اليونانية بنسختها القديمة، وكانت توازي في أهميتها المباريات الرياضية. أما أبرز المنافسات فكانت مباراة العزف على البوق. إلى جانب ذلك، برزت مباريات العزف على القيثارة، والتي غالباً ما كانت تترافق مع الغناء.
لاحقاً، أضيفت منافَساتٌ أخرى كنَظم الشعر وكتابة النثر، إلى جانب مباريات التمثيل عن فئتَي التراجيديا والكوميديا.
لماذا توارت الفنون من الأولمبياد؟
لم تعمّر المنافسات الفنية ضمن الألعاب الأولمبية طويلاً، فبعد دورة عام 1948 توارت إلى غير رجعة. ووفق المراقبين، الذين تابعوا الأمر على مرّ تلك السنوات، فإنّ السبب الأول يعود إلى عدم رغبة الأسماء الفنية الكبيرة؛ من موسيقيين ومغنّين ورسّامين وكتّاب، في المشاركة بالألعاب الأولمبية. لم يجد معظمهم من المنطقيّ المشاركة في منافسةٍ ذات هويّة غريبة عن عالم الفنون، كما كانت لديهم خشية من أن تتشوّه صورتهم بسبب احتمالات الخسارة الأولمبية.
لكن الفنون في الألعاب الأولمبية عموماً لم تختفِ بشكلٍ نهائيّ. فإضافةً إلى حفلات الافتتاح والختام، والتي ترتكز على الموسيقى والرقص، فقد جرى استبدال المعارض بالمباريات الفنية، وذلك بدءاً من دورة عام 1952، كما تتولّى «لجنة الإرث الثقافي الأولمبي» التسويق للأنشطة الفنية والثقافية المتصلة بالألعاب الأولمبية.
وإذا خرجت الفنون من إطار المنافسة الرسمية، فإنّ دورات الأولمبياد الحاليّة لا تخلو من المسابقات الفنية التي تدور على هامش الاحتفالية الرياضية. لكن في تلك الحالات، لا يُتوّج الفائزون بميداليات، بل يحصلون على مكافآت ماليّة، وعلى فرصة عرض أعمالهم، في إطار الحدث الرياضي العالمي.