«اعترافات الحرب اللبنانية» كي لا يقع الجيل الجديد في الأخطاء نفسها

حضر جمهور غفير من مختلف الفئات الاجتماعية اللبنانية إلى قاعة سينما «رويال» في برج حمود، في بيروت. فالإعلان عن العرض الوثائقي لـ«اعترافات الحرب اللبنانية» أغراهم وجذبهم. وتألف الحضور من جيل شبابي وآخر شهد فصول الحرب الأهلية في لبنان. أما مضمون الفيلم فهو كناية عن شهادات لمقاتلين سابقين. والهدف منه إيصال رسالة مفادها أن جراح الحروب لا تندمل. وكي لا يقع الجيل الجديد في براثنها تقدم 12 محارباً قديماً بشهاداتهم الحية. تحدثوا خلال 40 دقيقة عما مروا به في حرب أهلية شاركوا فيها. وأكدوا أن ما يجمعهم اليوم هو الشعور بالذنب والندم والمعاناة.

ويحمل اللبنانيون في 13 أبريل (نيسان) من كل عام ذكرى حرب دامية تسكن قلوبهم. وأصر صنّاع الفيلم على عرضه في 13 أبريل، انطلاقاً من هذه الذكرى. فالحرب الأهلية في لبنان بدأت في هذا التاريخ من عام 1975، ويأتي العرض في ذكرى مرور نحو 50 عاماً على اندلاعها. وبحضور منتجي الفيلم دنيز جبور وجيروم غاري انطلق العرض. وحضر أيضاً 12 من المقاتلين القدامى الذين كانوا سابقاً أعداء، وتفرجوا على الفيلم بانتباه والدموع تملأ عيونهم. فهم خاضوا تجربة دموية تمنوا لو أنها لم تطبع حياتهم، فتكلفتها عليهم عاطفياً ونفسياً كانت ضخمة. ومشاركتهم في الفيلم كانت بمثابة علاج يسهم في شفائهم من آثار الحرب عليهم، وشكل ذلك أسلوباً غير مباشر لطلب المغفرة.

وأوضح أصحاب الشهادات في الفيلم أنهم سعوا من خلاله إلى التوعية بفظاعة الحروب، ومما قالوه: «لقد قاتلنا جميعاً وشاركنا في الحرب إيماناً منا بأننا نحارب في سبيل قضية. ولكن تبين لنا أن ما قمنا به في الواقع هو تدمير لبلدنا».

وقد تم تأجيل عرض «اعترافات الحرب اللبنانية» أكثر من مرة. وفي هذا الشأن توضح المنتجة دنيز جبور لـ«الشرق الأوسط»: «لقد صادفتنا ظروف عدة أجبرتنا على تأجيل عرضه. أولها أحداث 7 أكتوبر في غزة؛ إذ كنا ننوي عرضه في 13 منه. ونقيم له احتفالاً كي نعطيه حيزاً إعلامياً يليق به. وفي المرة الثانية أي منذ أشهر قليلة، كانت الأوضاع في لبنان لا تسمح لنا بذلك. واليوم نعرضه ضمن حفل ضيق أقمناه للصحافة اللبنانية. فلم نرغب بتفويت الفرصة هذه المرة، فـ13 أبريل ذكرى تحفر في ذاكرة اللبنانيين أجمعين. ونظمنا العرض اليوم في مكان متواضع (سينما رويال) من أجل تكريم كل من شارك في صناعة هذا الوثائقي. فقد استغرق منا نحو 12 عاماً من العمل المتواصل لإنجازه».

وتخبر جبور في سياق حديثها بأن فريق العمل جهد لإيجاد أبطال للفيلم من مقاتلين سابقين. فالأمر كان يتطلب جرأة من قبلهم للاعتراف بالذنب، وكذلك ليقدم اعتذاره من شعب عانى الأمرّين. وتتابع: «كان من الضروري أن يرووا لنا تجاربهم كما هي. فلا يختبئون وراء أخبار مفبركة لا صلة لها في الواقع، فيقتطعون منها الحقيقة ضمن رقابة ذاتية يمارسونها على أنفسهم. الوثائقي غالباً ما يرسم طريقه بنفسه فيأخذ صنّاعه إلى أشخاص وأماكن لا ترد أصلاً في خطته الأساسية».

ويذكر أن مشاهدي الفيلم جلسوا في مقاعدهم يتابعون مجريات الفيلم بتأثر كبير. استرجعوا معه شريط ذكريات قاسياً يصور فظاعة حرب عاشوها. واستعان صنّاعه بأرشيف غني حصلوا عليه من مصادر مختلفة. «بحثنا عند وكالات أنباء عالمية ومحلية تحتفظ بمشاهد الحرب اللبنانية. وهذا الأمر استغرق منا وقتاً طويلاً لتنظيم المواد ووضعها في خدمة العمل».

وعما إذا هناك خطة مستقبلية من أجل تصوير جزء ثان من «اعترافات الحرب اللبنانية» ترد جبور: «لدينا فائض في المادة من مقابلات وحوارات وصور. لا نعرف إذا ما سنقدم على هذه الخطوة في المستقبل. فكل ما رغبنا به في فيلم مدته 40 دقيقة، هو التركيز على محتوى شامل ومختصر في آن».

ويعود إخراج الفيلم إلى شون طومسون، بالتعاون مع المنتج المنفذ ديفيد ماكيلوب. وسجل محتوى يتألف من نحو 200 ساعة من المقابلات. وجميعها جرت مع من خاضوا الحرب وقاتلوا فيها. وقد حضرت غالبيتهم عرض الفيلم. تحدثت المقاتلة السابقة كوليت طنوس عن تجربتها في حرب تتمنى ألا تتكرر. ووضعت الإصبع على الجرح عندما طلبت من الحضور بألا ينجرفوا إليها مهما كلفهم الأمر. وتوجهت إليهم بالقول: «أنتم من يستطيع رفض الانصياع لإرادة زعماء الحرب. وقرار التمسك بالسلم يجب أن ينبع من أنفسكم. فالحروب ليست مسلية أبداً بل هي مدمرة وصعبة جداً».

ومن المقاتلين القدامى إيلي أبي طايع، وبدري أبو دياب، وعلي أبو دهن، وراتب الجيباوي، وزياد صعب وغيرهم... قدموا نموذجاً حياً عن الفئات المتصارعة في حقبة الحرب. ورأى أحدهم أنه أياً كانت أهمية القضية التي قد تدفعكم إلى القتال، لا تنجروا إلى الحرب. فهي ليست الحل ولن تؤدي سوى إلى الموت والدمار».

وأجمع المقاتلون القدامى خلال حفل عرض الفيلم على أن أحداً لم يضع نهاية صريحة وواضحة للحرب اللبنانية. فلم يتم التحدث عنها علناً، ولا تم شرح أسبابها الخارجة عن إرادة اللبنانيين. «لم تجر مصالحة حقيقية بين أطراف النزاع. ونحاول اليوم أن نلفت نظركم إلى أمور كثيرة. وبينها إقرارنا باقتراف الأخطاء ولنعتذر عن خطواتنا تلك. ومع أننا بذلك لن نعيد ضحايا الحرب إلى الحياة. ولن نستطيع إعادة بناء وطن كما نشتهي. ولكننا نأمل في استحداث قاعدة لحوار صادق لعرض مختلف وجهات النظر».

ومن المشاهد المؤثرة في الفيلم تلك التي تحدث فيها أحد المقاتلين عن مصير مجهول عاشوه. «لقد كنا نأخذ قياسات بعضنا البعض وندوّنها. فتكون بمثابة وسيلة تسرّع في حفر قبورنا في حال قتلنا.

وكان هذا الأمر مفيداً، ومرات أخرى كانت القياسات تفرق معنا على بضع سنتيمترات». فيما روى آخر طبيعة آثار الحرب على تصرفاته. «لقد صرت إنساناً مدمناً لشرب الكحول. وهو ما دفعني إلى القيام بأفعال شنيعة وبينها الاغتصاب. وسجنت لسنوات قبل أن أخرج من وراء القضبان شخصاً مدمراً».

وينتهي الفيلم على مشهدية تبرز آثار حرب على من خاضها تتمثل بالضياع. «ما قمنا به لا يمكن تبريره. لقد شعرت عند انتهاء الحرب بأن الهدف الذي جرّنا إلى القتال كان مجرد وهم، وصار وراء الغيوم».

يوميات - وثائقي «اعترافات الحرب اللبنانية».